الأحد 11/مايو/2025

التحدي التاريخي الذي يواجه الأمة

التحدي التاريخي الذي يواجه الأمة

صحيفة الخليج الإماراتية

قام رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي جون كيري، على رأس وفد من المجلس، بزيارة “إسرائيل”، تفقد خلالها مستعمرة سيدروت في جنوبي فلسطين المحتلة. ثم قام على هامشها بزيارة خاطفة لقطاع غزة شملت المدرسة الأمريكية التي قصفتها طائرات “الإف 16” ومروحيات “الأباتشي” المهداة من الإدارة الأمريكية. والبون بعيد بين ما قام به وقاله في الحالين. إذ في زيارته سيدروت صحبته وزيرة الخارجية “الإسرائيلية” ليفني، فيما تجنب لقاء أي من مسؤولي القطاع تحسباً من أن يكون من حماس، ويقع في تجاوز قرار الكونجرس الذي يمنع الاتصال بها باعتبارها مصنفة أمريكياً كمنظمة “إرهابية”.

والسيناتور كيري الذي بدا مشرقاً وهو يستمع لزعيمة كاديما. لم يتجاهل فقط أنها واحدة من المسؤولين الثلاثة عن المحرقة التي دمرت القطاع، وأودت بحياة ما يجاوز الألف من مواطنيه المدنيين، من أطفال ونساء وشيوخ، وإنما هي أيضاً موسادية النشأة، وتفخر بماضيها الإرهابي في ملاحقة المناضلين العرب في أوروبا. فيما حرص على تجنب لقاء أي من أعضاء حكومة هنية، صاحبة الأكثرية في المجلس التشريعي الفلسطيني، الذي أجريت انتخاباته مطلع العام 2007 تحت رقابة دولية برئاسة أمريكية.

ثم إن السيناتور كيري لم يكتف بما أبداه من تعاطف مع مستوطني سيدروت، وما بدا عليه من تقبل لكل ما أسمعته إياه تسيبي ليفني في تبريرها المحرقة الصهيونية للقطاع بشراً وعمراناً، بدليل أنه لم يتردد وهو ينقل البصر بين الدمار الذي أحدثته، من أن يؤكد “حق “إسرائيل”” في الدفاع عن نفسها ضد إطلاق الصواريخ عليها، متجاهلاً أن المقاومة إنما مارست حقاً مشروعاً في القانون الدولي ضد احتلال غير مشروع في نظر الشرعية الدولية ومخالف لقراراتها، فضلاً عن انعدام التناسب بين ما أحدثته صواريخ المقاومة، وما أوقعته آلة الحرب الصهيونية من دمار شامل كان يقف على بعض أطلاله. علاوة على التمايز الكيفي في تأكيد “حق “إسرائيل”” الدولة المحتلة الأرض والمغتصبة للحقوق في الدفاع عن نفسها، وبين مجرد التعاطف مع ضحايا عدوانها من دون أن يرفق تعاطفه بكلمة عن حقوقهم الوطنية المشروعة.

وما صدر عن السيناتور كيري ليس إلا من بعض النهج الأمريكي المعتمد منذ آلت للإدارة الأمريكية رعاية المشروع الصهيوني في أعقاب مؤتمر بلتيمور سنة 1942. وهو نهج طالما وصف في الأدبيات العربية بأنه ممارسة “ازدواجية المعايير”، يعيدها الكثيرون لفعالية جماعة الضغط “اللوبي” اليهودي في دوائر صناعة القرار السياسي والإعلامي الأمريكي، في حين إنه التطبيق الأمريكي لاستراتيجية إدارة قوى الهيمنة والاستغلال الدولية في صراعها التاريخي مع الأمة العربية للموقع الذي يحتله وطنها، وما يزخر به من موارد طبيعية، وخاصة النفط، فضلاً عن التحسب من إمكانية استعادتها ما عرفت به من قدرة فذة على التصدي للغزاة وتطهير ثراها من دنسهم. وهي استراتيجية قديمة نادى بها نابليون سنة 1799، مستبقاً هرتزل ومؤتمر بازل الصهيوني بنحو مائة عام، عندما دعا اليهود للعودة من التيه إلى فلسطين، وإقامة دولتهم فيها بدعم فرنسا، وإثبات وجودهم السياسي كأمة من الأمم.

ولم يكن نابليون بروتستانتياً، بحيث يمكن أن يقال إنه انطلق من إيمان بنبوءات التوراة، ولا كان في فرنسا على عهده جماعة ضغط يهودية مؤثرة في صناعة قراره. ولكنه بفكره الاستراتيجي، وبمعونة من صحبه من العلماء، لم يفته بعد فشله في اقتحام عكا وقهر إرادة المقاومة في مصر، إدراك أنه أمام أمة مستحيل النفاذ إليها إلا بالعمل على تمزيق وحدتها بزرع تركيب بشري غريب في الزاوية الحرجة من وطنها الواصلة بين جناحيه الآسيوي والإفريقي.

ذلك ما دعا له نابليون حين كان ممتلئاً بالطموح الإمبراطوري وقيادة الاستعمار الأوروبي، وحين آلت مقاليد القيادة للإمبراطورية البريطانية أحيت دعوة نابليون في أعقاب ما أظهرته حملة إبراهيم باشا على بلاد الشام من قوة الجذب بين العرب، الأمر الذي دفعها لتشكيل “الإجماع الأوروبي” الذي فرض على محمد علي سحب جيوش مصر من بلاد الشام، وتوقيع اتفاقية لندن سنة 1840، التي قضت بحصر نفوذه في بلاد الشام. وتحسباً من أن يقوم بمصر من يكرر تجربة محمد علي، ولاتقاء الخطر المحتمل جرت إعادة طرح فكرة الحاجز البشري اليهودي الغريب المعطل لتواصل العرب والكابح لفعالية مصر القومية. وهذا ما أعاده تأكيد “لجنة خبراء الاستعمار” التي شكلها رئيس وزراء بريطانيا كامبل بنرمان سنة 1907، وقدم له الصيغة القانونية بلفور سنة 1917 واعتمدته الأمم سنة 1922.

ولما كانت “ازدواجية المعايير” موضوع الشكوى العربية ليست سوى نتاج استراتيجية اعتماد المشرع الصهيوني الأداة الأمثل لتأصيل واقع التجزئة والتخلف والتبعية العربية كي يتواصل استغلال الوطن العربي موقعاً وموارد وأسواقاً وقدرات بشرية. وليس من الواقعية تصور ألا يكون في مقدمة اهتمامات قيادة قوى الهيمنة والاستغلال الكونية، أياً كان جنسها أو لونها السياسي تمكين أداتها الصهيونية أو أن يفرض عليها سلام أو تسوية تضعف دورها الاستراتيجي في منع تكامل العرب وإعاقة تطورهم، وعليه فإن ما أثارته زيارة كيري من تفاؤل عند المراهنين على إدارة أوباما المتمايزة ولا شك عن إدارة بوش ليس إلا أمنيات رغائبية مستحيلة التحقق في الواقع الراهن.

ويعلمنا تاريخ الصراع العربي الصهيوني الممتد أن السلام الذي يريده ويرضاه تحالف التجمع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني ورعاته على جانبي الأطلسي إنما هو المتمثل بقبول الأمر الواقع بما فيه من احتلال للأرض وإهدار للحقوق العربية المشروعة، والتنكر للقرارات الدولية كافة. وذلك ما رفض عربياً منذ النكبة، فكيف الحال ولم يعد ميزان القدرات والأدوار مختلاً لمصلحة التحالف الاستعماري الصهيوني، كما كانت عليه الحال يومذاك. وبالمقابل، فإن المقاومة مع تقدير كل ما بلغته من قدرة والالتفاف الشعبي الذي تجلى من حولها لما يزل أمامها الكثير لتوفير الآلية العربية القادرة على فرض السلام العربي بشروطه الدنيا. والمرجح في ضوء نتائج الانتخابات الصهيونية وقوع عدوان صهيوني جديد سعياً لتحقيق ما فشلت فيه المحرقة. وليس غير تكامل القوى العربية سبيلاً ليس فقط لإلغاء تداعيات المأزق الصهيوني، وإنما أيضاً للدفع باتجاه تعميقه. وذلك لا يكون إلا بالحوار البناء لتوفير الثقة والتفاعل الإيجابي بين شركاء المسيرة والمصير، وهذا هو التحدي الذي يواجهه الجميع من غير استثناء.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات