زيارة البابا.. بين الديني والسياسي

صحيفة الشرق القطرية
لكن الذي حدث هو أن البابا حوّل كل زيارته إلى سياسية وإلى تغسيل الاحتلال وإلى محاولة تحسين صورته وكسر العزلة عنه بعد مجزرة غزة وبعد انتخاب حكومة متطرفة تتنكر لعملية التسوية والتزامات الحكومات السابقة.. البابا جانبه الصواب وتخلى عنه المنطق عندما خطّأ آباءه وأجداده بإعلانه المصالحة التاريخية مع اليهود وهم المتهمون بإراقة دم المسيح عليه السلام، والمتهمون بأنهم حرّفوا النصرانية من خلال القسيس شاؤول اليهودي الذي دخل المسيحية ليشوّهها ويوثّنها، والمتهمون من النصارى بتحريض الرومان عليهم وعلى دينهم، لقد اشتط البابا كثيراً عندما استحضر ذكريات محرقة اليهود المشكوك فيها كماً وكيفاً وزماناً ووجوداً ونسي محرقة الفلسطينيين المشهودة والثابتة كماً وكيفاً وزماناً ووجوداً.. وجانبه الصواب وتخلت عنه القداسة عندما جالس مجرمي صبرا وشاتيلا وقانا وجنين وغزة وعندما قام بزيارة أسرة الجندي الصهيوني المجرم جلعاد شاليط الذي أسر وهو يفرض على غزة الجوع والقتل.. لقد أثبت البابا من حيث يدري أو لا يدري أن ولاءه لليهود ليس مجرد ولاء تاريخي أو نبوئي قديم ولا كدين سماوي بل ولاء للصهيونية العنصرية الحالية ولسياساتها الممقوتة.. العجيب أن كل ذلك قام به قبل أن يزور كنيسة المهد أو القيامة أو الناصرة ودون محاذرة من مصادمة عقيدته الدينية وقناعات رعاياه الذين يفترضون أنه يمثل القيم المطلقة والعصمة القداسية ولا يرونه سياسياً أو داعية كراهية..
واضح أن البابا يقوم بزيارة سياسية من الطراز الأول وإلا فالوقت ليس وقت حج نصراني ولا إسلامي ولا يهودي والكلام الذي قاله لا يمت لكنيسة ولا لمسجد ولا حتى لعبّاد الوثن.. وواضح أنها خطوات يقوم بها في هذا التوقيت لفك عزلة حكومة نتانياهو – ليبرمان المتطرفة التي ترفض مشروع التسوية ومقررات الرباعية الدولية وترفض قرارات مجلس الأمن بل وتعادي الأمم المتحدة مما يجعلها في المفترض تنال ما تناله حماس وما ترزح تحته غزة من الإحواج والقهر والحصار والعزل والتوبيخ ثم القتل والتوتير فالحجة ذاتها والطائلة نفسها.. صحيح أن من زعمائنا من فعل نفس ما يفعله البابا واستقبل نتانياهو وبن أليعازر الذي قتل الأسرى المصريين ولكن هؤلاء لا يطرحون أنفسهم علينا كمعصومين مقدسين مثاليين.. وهؤلاء قلة وشذوذ على القيم الدينية والوطنية ولهم مثيل في كل الأمم والأزمان من الضعفاء والمخترقين ولولا أنهم يتبوأون فينا اليوم مناصب استجلبوا إليها ما التفت إليهم وإلى ما يقولون أحد.. فهل يقبل البابا أن يكون منهم أو مثيلهم أو أن يستشهد بفعالهم ويقتدي بتشوهاتهم؟ ولمن لا يعلم فالبابا لدى النصارى ليس كالشيخ العالم عند المسلمين فهو عندهم وكذا حاخامات اليهود لدى اليهود معصومون ويتكلمون باسم الرب.
فهل كان البابا مضطراً لكل هذا التملق؟ ألم يكن ممكناً بل واجباً عليه أن ينصف المظلوم وأن يدين الظالم على الأقل فيما لا يختلف عليه اثنان.. (الاحتلال واستخدام قنابل الفسفور الأبيض واليورانيوم المنضب وقصف مقرات الأمم المتحدة واستهداف الأطفال والمستشفيات والمساجد والكنائس) ؟ ألم يكن ممكناً أن يدعو للسلم على هذا الأساس من غير مسايرة للعدوان أو مدافعة عن دولة الاحتلال غير الراشدة التي ما جلبت إلا الشر وما رأسمالها إلا الكراهية والإرهاب؟ ألم يكن ممكناً أن يقصر زيارته فعلياً على الجانب الديني الطقوسي كما أعلن وألا يعرّض نفسه ومكانته لكل هذه الإدانة والإحراج؟ ألم يكن ممكناً أن يقول للطرفين اسمحوا لي فمنطقتكم تعج بالمتناقضات وأنا أنزه مكاني ومكانتي عن أي توظيف سياسي وعن أي تباعد أو تقارب يفسد عليّ خشوعي؟ وفي أسوأ الممكنات ألم يكن ممكناً أن ينتصر للنصارى الذين اختلط دمهم بدم إخوانهم المسلمين ومواطنيهم الفلسطينيين؟ ألم يكن ممكناً في أسوأ الأحوال أن يساوي بين الجلاد والضحية كما يفعل سياسيون آخرون ممن يحاولون الظهور بالموضوعية ويبدون شيئاً من احترام القيم لأهداف إعلامية ترويجية؟
العجيب أن البابا وهو يكسر أهم أسس التقارب والحوار والعدالة والكرامة الإنسانية وينساق وراء قناعات مبتسرة وعواطف مؤدلجة يدعو في الآن نفسه لحوار الأديان ولا أدري على أي أسس سيقوم هذا الحوار إن كان بالفعل يقصد ما يدعو إليه! والعجيب أن البابا يطمع في علاقة تصالحية مع يهود هذا الزمان مع أنهم يكرهون ويستعلون على الشعوب (بعربها وعجمها وسودها وبيضها بما فيها من مسلمين ونصارى وطوائف) أكثر مما كان عليه يهود زمان عيسى عليه السلام الذي لم يسلم من مكرهم وكيدهم.. السؤال الافتراضي هو: لو أن عيسى عليه السلام بيننا اليوم هل كان سيقبل ما قال البابا وما فعله وما تزلفه لليهود الأشرار القتلة وهو يحمل لواء العدل والتسامح والتضامن الاجتماعي وإيثار القيم الروحية؟
الفاتيكان أعلنها زيارة دينية والأرجح أنه كان يريد تحضير ذريعة لحين الاحتياج ووفق الظروف.. بمعنى أن الفاتيكان وضع احتمال أن يعجز البابا عن تمرير الرسائل والمواقف السياسية التي جاء لأجلها فيدفع بهذه الذريعة غضب اليهود؛ أو توقع أن تقع عليه ضغوط فلسطينية حقيقية لحمله على إدانة جرائم الاحتلال وهو لا يريد ذلك فيرد بهذه الذريعة غضب الفلسطينيين.. ولكن المتوقع لم يحدث فالبابا استطاع أن يمرر رسائله وتملقاته والفلسطينيون لم يعترضوا على شيء من ذلك فتحولت الزيارة إلى ممارسة سياسية وعلى المكشوف.. هنا يأتي الكلام عن الفواصل والحدود بين المبادئ والانتهازيات وبين الأخلاق والقيم الدينية المطلقة التي يفترض أن البابا يؤمن بها وتحكمه وبين التلاعب بالكلمات والجنوح إلى الفذلكات واللف والدوران التي لجأ إليها المتحدثون باسم البابا والمدافعون عنه، وهنا بالضبط ينكشف ضمور الفرق بين البابا وكل الزعماء السياسيين الذين أمّوا المنطقة لمؤازرة العدوان على غزة أثناءه وبعده!
آخر القول
[email protected]
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

