الإثنين 12/مايو/2025

وقفة عند معبر الشرف

وقفة عند معبر الشرف

صحيفة الدستور الأردنية

في هذا الزمان الأغبر.. ثمة من يغلق المعابر إلى غزة ، ويوصد الأبواب في وجه أهلها.. في وجه لقمة البقاء وقارورة الدواء وحتى الماء.. في وجه صغار وكبار.. نساء ورجال.. محاصرون بالخوف والجوع والقتل والبطالة، حتى جاءهم العام الجديد بهداياه المثقلة بأشلاء الأطفال والنساء والرجال وأنقاض المنازل.. وأنهار الدماء.. وآلاف الأيتام والجرحى والمشوهين والمشردين داخل الـ”غيتو الغزي”.. حيث البحر من أمامهم والعدو من حولهم ومن فوقهم.. يرطن بكافة لغات البشر،، عشرات المبادرات.. وآلاف المبادرين.. وعشرات بل مئات المنظمات التي نشأت لنصرة غزة في كافة أرجاء المعمورة.. لم نكن نحن أولهم ولن نكون آخرهم.. ولكن كلهم ربما واجهوا ذات المصير – عند معبر رفح – وربما بدرجة أشد سوءاً مما واجهناه .. (وفي هذا السياق نشير إلى أنه شاركنا تجربة الانتظار عند المعبر وفود كانت قد سبقتنا من اليونان، واليابان وإيرلندا) كلهم رغم اتخاذهم جميع الإجراءات اللازمة وتقديمهم لكل الوثائق المطلوبة للجهات المعنية سواء عبر القنوات الدبلوماسية – بالنسبة للعرب والأجانب: أو عبر القنوات الأمنية بالنسبة للمصريين.. إلا أنهم غالبيتهم العظمى اصطدموا – كما اصطدمنا – بجدار الرفض والمنع..

كلهم عانوا مرارة الانتظار العبثي.. واصطدموا بالرفض مرور.. وكلهم تلقوا التوجيه بإدخال هداياهم الرمزية عبر معبر كرم أبو سالم – الذي يسيطر عليها الكيان الصهيوني -..

كلهم تعرضوا لمسلسل غير مفهوم – بل غير قابل للفهم – من الاستهانة والإذلال والإهانة.. والإمعان في ابتزاز المواقف المرفوضة وفرض التطبيع الإلزامي تحت طائلة الإغاثة والإنسانية.. كلهم صدمتهم حقائق جريمة العصر في محرقة غزة (التي عجزت عن توصيفها كل اللغات).. ولكن كلهم أقروا بأن صدمتهم بمجمل السلوكيات والمعاملة عند معبر رفح – ذاك المعبر إلى حيث شرف الأمة – كانت عصية على الفهم والتفسير.. كلهم سواء من سمح لهم بالعبور أو من منع عنه العبور مروا بتجارب قاسية من انتظار ممل.. وتسويف.. ووعود.. وتهديد ومنع ورفض.. بعضهم خضع للتهديد.. وبعضهم تم اعتقاله.. وكلهم تم احتجاز شاحناتهم حتى باتت ومئات الشاحنات المحملة بعشرات الآلاف من الأطنان من المواد الغذائية.. بعضها تم تخزينه بمخازن ما زالت تنتظر العبور الممنوع.. وكلهم يتم توجيههم إلى معبر كرم أبو سالم في سياق خطة إجهاضية ابتزازية واسعة لتعطيل ومنع قوافل الإغاثة وفك الحصار.. هناك آلاف الأطنان من المساعدات الإنسانية مازالت تنتظر وهناك مئات الناقلات ما زالت متوقفة في العريش.. ناهيك عن البوارج الأطلسية التي تستعرض قوتها في مياه المتوسط في مياه سيناء وغزة.

على أن أشد السلوكيات والممارسات إيلاماً يتجلى في التسويف واللامبالاة والإهمال إزاء معاناة العالقين من الغزيين العائدين من رحلة علاج من مرض مستعص أو إصابة فسفورية بترت منهم الأطراف.. أو حفرت على الجسد ندبة لن يمحوها الزمن.. (كان وفدنا شاهداً على نماذج منها)..،. إن مأساوية الوضع تستعصي على الكلمات.. خاصة وأن الجريمة المروعة في قطاع غزة ما تزال تتواصل.. وصورها في تكاثر.

طوفان من الأسئلة يحاصرني.. أحاول جادة أن أجد جواباً لما يجري في حصار غزة.. ولكن الأجوبة لا تأتي إذ سبقتها دمعة حارة موجعة.. دفعت بعشرات الأسئلة في دوامة الحصار لتراكم مزيد من أوجاع لم يعد للروح والنفس والجسم من قدرة للتعايش معها، أو احتوائها.. أكتفي منها بسؤالي الوجود والأخلاق: فهل نحن في حقبة من التيه وعودة الإنسان إلى ما قبل الوحشية؟ وأي انهيار أخلاقي سياسي هذا الذي يسوّغ حصار المدنيين والأبرياء.. ؟ فهل ينسى التاريخ حديث غزة.. وحكايتها مع الحصار والمعابر؟ إنه لحصار.. فيه إصرار على خنق غزة.. وإذلال لأهلها.. واستهداف لمقاومتها بالكسر تارة فإن لم ينفع ذلك فبتفجير الأوضاع وإحراج لحكومة المقاومة والانتصار في غزة.. وهدر لحقوق الإنسان.. حيث يموت المرضى ويعاني الأطفال ويتألم الشيوخ ويعذب الرجال والنساء، بل تموت الطيور والحيوانات.

في أعناقنا أمانة.. ونتحمل مصير مليون ونصف إنسان من أهلنا وبني قومنا ومجاهدينا… نتحملها أفراداً وجماعات حكاماً ومواطنين.. كباراً وصغاراً.. شيباً وشباباً.. رجالاً ونساءً.. فلنتحرك الآن قبل الغد لرفع الحصار.. فالأمانة تقتضي بذلك أقصى الجهود.. وتحمل الصعاب (فكل الصعاب والمشاق تهون أمام هول المعاناة).. لا بد للمعبر أن يفتح.. وللحصار أن يكسر وإلى غير رجعة.. وبغير ذلك فإن العار واللعنة ستظل تلاحقنا وتلاحق أولادنا وأحفادنا من بعدنا.. فهذه غزة أنشودة الحرية… وعبقرية الكرامة… وعنفوان النار وشوكة الدم في حلق الغزاة.. إنها الأسطورة في زمن التقاعس إذ ترسم بالأحمر خيط الضياء.

[email protected]

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات