أوباما وإسرائيل: تناقض محتمل

صحيفة الخليج الإماراتية
عندما كان أوباما مرشحاً في انتخابات الرئاسة الأميركية شكك الكثيرون في إمكانية فوزه على رغم قدراته الواضحة والكاريزما التي يتمتع بها، وبُرر هذا التشكيك باعتبارات عديدة على رأسها إرث العنصرية البغيض في المجتمع الأميركي. وعندما فاز بمقعد الرئاسة راهن الكثيرون أيضاً على أنه لن يأتي بجديد يذكر في السياسة الأميركية، سواءً لأن هذه السياسة لا يرسمها أشخاص بل تنبع من مصالح وطنية تصوغها قوى اجتماعية محددة في إطار مؤسسي راسخ، أو لأن أوباما لم يصل إلى المكتب البيضاوي إلا بعد تفاهم مع “المؤسسة” -أي مؤسسة الحزب “الديمقراطي”- بمعنى أنه سيكون المعبر الأمين عن مصالحها، وليس عن توجهاته الفردية. بل لقد بالغ البعض في القول إن أوباما قد ينتهي به الحال لأن يكون من أسوأ الرؤساء الذين شهدتهم الولايات المتحدة، على أساس أنه سينفق جل وقته في إثبات أنه يعبر عن النمط السائد وليس عن “الأقلية” التي ينتمي إليها، الأمر الذي سيجره بالتأكيد إلى تبني مواقف خاطئة سواءً من المنظور الأميركي أو الدولي.
ولم يكن فيما سبق شطط كبير على أية حال، ولكن وجه الخلل في هذا النمط من التحليلات أنه يغفل أي دور للعامل الفردي في التطور. ولا يمكن الادعاء بأن هذا الدور هو العامل الرئيسي في هذا الصدد، غير أنه يبقى -إن وجدت قيادة غير عادية- دوراً مهماً على أية حال. ومن ناحية أخرى جاء أوباما تعبيراً عن الطبقتين الوسطى والدنيا اللتين يقال إنهما ساهمتا بالنصيب الأوفر في تمويل حملته الانتخابية، وليس تعبيراً عن الاحتكارات العملاقة التي نصبت بوش الابن في موقعه ثماني سنوات متصلة في نموذج يذكرنا بالفارق بين بيل كلينتون ورونالد ريجان على سبيل المثال. وأخيراً وليس آخراً وصل أوباما إلى قمة نظام الحكم الأميركي في ظل ظروف بالغة التردي اقتصادياً وسياسياً، سواءً بسبب الأزمة المالية الأميركية الأصل العالمية من حيث امتداد تداعياتها، أو نتيجة لإخفاق مشاريع الهيمنة الأميركية في أفغانستان والعراق، أو على الأقل عجزها عن تحقيق أهدافها حتى الآن على رغم كل ما تتكبده الولايات المتحدة من خسائر فادحة على الصعيدين المالي والبشري في هذين البلدين.
وهكذا بدا خطاب أوباما مميزاً، وبدت قراراته مختلفة فشهدناه على سبيل المثال في الساعات الأولى لممارسته سلطاته الرئاسية يصدر قراراً بإغلاق معتقل جوانتانامو سيئ السمعة، ويعيد للولايات المتحدة صورتها كقلعة لليبرالية وليس للتعذيب والعصف بحقوق الإنسان، ويتصدى للخروج من ورطتي السياسة الأميركية في أفغانستان والعراق، والأهم من ذلك أنه يمد يديه برغبة في حوار حقيقي مع الجميع، وأسلوب مختلف لإدارة التناقضات مع الأعداء الذين تحولوا في هذا السياق إلى منافسين. ويعنينا من هذا خطابه الجدير بالاحترام عن العالم الإسلامي، وبدلاً من “زلات اللسان” عن الحروب الصليبية التي كانت تقتضي من سلفه أن يخرج علينا من حين لآخر باعتذار ممجوج فإن الرجل يتحدث عن شراكة حقيقية مع العالم الإسلامي، بل ويبادر بطرح مبدأ الحوار مع “معسكر الشر” وفقاً لمصطلحات سلفه.
ولا شك أنه ليس بالكلمات وحدها يمكن إصلاح سياسات بلغت من الحماقة والرعونة والأنانية مبلغاً، لكن هذه الكلمات تمثل على الأقل بداية محتملة لنمط جديد من التفاعلات، وعاملاً من عوامل تخفيف التوتر في العلاقات الدولية، ومصدراً مهماً لتحسين الصورة الأميركية في العالم، وضماناً لعدم تكرار المآسي التي سببتها سياسات الرئيس الأميركي السابق.
