سيرة حماس الذاتية .. قراءة في فلسفة المواجهة

إن الاختلال في موازين النظم الموضوعية ، والفقر في مقومات إثبات الجدارة بالبقاء والأحقية بالوجود لدى أمة من الأمم أو شعب من الشعوب يضعه امام مواجهة قسرية غير متكافئة ، ثنائية الأبعاد ، واحدة تتعلق بالسبب وهو الاختلال والأخرى تتعلق بما نتج عنه وهو واقع غير مرغوب كأن يكون احتلالا أو هيمنة سياسية أو طغيان ثقافة ما، وعندما تعكس هذه المواجهة مجابهة الواقع الظاهر للعيان والواضح المعالم بوصفه نتيجة مباشرة للاختلال والفقر الآنفا الذكر ، فإن ثغور هذه المواجهة لا تتوقف عند هذا الحد ، لأن التحدي في حقيقته يتعدى الوقوف عند حدود النتائج دون المقدمات ، فالقدرة على اكتشاف مواطن الخلل في نظم السياسة والتربية والاقتصاد والثقافة والاجتماع والسعي الجاد لذلك، ثم التصدي المدروس لإصلاحها، واستبانة أسباب النقص المفضية للتآكل امام فرصة البقاء والعمل على ردمها ، هو الوجه الأول والأهم للمعركة لتتعزز بذلك تلقائيا شروط المواجهة الكلية إيجابيا، فمواجهة التحدي الناجم عن الاختلال في هذه الموازين وما نتج عنها من تسلل للأعداء الى الأرض يحتاج الى نظرية للمواجهة متكاملة ناضجة تأخذ بالحسبان تجليات المعركة وأبعادها في الزمان والمكان.
الحديث عن نظرية المواجهة التي عمدتها حماس ، والغوص في تفاصيلها يتطلب التطواف الواسع على أدبيات ومواقف الحركة منذ بدايات الصراع ، لأن المواجهة هي حالة دائمة ممتدة زمانا وليست مقصورة على اللحظة الراهنة فحسب ، فإرهاصاتها تبدأ من الماضي وتداعياتها تمتد الى المستقبل ، لذلك فإن القبض على شروط المواجهة الموزونة الشاملة يتطلب أن لا نكون أسرى يومنا الحاضر فحسب ، فتيار الحياة المتدفق لن ينتهي بهذا اليوم ، كما أن السعي الحميد للاستنهاض ينبغي أن لا يبدأ من ظرف اليوم متجاوزا خبرة التاريخ وسنن الحياة الماضية ، فالمواجهة المثمرة بمعناها الواسع لا تتوقف على حمل البندقية في وجه العدو، فأشكالها متعددة وتراكمية، ويعزز بعضها بعضا، ويهيء بعضها الطريق للآخر ليأخذ دوره في وقته المناسب على الأرض.
وبهذا المعنى فإن حماس كانت في صلب المواجهة منذ بدايتها ،لكن الذي يفتح عينيه على الواقع المنظور ويجتهد في ابتداع الحلول لما فيه من مشاكل دون أن يكلف نفسه عناء دراسة هذا الواقع بوصفه محطة عبر سياق متكامل يجتمع في نسج بنوده التاريخي والحضاري والقيمي والقوة بأسبابها والضعف بتداعياته، وحلقة ضمن سلسلة متتابعة من الأحداث ومسبباتها ونتائجها ، ثم التعسف في رسم خطة الخلاص التي تتجاوز القواعد السليمة والمطالب الحقيقية لإنجازها ،عبر رسم معالمها على العفوية وردات الفعل غير المضبوطة والارتجال المدفوع بالعاطفة المشبوبة ،كل ذلك مرده غفلة الحس عن استيعاب المشكلة بأبعادها المترامية ، وهذه الغفلة ذاتها هي ما يمنع رؤية حماس حيث هي في المعمعان الملتهب.
إن دراسة نظرية حماس ونقدها وتقييمها ، يستدعي التدقيق في المبادئ والخطوط العامة التي رسمت المنهاج وطرائق المواجهة ، وعلى ضوء ذلك بالإمكان التقرير إن كانت حماس حاضرة في صلب المشهد منذ البداية أو غائبة عنه ، وما إذا كانت الرؤية التي استندت اليها خطة الانطلاق صحيحة تصدقها نتائج ما آل اليه حال حماس أو تكذبها، فالقدرة على النظر في النهايات وربطها بالبدايات ميسرة ولا تحتاج إلى كثير من الجهد أو مزيد من التمحيص، فمن السهولة استبانة وجاهة طرائق الانطلاق من وحي النتائج الماثلة.
فمسيرة حماس الممتدة والتي تجاوزت بها المنعطفات الحادة ، والتحديات الخطيرة وتقلبات الزمان ، تفسح المجال واسعا لرصد سلوكها وتقييم نظريتها للمواجهة التي بنتها على أساس أن مساحة التقابل الحالية مع العدو الصهيوني هي جزء من المعركة الممتدة في ثنايا الزمان والجغرافيا معا.
المأساة وردات الفعل :
أعتقد أن المأساة المتمثلة بوقوع فلسطين وسائر بلاد المشرق الإسلامي بيد الاستعمار الغربي كانت بمثابة النتيجة الطبيعية والتتويج الحتمي لحالة الضعف والانحسار والتردي التي ألمت بالأمة ، ومن ناحية ثانية فإن هذه النتيجة المترتبة على مقدماتها ، لا تتعارض مع سنن الله في كونه ،لا بل تنسجم معها وتعبر عن قانون التدافع والخفض والرفع الذي يجري على المؤمن والكافر على حد سواء، وعندما نفهم المأساة ومسبباتها بهذا السياق ، فإن الخطة الموضوعة لمعالجة تداعياتها يجب أن لا تغفل المسببات إن لم تولها جل الاهتمام، ومن الأهمية بمكان أن يتلمس الحراك المضاد للواقع الذي جسدته المأساة كل المعالم والحقائق التي أفضت لهذا الواقع ككل متكامل، وبناء خطة العمل وفقا لهذا الكل وعندها من الممكن أن يثمر هذا الحراك على وجه التأكيد.
أما التصدي للنتائج دون مسبباتها والظروف التي هيأت لها فيعتبر قصورا عن فهم الصورة بكل أبعادها ، وانسلاخا عن خبرات التاريخ وما يوفره من طاقة وروافد تسهم في تشكيل خطة العمل الهادفة للتصدي للاختلال في القيم والنظم وما نتج عنها من احتلال يستبيح الأرض والإنسان ، ومدخلا للمتاهة التي لا تفضي إلا الى المزيد من الضعف الذي لا يساعد في الحفاظ على الهوية من الذوبان والانسحاق ، فكيف بتحرير الأرض ورد العدوان ، والنتيجة المؤكدة لكل ذلك هي العبثية والفشل والانحدار.
ولكن ماذا عن واقع الهزيمة وجيلها ، هل كان بإمكان واقع الهزيمة أن يبدع توجهات ثورية قادرة على مواجهة العدوان وتحرير الأرض ؟ وهل كان بالإمكان للجيل الذي شهد الهزيمة أن يكون ندا حقيقيا وكفؤا في لحظة السقوط ذاتها؟ بحيث يضع مشروع التحرر المستند الى الرؤية الشاملة على السكة ؟ لو كان ذلك صحيحا لما سقطت البلاد ولا العباد في أيدي الغاصبين ، خصوصا أن المحتلين لم يهبطوا الى الأرض فجأة ودون مقدمات ، بل كانت إرهاصات ذلك جلية على مدار عقود خلت ، فوقوع الاحتلال كان نتيجة طبيعية لظروف متتابعة نضجت على نار هادئة ، ولذلك شكل هذا الاحتلال حالة اختبار حقيقي لوعي أبناء الشعب الفلسطيني والأمة جمعاء ، وتحدياً عميقاً يستهدف كل شي الإنسان والأرض والحضارة ، ومحفزا لاستدعاء المهارات ووضع التصورات وخطط العمل ، وظهرت حركات التحرر ورفعت السلاح عاليا في الميدان ، فخاضت حروبا وكان لها صولات وجولات عبرت بها الحدود واخترقت الآفاق !
ولكن أين كانت حماس في ذلك الوقت ؟ هل كانت حاضرة أم غائبة؟ وماذا قدمت لمواجهة المحتل ؟ وهل كانت تمر بسبات حقيقي كما يقول البعض؟
فكان القرار السريع والحاسم لضرب هذا الانبعاث وقتله في مهده قبل أن يستفحل أثره ويتعاظم تأثيره ، فسيق المجاهدون الأبرار الذين أذاقوا اليهود الغاصبين مر الكأس في مواقع تمتد من الفالوجة جنوبا وعصلوج والتبة 86 وصولا لصور باهر وضواهي القدس ، من ساحات المعركة مباشرة إلى المعتقلات المظلمة ، وحيكت المؤامرة الدنيئة بليل لاغتيال الإمام المؤسس حسن البنا في أولائل عام 49 ، ودخلت الجماعة في محنة رهيبة لاقت خلالها صنوفا من العذاب والعنت والشقاء على مدى ربع قرن من الزمان ، كما لاقى أصحاب الرسالات والدعوات على مر الزمان إن لم يزد.