العفو الدولية تطالب بخطوات جادة لوقف جرائم إسرائيل في غزة
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام دعت الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية أنييس كالامار، جميع الجهات الدولية الفاعلة، وفي مقدمتها الاتحاد...

كتائب القسام تعلن عن كمين مركب لقوة هندسة صهيونية شرق خانيونس
المركز الفلسطيني للإعلام أعلنت كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، الاثنين، تنفيذ كمين مركب لقوة هندسة صهيونية وإيقاع أفرادها بين قتيل وجريح...

حماس تُثمن حصار اليمن الجوي على دولة لاحتلال
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام ثمّنت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، إعلان القوات المسلحة اليمنية فرضها حصاراً جوياً شاملاً على كيان الاحتلال...

القوات المسلحة اليمنية تُعلن فرض حصار جوي شامل على إسرائيل
صنعاء – المركز الفلسطيني للإعلام أعلنت القوات المسلحة اليمنية، مساء اليوم الأحد، فرض حصار جوي على كيان الاحتلال الإسرائيلي، رداً على التصعيد...

حماس تثمن إعلان اليمن فرض حصار جوي على كيان الاحتلال
المركز الفلسطيني للإعلام ثمّنت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) إعلان القوات المسلحة اليمنية فرضها حصاراً جوياً شاملاً على العدو الصهيوني، رداً على...

منظمات أممية تعلن رفضها الخطة الإسرائيلية لتوزيع المساعدات بغزة
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام رفضت منظمات أممية وغير حكومية، المشاركة في الخطة التي يستعد الاحتلال الإسرائيلي لتنفيذها في قطاع غزة بخصوص توزيع...

الاتصالات تُحذر من انقطاع الخدمة جنوب ووسط قطاع غزة
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام أعلنت شركة الاتصالات الفلسطينية، مساء اليوم السبت، أنها ستُنفذ أعمال صيانة اضطرارية على أحد المسارات الرئيسية في قطاع...