السبت 29/يونيو/2024

أحمد الرنتيسي يتحدث عن الذكرى الخامسة لاستشهاد والده أسد فلسطين

أحمد الرنتيسي يتحدث عن الذكرى الخامسة لاستشهاد والده أسد فلسطين

كان متدفقًا في حديثه.. تأخذك قدرته على التعبير واستحضار الآيات القرآنية، ولكن لا عجب؛ فهو ابن القائد “أسد فلسطين” الدكتور عبد الرنتيسي.. التقيناه في منزل العائلة المتواضع؛ لنعيش معه ظلال الذكرى الخامسة لاستشهاد والده.

كانت آثار الإصابة التي ألمّت به خلال محاولة الاغتيال الأولى لوالده لا تزال باديةً عليه، ويعاني من أثرها إعاقة في رجله ويده.

تحدَّث بوفاءٍ وقوةٍ وإيمانٍ وهو يتحدث عن والده ومسيرته.. كان يستشعر مسؤولياته كابنٍ لقائدٍ عظيمٍ في حركةٍ عظيمةٍ عبَّدت طريقها بدم قادتها، ودفعها صدق منهجها ومسارها نحو الأمام.. طوال الوقت كان يشخِّص الطريق نحو النصر الذي بشَّر به والده: صدق المنهج والقرب من الله عز وجل.

جلسة رائعة وودودة مع أحمد (26 عامًا) الموظف في “الجامعة الإسلامية” بغزة، ولديه ولدان: عبد العزيز وإبراهيم، وفيما يلي نص الحوار الذي أجرته “شبكة فلسطين للحوار” ونشر الجمعة (17-4).

* كيف تعيشون أجواء الذكرى الخامسة لاستشهاد والدك؟

** بسم الله الرحمن الرحيم.. إذا أردتُ أن أتحدث عن الوالد رحمه الله في الذكرى الخامسة لاستشهاده، فنحن لم نشعر أنه فارقنا؛ فرغم أنه فارقنا جسدًا فإن روحه حاضرةٌ معنا، وهي حاضرة في كل مواقف البيت والأسرة، نشعر به معنا، لم نفتقده روحًا بفضل الله، وبقيت ذكراه بمواقف عزته ورجولته وقوته في الحق، الذكرى الطيبة التي تركها، بقيت لنا فخرًا أمام الناس والجيران والأهل بفضل الله.

* برأيكم.. ما أبرز المحطات والتحولات في حياته التي انعكست عليه وعليكم كأسرة وعلى حركة “حماس”؟

** كان يقول دائمًا: “نقطة التحول في حياتي هي حفظ القرآن الكريم”، فكان يقول لنا باستمرار إن ذلك أدى إلى تغيير مجرى حياته؛ فقد حفظ رحمه الله القرآن في غضون ثلاثة أشهر أثناء فترة اعتقاله في إحدى الزنازين الانفرادية في سجون الاحتلال الصهيوني، ولم يكن مجرد حفظ، بل كان حفظًا وفهمًا وعملاً.

وكان يقول إنه بعد أن أتم حفظ القرآن يشعر بمعية الله في كل كلمة وموقف يقفه، ويشعر أنه مُوفَّقٌ في مواقفه؛ ولذلك لم يكن يخشى إلا الله.

ومن المواقف والمحطات البارزة التي كان يفتخر بها وقفته إبان الإبعاد إلى مرج الزهور، وكذلك وقفته ضد الاعتقال السياسي.

ففي مرج الزهور عندما جرى إبعاده مع مئات القادة أصر على البقاء في المخيم، واتفق مع باقي الإخوة والقادة على ذلك؛ حيث بقوا هناك رغم البرد والأجواء الصعبة، ويومها قال: “لأمرِّغنّ أنف رابين في التراب”، وكان له ذلك؛ حيث شكَّلت عملية الإبعاد رافعةً لحركة “حماس”، وأجبر الاحتلال فيما بعد على إعادة المُبعَدين بعد صمودهم وثباتهم.

أما ما يخص الاعتقال السياسي فقد كان ذلك عام 2002 عندما رفض أن يسلم نفسه إلى أجهزة أمن السلطة التي كانت تمارس الاعتقال السياسي، ومن ثم التف حوله أبناء الشعب الفلسطيني، هذا الموقف الذي يُشكَرون عليه، وكان قراره هذا عاملاً في توقف الاعتقال السياسي حتى عملية الحسم العسكري؛ حيث عادت تلك السلطة إلى ممارساتها في الضفة الغربية.

* ما بين الاعتقال والإبعاد والمطاردة توزعت حياة الشهيد القائد.. كيف انعكس ذلك عليكم كأسرة؟

** بصراحةٍ.. عندما تكون حياة الإنسان كلها لله فهو يتوقَّع كل ما سيقابله من ابتلاءاتٍ وأشواكٍ وصعوباتٍ، خاصة إذا كان صُلبًا، ويقول كلمة الحق لا يخشى في الله لومة لائم؛ فكان رحمه الله دائمًا يعلمنا ويفهمنا هذه الأمور، وهو بفضل الله رغم ما حدث معه من اعتقالاتٍ كان يستغل فترة الزيارة للتخفيف عنا، وكان يقابلنا بوجهٍ بشوشٍ ويشاركنا همومنا من داخل المعتقل.

وعندما خرج من المعتقل، رغم انشغالاته الكثيرة بقضية فلسطين والأمور الحركية والدعوية، كان إذا دخل البيت تمثَّل بالرسول (صلى الله عليه وسلم) عندما قال: “خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي”.

وكان مهما حدثت معه مواقف ومضايقات تزعجه يحاول إبعاد القلق عنا، ويدخل ببشاشته التي اعتدنا عليها، ويداعب الأحفاد.

وأشير هنا إلى أننا ستة أولاد للشهيد: أنا وأخي محمد، وأربع شقيقات، ووالدي رحمه الله لم يحضر زواج ثلاثة من شقيقاتي؛ لكونه كان في المعتقلات الصهيونية، وشقيقتي الرابعة حضر حفل زواجها، وكذلك حفل زواج محمد، أما أنا فخطب لي يوم استشهاده رحمه الله.

* عُرف الشهيد بقوة الشكيمة والقرارات الصارمة.. كيف كان داخل الأسرة؟ ومن أين جاءت هذه القوة و”الكاريزما” التي كان يتمتع بها؟

** إن أردت أن أتحدث عن صلابة والدي في وجه الأعداء ولينه بين أهله وأصحابه، فأقول إن ذلك كان نابعًا بالأساس من فهمه وتطبيقه لما جاء في قوله الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (المائدة: 54)

فقد منحه الله الفضل؛ فكما ذكرت كان رحمه الله قد حفظ القرآن وطبَّقه، فكان أن أكرمه الله بهذا الفضل، وعلم بتفسير هذه الآية أن القوة على الكافرين لا تكون إلا بخفض الجناح للمؤمنين؛ لذلك عندما تواضع بين أهله وإخوانه وجيرانه أعزَّه الله على المنافقين والكافرين.

ومن كثرة لينه لا أذكر أنه ضربني يومًا، سواءٌ أنا أو إخواني.. هذا القائد وهذه الشخصية المؤثرة القوية، كيف يتعامل بكل هذا التودد عندما يشاهدونه عن قرب؟!، كانوا يتصورونه مزمجرًا لا يضحك ولا يمزح؛ فرحمه الله ربانا من خلال مفاهيم الإسلام، وكأنه كان يعلم أسس التربية النفسية الحديثة.

* عملتَ كمرافق للشهيد.. كيف وجدته كأبٍٍ وقائدٍٍ؟ وما أبرز المفارقات التي صادفتكم خلال العمل؟

** في الواقع.. لم أكن مرافقًا للوالد بشكلٍ رسميٍّ، ولكنني كنت أفضِّل الوجود معه وبجانبه دائمًا، وكنت أحرص على ذلك؛ إذ لم أتخيل يومًا أن أسير في جنازته، وكنت أتمنى دائمًا أن أسبقه إلى الشهادة، أو استشهد إلى جانبه ومعه، ولكن قدر الله نافذ، وحتى يوم محاولة الاغتيال الأولى -وكأنه كان يتوقَّع ذلك- طلب مني عدم الخروج معه، ولكنني أصررت على ذلك.

* كعائلةٍ لواحدٍ من أبرز قادة فلسطين.. كيف تستشعرون المسؤولية الملقاة عليكم؟

** هذا الأمر ليس هينًا؛ فسيرة الوالد بقيت نفتخر بها، والأمانة تحتم علينا الحفاظ على هذه السيرة.

من جانبنا نحاول أن نكون عند حسن الظن، وكما ربانا نحافظ على تراثه، ونسير على نهجه، ونحافظ على العادات التي كان يقوم بها من صلةٍ للأرحام وزيارةٍ للعجائز في العائلة حتى في أحلك الظروف، واليوم عندما أقوم بهذا الدور أشعر بالسعادة وأنا أسمع دعواتهم لوالدي رحمه الله.

أما الوالدة فقد صبرت واحتسبت وأكملت المشوار دون أي ترددٍٍ أو تراجعٍٍ، ومن فضل الله أن منَّ علي وجعلني ابن قائدٍٍ وداعيةٍٍ.

* تعرَّضتَ لإصابةٍ خلال محاولة اغتيال الشهيد الأولى.. كيف وقعت هذه الحادثة في ظل الاحتياطيات الأمنية؟

** الحادثة وقعت في 10-6-2003م، وقبلها بيوم كان والدي عائدًا من منزل الشيخ الإمام أحمد ياسين رحمه الله، وفي أحد المفترقات شاهد أحد المرافقين طائرات الأباتشي تتأهَّب للقصف فنبَّه من كان معه ونجحوا في النزول من السيارة وتمكَّنوا من الاختفاء، ومن ثم غادر والدي المكان مشيًا على الأقدام.

وإثر هذه الحادثة استشعرنا أن والدي قد يُستهدف، فلزم البيت فترة، إلا أنه وصله نبأ إصابة أحد زملائه الأطباء بمرضٍ مزمنٍ فأصر على الذهاب إلى المستشفى لزيارته.

وفي حوالي الساعة الحادية عشرة ذهبت لأحضر السيارة التي أدخلها دائمًا “الكراج” كاحتياطٍ أمنيٍّ، والتي كان زجاج مغطًّى بالـ”بيرسون” العازل للرؤية، ويصعد أبي إلى السيارة هو ومرافقه وهي في “الكراج”، ويجلسان بالمقعد الخلفي فلا يعرف أحد أنه موجود في السيارة، ثم أخرج أنا بطريقة عادية وأفتح باب “الكراج” وأخرج السيارة وننطلق في طريقنا.. كانت هذه إحدى وسائل الاحتياطيات الأمنية التي كنا نتبعها.

وبالفعل انطلقنا باتجاه المستشفى، وكان الخطأ يومها أننا حدَّدنا المسار (المستشفى) على الهاتف الجوال، ويبدو أنه تم رصد المكالمة، وبعدها بقليلٍ تم قصف السيارة؛ فبعد أن قطعنا مفترقًا أصاب صاروخٌ مقدمة السيارة التي كنت أٌقودها بسرعةٍ كبيرةٍ.. لم تتوقف السيارة وظلت تسير بشكلٍ متعرجٍ، وملأ الدخان المكان فلم أرَ شيئًا.

بعد الصاروخ الأول خرج المرافقون من السيارة وبقيت أنا وأبي، ثم أطلقت الطائرة الصاروخ الثاني لكنه أخطأ هدفه وبعده ابتعدنا قليلاً عن المكان وحَجَبنا برجُ الشفاء عن مجال إطلاق الصواريخ؛ ما أعطانا فرصة للخروج.. خرج أبي، وكان الباب المجاور لي مغلقًا فخرجت من الشباك، كنت قد أصبت ولكني ما زلت أعي ما يدور حولي.. هبّ أربعة شبان لإنقاذي، وبعدها أطلق صاروخ ثالث.. غبت عن الوعي وبقيت خمسة أيام في المستشفى في غيبوبة لإصابةٍ في القلب ونزفت كثيرًا، ولكن عناية الله وقدره أبقتني على قيد الحياة.

استيقظت من غيبوبتي وأبلغوني أن والدي أصيب فلم أصدق.. اعتقدتهم جميعًا استشهدوا؛ فالموقف كان عظيمًا، ولم أقتنع إلا بعدما تحدثت مع والدي عبر الهاتف؛ حيث غادر المستشفى بعد ثلاثة أيام كإجراءٍ أمنيٍّ رغم أنه أصيب بجروحٍ خطيرةٍ في ساقه حينها، وعلمت أن المرافق استشهد.

* وماذا عن تفاصيل حادثة الاغتيال التي كنت شاهدًا على أجزاءٍ منها؟

** الحادث وقع بعد عشرة شهور من الحادث الأول، وبعد شهرٍ تقريبًا من اغتيال الشيخ أحمد ياسين؛ حيث تولى والدي قيادة الحركة، وازدادت بعدها الاحتياطيات الأمنية؛

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات