الأولوية الفلسطينية: إفشال حل الدولتين

صحيفة العرب القطرية 19/3/2009
لعقود طوال وإقامة الدولة الوطنية في المركز من برنامج الحركة الوطنية الفلسطينية. في المرحلة الأولى من بروز منظمة التحرير، قبل أن تصبح حركة «فتح» قوتها الرئيسة في العام 1968، وخلال السنوات الأولى من قيادة «فتح» للحركة الوطنية، لم يشكل هدف الدولة مشكلة ملموسة للحركة الوطنية. بإجماع الفلسطينيين -قيادات وقوى سياسية وشعباً- على هدف التحرير الكامل وإقامة الدولة على كل فلسطين، اقتصر الخلاف على التصور الاجتماعي للدولة، وعلى مكان السكان اليهود في هذه الدولة. ولكن تحولاً كبيراً وقع في البرنامج السياسي للحركة الوطنية في العام 1974، نجمت عنه خلافات جوهرية في الجسم السياسي الفلسطيني، ودفع منظمة التحرير إلى منحدر من التنازلات، لا يبدو أن هناك نهاية له بعد.
تحت الضغط الهائل لتسارع العملية السلمية، والضغوط السوفيتية، تبنت المنظمة برنامج النقاط العشر الذي دعا إلى إقامة سلطة وطنية على أي جزء يحرر من الأراضي الفلسطينية. وقد قصد بالإعلان أن يكون مبهماً لتفادي الانقسامات الداخلية، ولكن اتجاه الريح وتوازنات القوى السياسية كانت تشير إلى أن المقصود بأي منطقة تحرر ليس أكثر من الضفة الغربية وقطاع غزة. وهذا ما سيصبح أكثر وضوحاً بعد ذلك، عندما دفعت المنظمة إلى إقرار مبادرة مؤتمر فاس، ثم المضي نحو إدانة العمل المسلح، والاعتراف بالدولة العبرية، والقبول بشروط بيكر للمشاركة في مؤتمر مدريد العام 1991. ولأن مدريد لم يوفر مشاركة صريحة ومباشرة لمنظمة التحرير، فقد عملت قيادة المنظمة في تونس على سحب البساط من تحت أقدام الوفد الفلسطيني المفاوض في واشنطن بإطلاق عدة قنوات تفاوضية سرية مع الإسرائيليين في أوروبا. إحدى هذه القنوات وجدت في النهاية قبولاً من قيادة الحكومة الإسرائيلية (رابين/بيريز)، وأصبحت القناة التي سينتج عنها اتفاق أوسلو الشهير في العام 1993. ولكن أوسلو -رغم حجم التنازلات الفلسطينية الهائلة- أثبت في النهاية أنه اتفاق غير قابل للتطبيق كلية، وما كاد طرفا الاتفاق يصلان إلى نهاية الهامش الإسرائيلي المسموح به لإدارة فلسطينية ذاتية، حتى توقف عن العمل. ومنذ فشل مباحثات كامب ديفيد العام 2000 حول الاتفاق النهائي، بدأت القيادة الفلسطينية دورة ثالثة من التنازلات، وهدفها الأكبر لم يزل إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
أحد أهم أسباب انكسار الإجماع الفلسطيني خلال العقود الثلاثة الماضية، أن التراجعات السياسية واكبت الصعود الحثيث في قوة وتأثير التيار الإسلامي السياسي. كما في حقبات تاريخية سابقة، أصبح الانتماء الإسلامي، هذه المرة في تعبيره السياسي، جدار الفلسطينيين في مواجهة الاحتلال والهيمنة الإسرائيلية. ولأن الإسلاميين الفلسطينيين الجدد لم يكونوا في وارد المساومة على تصورهم لفلسطين ومستقبلها، فقد بدأت بوادر انشقاق سياسي عميق في الساحة الفلسطينية.
طالما كانت قيادة المنظمة خارج فلسطين، وكانت المنظمة الطرف الفلسطيني الأوحد في حركة التفاوض العربية والدولية حول فلسطين، لم يكن لانهيار الإجماع الفلسطيني من وقع كبير. ولكن تأسيس سلطة الحكم الذاتي في العام 1994 وضع الفلسطينيين وجها لوجه أمام انهيار إجماعهم السياسي، وهو الأمر الذي تصاعد تفاقماً إلى أن يصل إلى الصدام الداخلي الدموي، وانقسام حكومة السلطة الذاتية والقطاع عن الضفة في صيف 2007. بيد أن هدف إقامة الدولة الفلسطينية بأي ثمن من الأثمان، لم يزل هو الإطار المرجعي للنضال الوطني. وتحت الضغوط السياسية المتعاظمة، فلسطينياً وعربياً ودولياً، حتى حركة حماس حاولت على نحو أو آخر أن تجد مساحة التقاء مع هدف الدولة الفلسطينية بطرح فكرة الهدنة طويلة المدى، متجنبة الاعتراف بالدولة العبرية. ما يستدعي إعادة النظر في خطاب الدولة الفلسطيني، أن هذا الخطاب وصل إلى حائط مسدود. اليوم، والأطراف الفلسطينية المختلفة تلتف حول هدف الدولة المستقلة، وخارطة القوة والواقع الملموس أسوأ بكثير من منتصف السبعينيات، يبدو هدف إقامة دولة على كل المناطق المحتلة في العام 1967 بما في ذلك القدس الشرقية، ليس أكثر من وهم. وإن واصل الفلسطينيون الإصرار على إقامة الدولة، فسرعان ما سيكذب الواقع الكثير من الوعود التي يحملها دعاة هذا الهدف.
ثمة ما يزيد عن نصف مليون مستوطن يهودي يعيشون الآن في شرق القدس ضمن بلدية القدس الموسعة وفي المستوطنات الإسرائيلية الأخرى في الضفة الغربية، المستوطنات التي أصبح بعضها مدناً. وقد أدى هذا التغول الاستيطاني إلى اقتطاع أراض هائلة في جوار القدس، في كافة أنحاء الضفة الغربية، ولتوفير طرق سريعة بين الكتل الاستيطانية وقلب الدولة العبرية. كما اقتطعت مساحات أخرى بفعل بناء الجدار الفاصل فوق أراضي الضفة وفي العمق من مناطق الحكم الذاتي. وبقبول المفاوض الفلسطيني مبدأ تبادل الأراضي، فإن أحداً لا يعرف على وجه اليقين ما هي مساحة الأرض المتبقية من الضفة لإقامة الدولة العتيدة، وإلى أي حد ستكون مناطق الضفة الغربية متصلة ببعضها البعض، وكيف سيتحقق اتصالها بقطاع غزة. ولكن خلف المشهد التفاوضي ما هو أسوأ، فالإسرائيليون يصرون على أن القدس الموحدة ستبقى تحت سيادتهم، وربما لن يسمح للفلسطينيين بأكثر من وجود رمزي في المدينة، كما يصرون على السيطرة على الحدود الفلسطينية-الأردنية في منطقة الأغوار، وعلى رفض عودة ملموسة للاجئين الفلسطينيين، وعلى سيادة فلسطينية محدودة على أراضي دولتهم، ويخططون لطرد أغلب فلسطينيي 1948. الدولة الفلسطينية المنشودة –باختصار- لن تكون إلا مجرد نسخة مختصرة ومشوهة من الضفة 1967، وستكون -بأرضها وسمائها وشعبها- خاضعة لهيمنة إسرائيلية سياسية واقتصادية.
الدولة الفلسطينية -كما روجت للمرة الأولى في السبعينيات- لم يعد لها أدنى وجود. وإن استمرت القيادة الفلسطينية الحالية في السعي خلف هدف إقامة الدولة مهما كانت التكاليف، فإن الثمن الذي سيدفعه الفلسطينيون سيكون باهظاً. الخيار الآخر بالطبع هو إقامة دولة فلسطينية في الأردن، بعد أن أصبح من المستحيل إقامة دولة قابلة للحياة في الضفة الغربية. في الحالتين، ستكون العواقب باهظة. في دولة فلسطينية بائسة الحدود والسيادة، ستتحول الجيوب الفلسطينية إلى ساحات صراع سياسي حاد بين القوى الفلسطينية المختلفة، صراع تغذيه خيبة الأمل وانهيار الإجماع. وفي دولة فلسطينية مركزها الأردن، سينشب صراع أردني-فلسطيني لا أول له ولا آخر، يتسع سريعاً ليشمل الإقليم كله. في كلتا الحالتين، سينتقل النضال الفلسطيني كلية من نضال وطني من أجل التحرر والاستقلال والحقوق التاريخية، إلى صراع أهلي من أجل السلطة والثروة والدور.
تشهد جلسات الحوار الوطني في القاهرة تدافعاً فلسطينياً حاداً يمس عدداً كبيراً من الملفات. إن أحداً لا يمكنه التهوين من ضرورة إعادة اللُّحمة للجسم الفلسطيني السياسي، ولكن الأولوية الفلسطينية الحقيقية ليست في ملفات الحوار الوطني، بل في النقيض الكامل والمباشر للهدف الذي يستبطنه الحوار الوطني. الهدف الحقيقي للحوار الوطني هو توفير تفويض فلسطيني وطني للرئيس عباس وفريقه من أجل مواصلة التفاوض حول الحل النهائي، التفاوض الذي يدور حول الهدف إياه: إقامة الدولة الفلسطينية. ولكن الأولوية الفلسطينية لا بد أن تكون شيئاً مختلفاً تماماً: إفشال مفاوضات الحل النهائي والتخلص كلية من هدف إقامة الدولة والثمن الباهظ الذي يترتب على الحركة الوطنية دفعه لتحقيق هذا الحلم البائس.
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

الهيئات الإسلامية: الاعتداء على ساحة الشهابي سياسة تهويدية لتطويق الأقصى
القدس – المركز الفلسطيني للإعلام قالت الهيئات الإسلامية في القدس أن اعتداء سلطات الاحتلال الإسرائيلي على ساحة "الشهابي" التاريخية داخل البلدة...

حماس: مجزرة البريج جريمة حرب بشعة تضاف للسجل الأسود للاحتلال
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام قالت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، إن مجزرة مدرسة أبو هميسة في مخيم البريج، والتي كانت تؤوي نازحين، جريمةٍ جديدةٍ...

بلدية جباليا تحذر من كارثة وشيكة لتراكم النفايات
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام حذرت بلدية جباليا النزلة، يوم الثلاثاء، من انتشار وتراكم كميات النفايات في مناطق نفوذها، مع عدم مقدرة طواقم العمل على...

الاحتلال يشرع بهدم منازل في مخيم نور شمس شمال الضفة
طولكرم – المركز الفلسطيني للإعلام شرعت جرافات الاحتلال الإسرائيلي، الثلاثاء، بهدم عدد من المباني السكنية في مخيم نور شمس شرق مدينة طولكرم شمال الضفة...

20 شهيدا وعشرات الجرحى بمجزرة مروعة وسط غزة
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام ارتكبت قوات الاحتلال الإسرائيلي، مساء اليوم الثلاثاء، مجزرة مروعة بحق النازحين، عقب قصف الطيران الحربي لمدرسة تُؤوي...

الاحتلال يُمدد اعتقال 58 أسيرا إداريا
رام الله – المركز الفلسطيني للإعلام أفادت هيئة شؤون الأسرى والمحررين وجمعية "نادي الأسير الفلسطيني"، بأن سلطات الاحتلال الإسرائيلي أصدرت 58 أمر...

أنصار الله: الملاحة في المطارات الإسرائيلية غير آمنة
صنعاء- المركز الفلسطيني للإعلام أعلنت القوات المسلحة اليمنية "أنصار الله"، أن الملاحة الجوية في المطارات الإسرائيلية باتت غير آمنة، مشيرة إلى أن...