القدس عاصمة الثقافة العربية

صحيفة الاتحاد الإماراتية
لابد أن يذكرنا العنوان بقصيدة شهيرة لمظفر النواب تستحضرها الذاكرة كلما ذكرت مدينة القدس، وفيها سخرية صارخة من تهاون العرب وإهمالهم لمدينتهم المقدسة التي اغتصبها الصهاينة عام 1967 وبدؤوا على الفور بعمليات تهويدها والتخلص المبرمج من كل أثر للعروبة والإسلام والمسيحية فيها. وفي هذا العام 2009 أعلنت القدس عاصمة للثقافة العربية وانطلقت فعالياتها من أرض فلسطين وتعهدت كل الدول العربية في مؤتمري وزراء الثقافة العرب في مسقط 2006 ودمشق 2008 بتنفيذ برامج خاصة بهذه الاحتفالية التي يتضح أن هدفها تكثيف الاهتمام العربي بالقدس وتذكير العالم بكونها مدينة محتلة، وبأن كل إجراءات “إسرائيل” فيها باطلة، وأن الشعب الفلسطيني ليس المسؤول الوحيد عن القدس فهذه المدينة بشكل خاص تحمل المسيحيين في العالم مسؤولية كبرى للدفاع عنها وبخاصة بعد أن هجَّرت “إسرائيل” مسيحيي القدس الذين كانوا يشكلون خمسين في المئة في مطلع القرن العشرين، وقد انخفضت نسبتهم إلى أقل من عشرة في المئة، وهم في تناقص مستمر، مع أن المدينة مقدسة مسيحياً ففيها ترعرع السيد المسيح وفيها انعقد أول مجمع مسكوني.
وعلى رغم أن الفاتيكان انتقد سيطرة “إسرائيل” على الأماكن المسيحية المقدسة إلا أن “إسرائيل” لا تهتم بأي انتقاد. والقدس كذلك مسؤولية المسلمين في العالم لأنها مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله. كما أن القدس مسؤولية دولية لأن العالم مسؤول عن تنفيذ قرارات مجلس الأمن. وعلى رغم وفرة المسؤوليات الدولية فإن الفلسطينيين بخاصة والعرب مسلمين ومسيحيين أولاً، هم المطالبون أولاً بتحرير القدس وإنقاذها من الاحتلال. ومهمة احتفالية القدس أن تحرك السواكن في المشاعر الباردة نحو قضية العرب الكبرى، ومن المعروف أنه لا يموت حق وراءه مطالب، وأما الحق الذي يتنازل عنه أصحابه طوعاً فسيصير حلالاً رغداً على من اغتصبه. ولئن كان الوجدان العربي الإسلامي والمسيحي العام مسكوناً بالقدس فإن الجانب الرسمي يبدو وكأنه يغض الطرف عن حركة التهويد التي تحدث اليوم بقوة وتسارع، ويبدو إصرار “إسرائيل” على جعل القدس عاصمة لها مسألة غير قابلة للتفاوض سلمياً حول أكثر من منطقة صغيرة من بقايا البلدة القديمة في القدس الشرقية التي يهجر سكانها منها اليوم وتهدم بيوتهم ونحن نتذكر ما عرضته “إسرائيل” مراوغة في كامب ديفيد الثانية حين قسمت الحلول إلى ما فوق الأرض وما تحت الأرض، وإلى رقعة صغيرة مهددة بالانهيار لكثرة ما حفر فيها من أنفاق. وسياسة “إسرائيل” في تهويد القدس تنفذ رؤية استراتيجية قديمة أعلنها هرتزل مؤسس الصهيونية حيث قال في مؤتمر بال بسويسرا عام 1896 “إذا حصلنا ذات يوم على القدس فسوف نزيل كل ما هو غير مقدس عند اليهود، وسوف ندمر الآثار التي مرت عليها القرون”. وللأسف تمكنت “إسرائيل” من تحقيق حلم هرتزل أمام عيون العرب والعالم وفرغت القدس من عروبتها واستأصلت كل أثر لتاريخ المدينة الكنعانية العربية الأصيلة.
وعلى رغم تمسك الفلسطينيين بأرضهم ودفاعهم المستميت عنها إلا أن القتل اليومي المريع والجرافات التي أعلن أولمرت مؤخراً ضرورة عودتها إلى هدم المنازل العربية وكل البنى التحتية حولها، ومطالبة ليفني العلنية بطرد كل عرب الـ48، يجعل المقدسيين في خطر، وهم عاجزون وحدهم عن تحمل هذه المسؤولية التي ينبغي أن تنهض بها الأمة الإسلامية كلها.