لا أقصد أن أقول من خلال الكلام السابق أن حماس كانت تقاتل عام 48 ، على الرغم من أن حماس هي امتداد طبيعي وحقيقي لجماعة الإخوان المسلمين ، وكأني بكتائب الإخوان التي دخلت فلسطين لقتال اليهود من مصر وسوريا ومجموعات من العراق وغيرها عام 48 ترفع عقيرتها عاليا بالنشيد “هو الحق يحشد أجناده” فيردد جند حماس من خلفهم “ويعتد للموقف الفاصل” ، في مشهد يعكس صفحات التاريخ المبثوثة في ثنايا الزمان بامتداده الرحب وآماده الطويلة ، ليرشدنا إلى أن هذا التاريخ لن يكون محكوما بسني أعمار جيل من الناس حتى لو عُمروا قرنا من الزمان ، وما الموقع الحقيقي للجيل من الناس بالنسبة لدورة الزمان سوى جزء من كل ، وفان في ممتد ، وقصير من طويل ، فكيف به يريد تطويع حركة الزمان المتطاول لمقتضى حياته القصيرة ، من هنا تبدو الفترة الزمنية الفاصلة ما بين دخول كتائب الإخوان أرض فلسطين عام 48 ، وظهور حماس الرسمي عام 87 ، قياسا على أعمار الأمم والشعوب والجماعات تقارب الفترة الزمنية التي تفصل ما بين الانتهاء من إنشاد الشطر الأول من نشيد الكتائب ، والبدء بإنشاد الشطر الثاني منه قياسا على أعمار الناس كأفراد .
وعندما نأتي على ذكر الدور البطولي الذي قام به الإخوان في ساحات المعارك في فلسطين عام 48 ، لا أقصد أن أقول مرة أخرى أين كان أولئك القوم الذين لم يكفوا عن ترديد التساؤل ، أين كانت حماس عندما أطلقنا الرصاصة الاولى عام 65؟ لا أقصد ذلك حقيقة لأنني ببساطة لا أؤمن بأن تاريخ القضية الفلسطينية كان قد بدأ عام 65 ، ولم ينته عام 93 ، ولن ينتهي بانقراض من يؤمن بذلك ، ولأنني أرفض أن يتم اختطاف فلسطين التاريخ بسعته والقضية بجلالها والإنسان بقيمته السامية ، ومن ثم يتم حشرها قسرا في سياق رؤية وفعاليات فرد ما أو فئة بعينها أو برنامج أملت محدداته ظروف الإنهزام ، بحيث لن تكون فلسطين أو المدخل لها على الأقل إلا من جهة النافذة التي يشير إليها هذا الفرد أو تلك الجماعة ، حتى ولو كانت صاحبة الرصاصة الأولى كما يزعمون !
بالتأكيد لقد كانت التجربة قاسية ، والثمن الذي دفعته جماعة الإخوان لقاء تجرئها ودخولها المعركة في فلسطين باهظا ، ولا شك أن تداعيات ذلك ما زالت ماثلة أمامنا حتى اليوم ، ولكن الدرس البليغ الذي تم اقتباسه من تلك التجربة المريرة أسهم بشكل فاعل فيما بعد في التمهيد لظهور حماس (الفكرة) ، فما هي حماس الفكرة ؟ وما هو مضمونها ؟ وكيف ومتى تشكلت؟
مفاعيل النكبة وخلاصات الحراك الشعبي المضاد :
بعد أن أقام الصهاينة كيانهم الغاصب على ما يزيد عن ثلاثة أرباع فلسطين عام 48 وما تلاه مباشرة من الهزيمة المدوية للجيوش العربية ، أصابت الصدمة البالغة الشعب الفلسطيني المكلوم ، فلم يستسلم للواقع الجديد كما لو كان قدرا محتوما ، وبات التحرك الحثيث لمواجهة الاحتلال أمرا لا جدال فيه ، وقد شكلت الخيبة القاسية التي ألمت به جراء فشل الجيوش العربية في التصدي للكيان الغاصب حافزا آخر لأخذ زمام المبادرة وتولي مسئولية مواجهة المحتل بنفسه ، فقد بات الشعب على درجة من التعبئة الذاتية والتحفز العالي والتهيؤ للإنطلاق الذي ينتظر إشارة البداية.
فكان له ما أراد بإلإعلان عن ميلاد حركة التحرير الوطني الفلسطين (فتح) بداية عام 65 ، وهنا كان الالتقاء بين إرادة شعب مجروح الكرامة يعاني مرارة الإحتلال ، ويتشوق لكل فعل يواجه به هذا البلاء ، وبين إعلان الإطار المعرف بنفسه كحركة تحرر وطني تستهدف مقاومة الاحتلال بكل السبل المتاحة لتخليص البلاد والعباد من قبضته ، فالشعب الفلسطيني في ذلك الوقت لم تكن تنقصه العزيمة ولا إرادة المواجهة ، ولا الرغبة في خوض غمارها ، ولكن ما كان ينقصه هو القيادة الواضحة التي تدير دفة السفينة وتأخذ بيده نحو الوجهة التي يريد، إنها المواجهة وقبول التحدي ، ومن هنا فقد وجد هذا الشعب ضالته في حركة فتح التي اعلنت الثورة والعزم على تحرير الارض كلها دون التفريط في ش
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