وفي هذا الإطار يكاد يكون موضع إجماع أن هذه البدايات المبشرة لا يمكن أن تطول السياسة الأميركية تجاه “إسرائيل” لاعتبارات بديهية على رأسها الدور الإسرائيلي في ضمان المصالح الأميركية وحمايتها في المنطقة، والنفوذ القوي للوبي الصهيوني في دوائر صنع السياسة الأميركية. غير أن الاتفاق مع هذا الرأي لا يمنع المراقب من ملاحظة أن النهج الجديد لأوباما في حماية المصالح الأميركية يتضمن إمكانات لتناقضات محتملة في هذه المرحلة تحديداً بين السياستين الأميركية والإسرائيلية، وهناك عدد من المؤشرات يمكن الاسترشاد به في هذا الصدد.
أول هذه المؤشرات أن مبادرات الحوار التي أطلقها أوباما، والتي وصلت إلى بلد كإيران، من شأنها أن تخلق إطاراً للتحرك الأميركي في المنطقة تتناقض أولوياته مع الأولويات الإسرائيلية، فمن المعروف أن “إسرائيل” تضع الآن التهديد الإيراني في صدارة أولوياتها الأمنية، خاصة في ضوء الموقف الإيراني من قوى محيطة بها وعلى رأسها “حزب الله” في لبنان و”حماس” في فلسطين، وكذلك في ضوء المشروع النووي الإيراني. وقد كانت “إسرائيل” تتمنى دون شك عملاً مشتركاً مع حليفها الأميركي لوأد هذا التهديد، وحاولت مراراً تحريضه على المبادرة بضربة عسكرية لإيران ستكون تداعياتها على “إسرائيل” كارثية إذا تحملت مسؤوليتها وحدها، غير أنه يمكن القول إن الأمور قد بدأت تختلف الآن، فماذا لو أن الحوار الأميركي- الإيراني المحتمل قد وصل إلى نتائج إيجابية ما؟ من المؤكد أن هذه النتائج لن تكون على حساب “إسرائيل” بطبيعة الحال، غير أن بقاء إيران كقوة إقليمية برضا أميركي ليس مما يريح “إسرائيل” بالتأكيد.
وثاني المؤشرات يتعلق بالبوابة التي اختار أوباما أن يدلف منها إلى العالم الإسلامي وهي تركيا، ومن الحقيقي أن تركيا وفقاً لعدد من المعايير تعتبر اختياراً أميركياً نموذجياً، فهي دولة علمانية من حيث نظام حكمها، إسلامية من منظور الانتماء الديني لشعبها ولحزبها الحاكم، أطلسية من حيث تحالفاتها الخارجية، والأهم من ذلك كله أن الأزمة الراهنة في علاقتها ب”إسرائيل” منذ عدوانها الأخير على غزة لم تجعل أوباما يراجع اختياره، وهنا في تقديري تكمن رسالة واضحة حتى وإن كان أوباما لا يقصدها، وهي أن تدهور علاقة دولة ما ب”إسرائيل” لا يشكل “فيتو” على تعزيز علاقة الولايات المتحدة بهذه الدولة.
ثالث هذه المؤشرات أن مبادرة أوباما الخاصة بالسعي لإخلاء العالم من الأسلحة النووية ليست مما يسعد “إسرائيل”. صحيح أن تجسيد هذا الحلم يبدو صعباً وشاقاً للغاية، وصحيح أن الالتزام الأميركي بأمن “إسرائيل” سيكون حاضراً في كافة مراحل تنفيذ هذه المبادرة إن قدر لها هذا، لكنها دليل آخر على أن أوباما لا يتخذ من المصالح الإسرائيلية مقياساً يبني عليه تحركاته، ومن المؤكد أن الاحتكار النووي الإسرائيلي في الشرق الأوسط يطمئن “إسرائيل” كثيراً، ومن المؤكد أيضاً أنها بسبب السياق الإقليمي المحيط بها تعتبر سلاحها النووي ضمانة للبقاء.
ومما يزيد من أهمية هذه المؤشرات أنها تأتي كلها في سياق الحكومة اليمينية الإسرائيلية الراهنة التي ترفض حل الدولتين الذي تبنته الإدارة الأميركية السابقة، وما زالت إدارة أوباما متمسكة به، وهو الأمر الذي يفتح باباً جديداً لتناقض أميركي-إسرائيلي محتمل يتحدث عنه الآن عديد من التقارير.
على أن السطور السابقة لا تنطوي على أية أوهام تشير إلى أن أوباما سيشهر سيفه في وجه “إسرائيل”، وينازلها من أجل أن ترضخ للمطالب العربية، لكنها مجرد دعوة للتفكير في إمكانية حدوث تناقض -ولو على نحو غير مباشر- بين السياسة الأميركية في عهد أوباما وبين “إسرائيل”، وفي الكيفية المثلى عربياً للاستفادة من هذا التناقض إن وجد، ذلك أنه بغض النظر عن النوايا الحقيقية لأوباما وقدرته على تجسيدها على أرض الواقع فإن الأمر الذي لاشك فيه أنها لن تفيد العرب شيئاً إذا ظلوا على ما هم عليه من انقسام في الصفوف وارتباك في الرؤى وعجز عن الفعل.
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

لازاريني: استخدام إسرائيل التجويع كسلاح جريمة حرب موصوفة
غزة - وكالة سند للأنباء قال المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، فيليب لازاريني، إن استخدام "إسرائيل" للغذاء...

24 شهيدًا وعشرات الجرحى والمفقودين بقصف محيط المستشفى الأوروبي بخانيونس
غزة- المركز الفلسطيني للإعلام اسشتهد 24 فلسطينياً وأصيب عدد كبير بجراح مختلفة فيما فُقد عدد من المواطنين تحت الركام، إثر استهداف إسرائيلي بأحزمة...

المبادر المتخابر في قبضة أمن المقاومة والحارس تكشف تفاصيل
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام كشفت مصادر أمنية اعترافات عميل تخابر مع الاحتلال الإسرائيلي تحت غطاء "مبادر مجتمعي"، لجمع معلومات حول المقاومة...

حماس: قرار الاحتلال بشأن أراضي الضفة خطوة خطيرة ضمن مشروع التهجير
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام اعتبرت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، إنّ قرار الاحتلال الإسرائيلي إعادة تفعيل ما يُسمّى “عملية تسجيل ملكية الأراضي...

علماء فلسطين: محاولة ذبح قربان في الأقصى انتهاك خطير لقدسية المسجد
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام اعتبرت "هيئة علماء فلسطين"، محاولة مستوطنين إسرائيليين، أمس الاثنين، "ذبح قربان" في المسجد الأقصى بمدينة القدس...

حماس: إعدام السلطة لمسن فلسطيني انحدار خطير وتماه مع الاحتلال
جنين – المركز الفلسطيني للإعلام أدانت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، الجريمة التي ارتكبتها أجهزة أمن السلطة في مدينة جنين، والتي أسفرت عن استشهاد...

تعزيزًا للاستيطان.. قانون إسرائيلي يتيح شراء أراضٍ بالضفة
القدس المحتلة - المركز الفلسطيني للإعلام تناقش سلطات الاحتلال الإسرائيلي في "الكنيست"، اليوم الثلاثاء، مشروع قانون يهدف إلى السماح للمستوطنين بشراء...