وكانت الحكومة الإسرائيلية قد عملت وفق خطة منهجية لتهويد القدس منذ عام 1973 أيام غولدا مائير حيث أوصت لجنة وزارية بألا يتجاوز عدد السكان العرب 22 في المئة من مجموع السكان آنذاك، وسارعت الحكومات المتعاقبة لسحب هويات العرب واستقدمت عشرات الآلاف من المستوطنين واختارتهم من اليهود المتطرفين. كما استولت على مئات الدونمات من الأراضي العربية حول القدس. وفي التسعينيات وسعت المدينة إلى القدس الكبرى التي ضمت عدة مستوطنات مجاورة باتت يهودية صرفة مثل جبل أبو غنيم، وأخيراً أقامت جدار الفصل العنصري. وقد لقيت دعماً كبيراً في تنفيذ مخططها من دول أوروبية كبرى صمتت على هذا التعدي، كما دعمها بعض أعضاء الكونجرس الأميركي، ونذكر هنا مشروع قرار قدمه “برودنباك” عام 2005 للاعتراف بالقدس عاصمة ل”إسرائيل” ومنع تقسيمها. ونحن ندرك حجم الالتفاف الخطير على الشرعية الدولية منذ “اتفاقات أوسلو” التي أبقت القدس إلى ما سمته مفاوضات الحل النهائي ووضعتها خارج نطاق السلطة الفلسطينية.
والخطر أن يشتغل الساعون إلى السلام اليوم على تسويات تضيع معها حقوق العرب والمسلمين والمسيحيين في القدس، وهي المدينة التي ضمت كل الديانات في تاريخها. بل إن الخليفة عمر رضي الله عنه لم يكن يمانع من وجود اليهودية فيها لولا إصرار مسيحيي القدس على ألا يساكنهم فيها يهود كما جاء في الوثيقة العمرية. والمفارقة أن الإسرائيليين بذلوا جهوداً مضنية للبحث عن جذور لهم في القدس وعن الهيكل المزعوم فلم يجدوا شيئاً ولن يجدوه. وبعض المؤرخين الإسرائيليين ضاقوا ذرعاً بالطموحات السياسية التي تبحث عن ذرائع تاريخية فأعلن المنصفون منهم أنهم لم يجدوا في التوراة أية مصداقية تاريخية، وقد ذكرت في مقال لي عن تل القاضي الذي تريد “إسرائيل” أن تسجله باسمها على لائحة التراث العالمي وهو موقع سوري في الجولان المحتل قول يسرائيل فنكلشتاين (وهو رئيس المعهد الأركيولوجي في جامعة تل أبيب): “لم يظهر التنقيب أي أثر مادي يؤكد رواية التوراة. لقد فقد كتاب التوراة أهميته كمصدر تاريخي فهذا الكتاب هو وثيقة متأخرة جداً كُتبت فصولها الأولى في القرن السابع وفق منظور لاهوتي وأيديولوجي وسياسي”. والإسرائيليون ينتظرون الانتهاء من تهويد القدس لإعلانها عاصمة أبدية، وليطالبوا الولايات المتحدة بنقل سفارتها إلى القدس، وسيلحق بها حلفاؤها، ومن الخطر أن يصبح ذلك واقعاً ولاسيما أن الأبحاث السياسية تمهد له بقوة وتعرض مناطق عربية مجاورة مكاناً لإقامة الفلسطينيين.
ومن أهداف الاحتفال بالقدس عاصمة للثقافة العربية تعريف الأجيال العربية الشابة بمدينتها المغتصبة ودورها العظيم في إثراء ثقافة الأمة عبر العصور وتنبيه العالم إلى خطورة التهاون الدولي إزاء ما تفعله “إسرائيل”، ولكي لا نكون متشائمين أو يائسين فإن بوسعنا أن نذكر الأجيال بأن القدس تعرضت للاحتلال الصليبي مائتي عام، وقد حول الصليبيون المسجد الأقصى إلى إسطبل، ولكن التمسك الوجداني بها مكن الشعب العربي والمسلم من تحريرها حين وحد القائد صلاح الدين الأيوبي مصر وسوريا وكل قوى الأمة التي تختزن إلى اليوم في وجدانها تعلقاً ضخماً بالقدس، فقد ولدت منظمة المؤتمر الإسلامي حين تعرض الأقصى لحريق عدواني عام 1969، كما قامت انتفاضة الأقصى الضخمة دولياً يوم اقتحم شارون المسجد، وأحسب أنه كان يريد أن يختبر موقع القدس عند المسلمين، وأن يتأكد من وجود أمة إسلامية، وقد فوجئ بقوة ما وجد، وهذه القوة الكامنة في الأمة تحتاج باستمرار إلى فعل ثقافي يحرك سكونها كي تنهض بالمسؤولية وتستعيد القدس وكل الأراضي العربية المحتلة. ونحن إذ نبارك لأشقائنا الفلسطينيين والمقدسيين بخاصة إطلاق احتفالية القدس، فإننا ندعو إلى أن يكون الاحتفال بالقدس ذا بعد عملي عبر تأهيل البنى الثقافية في القدس وإقامة مشاريع عربية فيها وتمكين العرب من البقاء، في بيوتهم وهم يمسكون جمر الحق بأيديهم ويناضلون نيابة عن الأمة كلها.
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

