إسرائيل بين العنصرية والديمقراطية!

صحيفة الاتحاد الإماراتية
مازال الاستثناء الإسرائيلي يضع عوائق في الطريق المؤدية إلى تحرير العالم من العنصرية. لقد قطع المجتمع الدولي مسافة لا يُستهان بها على هذه الطريق، بفضل نضال الشعوب التي عانت من التمييز العنصري بأشكاله المختلفة ودعم الأحرار من أبناء البلاد التي مارست حكوماتها هذا التمييز ضد شعوب أُخرى. لذلك أصبحت العنصرية وصمة عار تلحق من يُتهم بممارستها أو قبولها. ووفر بعض هيئات الأمم المتحدة ساحة للجهود المبذولة من أجل إنهاء ما بقي من عنصرية في كوكبنا الأرضي. وساهمت المؤتمرات الدولية ضد العنصرية، منذ عام 1978، في حشد جهود ظلت مشتتة لفترة طويلة. وكان المؤتمر الذي عُقد في جنيف قبل أيام، وشهد معركة حامية، هو الرابع في هذه المؤتمرات التي عُقد أولها في عام 1978، وثانيها في 1983 وثالثها في 2001.
ورغم الدور الكبير الذي لعبته هذه المؤتمرات في حشد النضال ضد العنصرية، فقد أظهرت مدى الأثر السلبي المترتب على دعم كثير من الدول الغربية ل”إسرائيل” بدون تمييز، إذ خلق هذا الانحياز الأعمى استثناءً خطيراً يضع “إسرائيل” فوق القانون الدولي ويعوق إكمال عملية تحرير العالم من العنصرية.
وما حدث في المؤتمر الأخير في جنيف، وفي الإعداد له، شاهد على ذلك. فقد حشدت دول غربية ومنظمات حقوقية دولية جهودها لتخفيف الانتقادات التي تعرضت لها “إسرائيل” في مؤتمر ديربان 2001. ولم يكن إطلاق اسم “ديربان 2” على مؤتمر جنيف إلا جزءاً من خطة استهدفت توجيه هذا المؤتمر باتجاه مراجعة أو نقض ما حققه مؤتمر ديربان 2001، الذي أعرب في المنتدى الرسمي عن شديد القلق على مصير الشعب الفلسطيني الذي يعيش تحت احتلال أجنبي، بينما تبنى منتدى المنظمات غير الحكومية الموازي له موقفاً حاسماً أدان الصهيونية بوصفها حركة عنصرية.
وهكذا جندت دول ديمقراطية ترفض العنصرية، أو تسدل الستار عليها نهائياً كما حدث في الانتخابات الأميركية الأخيرة، جهودها لمساندة “إسرائيل” التي تزداد عنصريتها على نحو يكاد يفَّرغ نظامها السياسي الديمقراطي من أي مضمون. فقد أصبحت هذه العنصرية أكثر حدة اليوم، في ظل إصرار غير مسبوق على إعادة تعريف “إسرائيل” باعتبارها دولة يهودية. كما كشف العدوان على قطاع غزة أن العنصرية الإسرائيلية صارت أعمق مما كان أكثر ناقديها يتصورونه. وكم كانت مبعوثة الأمم المتحدة إلى غزة “راديكا كومارا سوامي” حزينة حين تحدثت عن “تي شيرتات” ارتداها جنود شاركوا في العدوان تحمل رسوماً تحض على القتل وتسخر من موت الأطفال والنساء.
وأية عنصرية أبغض من أن تضع “إسرائيل” جندياً واحداً من جنودها في كفة، ومليون ونصف مليون فلسطيني في كفة مساوية، فتصر على حبسهم في القطاع إلى أن يُطلق سراحه!
ومع ذلك، فلندع هذه الممارسات جانباً لدى مناقشة الأميركيين والأوروبيين في موقفهم المساند لعنصرية بغيضة. فهم يظنون أن الممارسات الإسرائيلية المتهمة بالعنصرية إنما هي “دفاع عن النفس”، مبررين استخدام وسيلة عنصرية لا يصح لأي إنسان متحضر أن يوافق عليها. كما يجادلون بأن “إسرائيل” تظل دولة ديمقراطية في منطقة تمثل “استثناء” على هذا الصعيد. وبمنأى عن أي خلاف مع هذا الرأي، فكم من دول ديمقراطية كانت عنصرية. ولم ترسخ هذه الدول ديمقراطيتها إلا عندما اتجهت إلى التخلص من عنصريتها.
وإذا كان السعي إلى حل سلمي لقضية فلسطين يمثل أرضية مشتركة أخرى مع الأميركيين والأوروبيين، فليس صعباً أن نتفق على أن عنصرية “إسرائيل” التي تجُب ديمقراطيتها الآن هي أحد أهم عوامل إحباط الجهود المبذولة من أجل هذا الحل.
وليس موقف حكومة نتانياهو الآن إلا شاهداً جديداً على ذلك. ولا صحة للاعتقاد بأن هذا موقف جديد في ذاته. فالحاصل أن الثلاثي نتانياهو وليبرمان وباراك يحاول إعادة إنتاج موقف تحكمه مرجعية عنصرية، وليس طرح موقف جديد.
وربما يكون الفرق الأساسي هو أنه لم يعد أمام نتانياهو مجال متسع للمناورة، بخلاف ما كان متاحاً لرابين قبل 16 عاماً، ولا لباراك قبل عشر سنوات. فقد أُشبعت قضيتا فلسطين والجولان تفاوضاً إلى حد يصعب معه استهلاك الوقت في أمور فرعية وتفاصيل صغيرة. لم يعد ممكناً، على سبيل المثال، التفاوض مع الفلسطينيين على ترتيبات انتقالية، أو تفاصيل فرعية. فالمفاوضات التي أوقفت عشية الانتخابات الإسرائيلية والأميركية تناولت قضايا الوضع النهائي. ورغم أنها لم تحرز تقدماً جوهرياً، فمن الصعب العودة إلى ما قبلها. كما أن المحادثات غير المباشرة التي أجريت بين سوريا و”إسرائيل” العام الماضي أظهرت أن الاتفاق ليس بعيداً.
ولا يستطيع نتانياهو خوض مفاوضات تقود إلى اتفاق سريع مع سوريا، أو تدخل في عمق قضايا شديدة الحساسية وخصوصاً قضية القدس، وإلا انهارت حكومته التي تعتبر الأكثر تطرفاً في تاريخ “إسرائيل”.
لكن التفوق الذي حققته قوى اليمين في انتخابات “الكنيست” الأخيرة، لم يأت من فراغ. فقد ازداد التطرف في “إسرائيل”، واشتدت معه العنصرية، نتيجة نظامها السياسي ومرجعيته العقائدية. فقد أخذ هذا النظام شكلاً ديمقراطياً برَّاقاً، لكنه محكوم بمرجعية عنصرية فعلت فعلها عبر الزمن فتنامى أثرها إلى أن بلغ اليوم ذروة غير مسبوقة عبر إعلان تحويل “إسرائيل” إلى دولة يهودية نقية لا تتسع لأحد آخر.
لذلك فرغم أن الإسرائيليين جنوا ثماراً للتعدد السياسي والحزبي والتنافس الحر وتداول السلطة، فهم يحصدون الآن أشواك التطرف والعنصرية، وقد بلغوا مبلغاً يمثل خطراً على مستقبلهم، وليس فقط على الفلسطينيين وغيرهم من العرب.
لقد أُخضعت الديمقراطية الإسرائيلية للمرجعية الصهيونية. وظلت آليات هذه الديمقراطية تعمل في خدمة المشروع الصهيوني، كما لو كان هناك عقل مدبر فوق خلافات الساسة وتقلبات السياسة. لم يحدث يوماً أن اكتسبت الديمقراطية الإسرائيلية أي استقلال عن أهداف الصهيونية، رغم التناقض الطبيعي بين ما لا يمكن إلا أن يكون نسبياً وما هو بطابعه أيديولوجي جامد ومطلق.
لذلك لم يكن ممكناً أن يظهر “ديغول إسرائيلي” إلا في مخيلة بعض العرب الذين تبنوا وهماً عنوانه “معسكر السلام في إسرائيل”. ولا يختلف نتانياهو عن أسلافه من ديفيد بن جوريون إلى أولمرت. وحتى ليبرمان الذي يثير صعوده قلقاً شديداً يتجاوز الحدود العربية، ليس نشازاً في هذا السياق. فهو يمثل مرحلة جديدة في مسار لم يكن ممكناً إلا أن ينتج الاتجاه الذي يعبر عنه عاجلاً أو آجلاً.
ففي ظل مرجعية تغلق كل طريق يُفتح أمام السلام، لابد من الوصول إلى لحظة يشتد فيها الميل إلى الانغلاق والتحول من عنصرية مقنعة إلى أخرى سافرة تجهر بالنقاء الديني -العرقي رغم أنه أصبح جزءاً من تاريخ يحاول العالم تجاوزه، وربما نسيانه.
وليس ليبرمان وحيداً في ذلك على الخريطة السياسية الإسرائيلية. فثمة تيار رئيسي في حزب “كاديما” تقوده زعيمته ليفني، يقف قريباً جداً من ليبرمان ولكن بدون فجاجته. لذلك فليس من قبيل المصادفة أن يقبل كل من ليفني وليبرمان “حل الدولتين”، لكن بشرط أن يتيح ل”إسرائيل” التخلص من معظم فلسطينيي 1948 عبر تبادل أراض.
ويعني ذلك أن الناخب الإسرائيلي، في انتخابات الكنيست الأخيرة، كان أمام خيارين رئيسيين بشأن قضية فلسطين، هما خيار “اللاحل” وخيار الحل العنصري السافر، أي الدولة اليهودية النقية.
فقد فرضت المرجعية الصهيونية أن تضيق مساحة الاختيار الديمقراطي تدريجياً، وأن يكون التنافس بين خيارين يسعى أحدهما إلى تجنب أي حل لقضية فلسطين ويراهن على تلاشيها عبر الزمن بفعل عوامل التعرية الفلسطينية الداخلية، فيما يريد الآخر حل المشكلة الديموغرافية التي تواجه “إسرائيل” على حساب القضية الوطنية للشعب الفلسطيني على نحو يؤدي إلى تقويضها. ويحاول نتانياهو الآن الجمع بين هذين الاتجاهين من خلال ربط قبوله حل الدولتين برضوخ الفلسطينيين لمبدأ الدولة اليهودية.
وهكذا أنتجت المرجعية الصهيونية للديمقراطية الإسرائيلية على مدى ستة عقود مشاريع لا تختلف في سعيها إلى تصفية قضية فلسطين، لكنها تتباين في الطريقة التي يتبعها كل منها باتجاه هذه التصفية. وديمقراطية هذا شأنها لا تعدو أن تكون شكلاً يغطي عنصرية دفينة ازداد عمقها واشتدت وطأتها مع الزمن.
ومع ذلك تلقى هذه العنصرية حماية من الديمقراطيات الغربية، التي نفضت عن نفسها آثار التمييز، في لحظة تميط فيها “إسرائيل” اللثام عن تعصبها الديني والعرقي الذي لم يظهر علناً على هذا النحو في أي وقت مضى.
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

الأونروا تحذر من ضرر غير قابل للإصلاح مع إطالة أمد الحصار الإسرائيلي
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام حذرت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، من أن إطالة سلطات الاحتلال الإسرائيلي منع إدخال المساعدات إلى...

السفير الأمريكي في إسرائيل يجدد دعم واشنطن لتهجير الفلسطينيين من غزة
الناصرة - المركز الفلسطيني للإعلام جدد السفير الأمريكي لدى سلطات الاحتلال الإسرائيلي مايك هاكابي، دعم واشنطن تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، رغم...

جيش الاحتلال يعلن استعادة رفات جندي قٌتل في اجتياح لبنان 1982
الناصرة - المركز الفلسطيني للإعلام أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي، اليوم الأحد، استعادة رفات جندي إسرائيلي من الأراضي السورية في عملية وصفة بالخاصة....

مسيرة احتجاجية في ستوكهولم تنديدا بالإبادة الإسرائيلية في غزة
المركز الفلسطيني للإعلام انطلقت في العاصمة السويدية ستوكهولم، السبت، مسيرة احتجاجية تنديدا بقرار إسرائيل توسيع الإبادة على قطاع غزة. ووفق الأناضول؛...

1500 مواطن فقدوا بصرهم جراء الإبادة في غزة
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام كشفت وزارة الصحة الفلسطينية أن نحو 1500 مواطن فقدوا البصر جراء حرب الإبادة، و 4000 آخرون مهددون بفقدانه؛ مع نقص...

الاحتلال يشن حملة دهم واعتقالات في الضفة الغربية
الضفة الغربية- المركز الفلسطيني للإعلام شنت قوات الاحتلال الإسرائيلي، اليوم السبت، حملة دهم واعتقالات في عدة مناطق في الضفة الغربية المحتلة، تخللها...

مسؤولون بالبرلمان الأوروبي يطالبون إسرائيل بإنهاء حصار غزة فورا
المركز الفلسطيني للإعلام طالب قادة العديد من الجماعات السياسية في البرلمان الأوروبي اليوم السبت، إسرائيل بالاستئناف الفوري لإدخال المساعدات...