القسام يوقع قوة صهيونية من 10 جنود بين قتيل وجريح في رفح
رفح - المركز الفلسطيني للإعلام أعلنت كتائب القسام، الجناح العسكري، لحركة حماس، تنفيذ كمين لقوة صهيونية راجلة من 10 جنود وإيقاعها بين قتيل وجريح في...

38 شهيدًا و145 إصابة بعدوان الاحتلال على غزة في 24 ساعة
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية، وصول 38 شهيدا، منهم 4 شهداء انتشال، و145 إصابة إلى مستشفيات قطاع غزة، خلال 24 ساعة...

مخطط إسرائيلي لإقامة أحياء استيطانية في قلقيلية وبيت لحم
رام الله - المركز الفلسطيني للإعلام كشفت هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، عن مخطط تعمل عليه سلطات الاحتلال الإسرائيلي من أجل بناء مجموعة من الأحياء...

تقرير إسرائيلي: 3 آلاف قنبلة لم تنفجر في غزة إعادة تدويرها يثير المخاوف
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أفاد تقرير إسرائيلي بأن نحو 3 آلاف من القنابل التي أسقطها جيش الاحتلال على قطاع غزة خلال حرب الإبادة المتواصلة، لم...

استشهاد المعتقل إسماعيل الأسطل في سجون الاحتلال
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أعلنت مصادر حقوقية استشهاد المواطن محمد إسماعيل الأسطل نتيجة التعذيب الوحشي في سجون الاحتلال الإسرائيلي. وأفادت مصادر...

محمد طوباسي .. مدني فلسطيني اغتاله الاحتلال لأنه رفض التخابر معه
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إن وثق شهادات مقلقة تفيد بقتل جيش الاحتلال الإسرائيلي شابًّا مدنيًّا في قطاع...

الاتحاد الأوروبي تطالب الاحتلال بعدم تسييس المساعدات الإنسانية بغزة
بروكسيل - المركز الفلسطيني للإعلام قالت مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس، إن الوضع في غزة لا يمكن أن يستمر على هذا النحو. وفي...