حماس تهنّئ البابا ليو الرابع عشر لانتخابه رئيسًا للكنيسة الكاثوليكية
المركز الفلسطيني للإعلام تقدّمت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بأصدق التهاني والتبريكات إلى البابا ليو الرابع عشر، بمناسبة انتخابه رئيسًا للكنيسة...

الحصاد المر لـ 580 يومًا من الإبادة الجماعية في غزة
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام نشر المكتب الإعلامي الحكومي ينشر تحديثاً لأهم إحصائيات حرب الإبادة الجماعية...

رامي عبده: خطة المساعدات الأميركية الإسرائيلية أداة قهر تمهد لاقتلاع السكان من أرضهم
المركز الفلسطيني للإعلام قال رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، رامي عبده، إن الخطة الأميركية‑الإسرائيلية التي تقضي بإسناد توزيع مساعدات محدودة...

قتلى وجرحى بتفجير القسام مبنى بقوة من لواء غولاني في رفح
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام قتل عدد من جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي وأصيب آخرين في رفح، اليوم الخميس، وفق وسائل إعلام إسرائيلية، فيما قالت كتائب...

شهيد وجرحى في سلسلة غارات إسرائيلية على جنوب لبنان
بيروت - المركز الفلسطيني للإعلام استشهد مواطن لبناني وجرح آخرون، في سلسلة غارات شنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على جنوبي لبنان، اليوم الخميس، على ما...

حصيلة الإبادة ترتفع إلى أكثر من 172 شهيدا وجريحا
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أفادت وزارة الصحة بغزة، اليوم الخميس، بأن مستشفيات القطاع استقبلت 106 شهداء، و367 جريحا وذلك خلال 24 الساعة الماضية...

الادعاء الروماني يحيل شكوى ضد جندي إسرائيلي إلى النيابة العسكرية
بوخارست - المركز الفلسطيني للإعلام أعلنت مؤسسة “هند رجب” أن المدعي العام في رومانيا أحال الشكوى التي تقدمت بها المؤسسة ضد جندي إسرائيلي إلى مكتب...