كي لا يدور ميتشيل في ذات الحلقة المفرغة!

صحيفة الحياة اللندنية
دلائل كثيرة تشير إلى أن الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما بدأ بالفعل في وضع قضية إحلال السلام في الشرق الأوسط ضمن أولويات سياسته الخارجية بدليل قيامه فور دخول البيت الأبيض، بتعيين جورج ميتشيل، الذي يزور المنطقة حالياً للمرة الثانية منذ توليه منصبه، مبعوثاً خاصاً له في الشرق الأوسط. وها هي السيدة هيلاري كلينتون، تقوم بزيارتها الأولى إلى المنطقة كوزيرة للخارجية. غير أن إبداء الاهتمام بالمنطقة، بالإكثار من زيارتها، لا يشكل ضماناً للنجاح. فعدد الزيارات التي قام بها مبعوثون أميركيون للمنطقة في الفترة الأخيرة لا يعد ولا يحصى. ويكفي أن نتذكر هنا أن كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، قامت خلال السنة الماضية وحدها بما لا يقل عن اثنتي عشرة زيارة للمنطقة، أي بمتوسط زيارة واحدة على الأقل كل شهر، وهو يمثل أعلى معدل زيارات يقوم بها مسؤول أميركي على هذا المستوى لأي منطقة في العالم.
لست في حاجة إلى القول إن منطقة الشرق الأوسط لم تعد في حاجة لأن يُكثر المسؤولون الأميركيون من زيارتهم لها، بقدر ما هي في أمس الحاجة لأن يقوموا بإدخال تغييرات جذرية على سياساتهم تجاهها. فكل مسؤول أميركي لديه أدنى دراية بالمنطقة يدرك بالضبط أي نوع من التغيير يتعين إدخاله على سياسة بلاده تجاه المنطقة، وأن المطلوب لم يعد تغيير المواقف أو التوجهات العامة وإنما تغيير النهج الذي سارت عليه الإدارات الأميركية المختلفة في تعاملها مع الصراع العربي – الإسرائيلي منذ سنوات. ومن المعروف أن جميع الإدارات الأميركية بدت شديدة الحرص على وجود «عملية سلام» وعلى إبقاء هذه «العملية» حية قدر الإمكان، أكثر من حرصها على تحقيق السلام، بل و بات واضحاً لكل من يهمه الأمر أن «العملية» لم تصمم أصلاً لصنع السلام وإنما لشراء وقت كانت “إسرائيل”، ولا تزال، تحتاجه لخلق حقائق جديدة على الأرض، بتكثيف الاستيطان، بخاصة حول مدينة القدس التي قامت بتوسيع رقعتها كثيراً، وإقامة جدار فصل عنصري حول «كانتونات» تسعى لعزل الفلسطينيين وحصارهم داخلها!. وفي تقديري أن «اللعبة» انتهت بعد أن انكشفت تماماً ولم يعد ممكناً الاستمرار فيها.
لذلك نقول بكل الوضوح والصراحة إن المطلوب من أوباما هو صنع السلام الآن وليس تصميم «عملية» جديدة لإضاعة الوقت في بيع وهم السلام. ويفرض صنع السلام، وليس تصميم «عملية سلام» جديدة، على الإدارة الأميركية أن تشرع فوراً في مطالبة الحكومة الإسرائيلية أياً كان الشخص الذي سيتولى رئاستها، قبول المبادرة العربية للسلام كأساس للتسوية من دون أي تحفظات، وليس مجرد قبول التفاوض عليها. وكي يثبت رئيس الوزراء الإسرائيلي القادم حسن نيته، عليه أن يقوم فوراً، وقبل أن تبدأ أي عملية تفاوض جديدة مع العرب أو مع الفلسطينيين، بإصدار إعلان مشفوع بخطاب رسمي ينص صراحة على ما يلي:
1- أن جميع الأراضي العربية التي استولت عليها “إسرائيل” في حرب 67، بما فيها القدس الشرقية، هي «أراض محتلة» وليست أراضي «متنازعاً عليها»، وأن “إسرائيل” تلتزم بالانسحاب منها بالكامل في إطار تسوية شاملة للصراع بموجب قرار مجلس الأمن رقم 242 لسنة 1967. فمن دون إصدار إعلان مسبق بهذا المعنى سيدخل العرب من جديد في دوامة «مفاوضات عبثية» لا تعكس سوى حوار طرشان، ولن يكون لذلك سوى معنى واحد هو قبول العرب مسبقاً بالتفسير الإسرائيلي للقرار 242 والذي مفاده أن الأراضي التي استولت عليها سنة 67 متنازع عليها، وبالتالي تخضع للتفاوض والمساومة. وإذا حدث ذلك فسوف يظل الإسرائيليون يماطلون، من خلال مفاوضات شكلية، لسنوات طويلة أخرى إلى أن يتم ابتلاع ما تبقى من أراض وزرعها بالمستوطنات.
2- أن جميع المستوطنات التي أقيمت على الأراضي المحتلة بعد 67، وليس فقط المستوطنات أو «البؤر العشوائية» التي أقيمت من دون تصريح من الحكومة الإسرائيلية، غير شرعية ومن ثم يتعين القيام بتفكيكها وإزالتها قبل الدخول في أي تفاوض جديد. أي أن المطلوب ليس فقط وقف بناء مستوطنات جديدة وإنما البدء فوراً في تفكيك ما هو قائم منها كإجراء لبناء الثقة!. ويجب أن يكون مفهوماً هنا أن هذا البند يعد امتداداً ونتيجة طبيعية للقبول بما ورد في البند الأول. فالاعتراف بأن الأراضي المستولى عليها عام 67 هي أراض محتلة يعني الاعتراف بعدم شرعية، وبالتالي بطلان، كل الإجراءات التي أدت إلى تغيير معالمها.
3- أن “إسرائيل” تتحمل المسؤولية كاملة عن المأساة التي حلت باللاجئين الفلسطينيين منذ حرب 48 وأن الحل العادل لقضيتهم، وفق نص قرار مجلس الأمن رقم 242، يعني القبول بتطبيق قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 لسنة 1949، وبالتالي عودة جميع من يرغب منهم وفق جدول زمني يتم الاتفاق عليه بين العرب مع الفلسطينيين ومع الدول العربية المعنية. ويجب أن يكون واضحاً هنا أيضاً أن حقوق الإنسان الفردية والجماعية ليست قابلة للتنازل ولا تسقط بالتقادم، وأن الرضوخ للفكرة التي تروج لها “إسرائيل” وهي أن هذه العودة تشكل تهديداً ليس فقط لأمن “إسرائيل” وإنما ليهودية الدولة الإسرائيلية، يعني القبول ضمناً بعدم التكافؤ في الحقوق والواجبات بالنسبة إلى طرفي التسوية والتنازل صراحة عن حق الإنسان العربي في الأمن لصالح أمن المواطن الإسرائيلي فقط.
4- قبول الفتوى الصادرة عن محكمة العدل الدولية حول الجدار والالتزام بتنفيذ ما جاء فيه فوراً، أي بالشروع في هدم الجدار فوراً وتعويض كل الذين تضرروا من بنائه.
لا أتوقع بالطبع أن يتبنى جورج ميتشيل، أو السيدة هيلاري كلينتون هذا النهج. بل يخيل إلي أنني أكاد ألمح ابتسامات ترتسم على شفاه القراء ولسان حالهم يقول: ما الذي جرى لصاحبنا الذي اعتدنا منه على تحليلات واقعية رصينة، وليس على شطحات خيال جامع أو أضغاث أحلام. وأظن أن حجتهم في ذلك مبنية على استحالة قبول “إسرائيل” أو الولايات المتحدة بمطالب من هذا النوع كأساس للتسوية. ولهؤلاء أقول إنني على يقين من أنني لا أزال أحمل رأسي فوق كتفي، ولا أعتقد أنني طرحت أي شيء يتجاوز ما هو منصوص عليه في «مبادرة عربية» صممت أصلاً وفق منطق الحد الأدنى!. كل ما في الأمر أنني قمت بتفسير هذه المبادرة، ثم بإعادة صياغتها في مطالب واضحة يتعين، في تقديري، أن تشكل جوهر الموقف التفاوضي العربي في المرحلة المقبلة، كي لا يقع العالم العربي مرة أخرى ضحية الأساليب الإسرائيلية الملتوية والمعروفة في المماطلة والابتزاز. ولأن المشكلة الحقيقية باتت كامنة فينا نحن، وليس في الطرف الإسرائيلي، فقد اعتدنا كثيراً، ربما بدافع الخوف، على رؤية أنفسنا في المرايا الإسرائيلية والنظر إلى حقوقنا بعيون إسرائيلية إلى درجة أننا أصبحنا حريصين على تجديد الخطوط الفاصلة بين الممكن وغير الممكن أو حتى المشروع وغير المشروع، من منظور ما قد يكون مقبولاً إسرائيلياً. وهذا النوع من التفكير ليس خاطئاً فقط ولكنه بالغ الخطورة أيضاً.
وأياً كان الأمر، يحتاج العالم العربي إلى إعادة بناء استراتيجيته التفاوضية في ظل متغيرات جديدة بدأت بوصول أوباما إلى السلطة ولن تنتهي بلحاق بنيامين نتانياهو به. وفي اعتقادي أن هذه التطورات الجديدة تفيد الموقف التفاوضي العربي ولا تضره، بعكس ما قد يعتقد الكثيرون. فاليمين الإسرائيلي أصدق في تعبيره عن حقيقة المشروع الصهيوني من يسار استمرأ الخداع والتضليل وأتقن فنون بيع الوهم لنا وللعالم كله. فالولايات المتحدة تدرك يقيناً أن مصر هي التي بدأت البحث الجاد عن تسوية للصراع العربي – الإسرائيلي عقب حرب تشرين الأول (أكتوبر) 73 مباشرة، أي منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاماً، وأن “إسرائيل”، بأحزابها اليمينية واليسارية هي التي أجهضت كل الفرص التي لاحت للتسوية، حيث تعاقبت على حكمها طوال هذه الفترة كافة ألوان الطيف السياسي من يمين ويسار. ويتعين على كل باحث منصف أن يدرك أيضاً أن “إسرائيل” لم تكن جادة في البحث عن تسوية حقيقية للصراع في أي لحظة من اللحظات، وأنها بنت استراتيجيتها طوال هذه الفترة على مفهوم «إدارة الصراع» وليس حله أو تسويته، والفرق كبير جداً بين المفهومين. لذلك فإذا كان أوباما حريصاً حقاً على إيجاد تسوية شاملة وحقيقية للصراع العربي – الإسرائيلي فعليه أن يجبر “إسرائيل” فوراً على تبني منهج حل الصراع وليس تسوية الصراع، وهو أمر لن يكون سهلاً أو ميسوراً.
ومع ذلك ففي اعتقادي أن أمام العرب فرصة سانحة لتوسيع الفجوة إلى أقصى حد ممكن بين الحكومة الإسرائيلية القادمة، خصوصاً إذا شكلها نتانياهو، وبين الإدارة الأميركية وعلى نحو يمكن أن يخدم موقف العرب التفاوضي كثيراً. ولتحقيق هذا الهدف يتعين على العالم العربي أن لا يستمع نهائياً، مثلما اعتاد دوماً من قبل، لأي نصائح بالتحلي بمرونة تسمح بممارسة الضغط على يمين إسرائيلي عنيد، بل عليه أن يظهر في هذه المرحلة تحديداً أقصى قدر من التشدد، وأن يسعى إلى تحسين موقفه التفاوضي بإعادة ترتيب بيته من الداخل وليس بتقديم تنازلات إلى حكومة نتانياهو. وإذا جاز لي أن أقدم نصيحة إلى صانع القرار العربي فإنني أسمح لنفسي بالقول إن بوسعه تحسين موقفه التفاوضي كثيراً إذا استطاع أن يقوم بالخطوات التالية:
1- تحقيق مصالحة فلسطينية حقيقية ودعم الجهود الرامية لإعادة تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية على نحو يسمح بالتحاق الفصائل الفلسطينية كافة بها وتسهيل تشكيل قيادة ميدانية وسياسية مسؤولة عن إدارة الصراع.
2- العمل على تجنب ممارسة أي ضغوط على المنظمة في شكلها الجديد، أو على «حماس» لتقديم أي تنازلات مجانية مسبقة، وربط قضية اعتراف «حماس» ب”إسرائيل” بالتوصل أولاً إلى صفقة تسوية شاملة ومقبولة من الشعب الفلسطيني. فاعتراف «حماس» يجب أن يكون بالحل المتضمن في التسوية، أي بحل الدولتين المستقلتين المتساويتين في الحقوق والواجبات، وليس ب”إسرائيل” وحدها.
3- السعي إلى تحقيق مصالحة عربية شاملة من خلال إعادة بناء العلاقات المصرية – السورية – السعودية على أسس جديدة.
4- السعي إلى بناء علاقات عربية – إيرانية وعربية – تركية متوازنة.
5- التهديد بسحب المبادرة العربية كوسيلة للضغط على كل من “إسرائيل” والولايات المتحدة، وبتبني خطاب سياسي وإعلامي جديد يروج لحل الدولة الواحدة التي تكفل المساواة والمواطنة الكاملة لكل الفلسطينيين واليهود.
إذا لم ينجح ميتشيل في العثور على صفقة متكافئة لتسوية للصراع العربي – الإسرائيلي في هذه المرحلة، فلن تكون هناك تسوية بعد ذلك مطلقاً. والاكتفاء بالتهدئة في الظروف الحالية لن يكون له سوى معنى واحد وهو تأجيل الحرب القادمة لأشهر عدة أو لسنوات عدة على أكثر تقدير.
* كاتب مصري
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

تحذير أمني من تكرار جيش الاحتلال الاتصال بأهالي غزة وجمع معلومات عنهم
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام حذرت منصة أمن المقاومة (الحارس)، الأحد، من تكرار جيش الاحتلال أسلوبا خداعيا عبر الاتصال على المواطنين من أرقام تُظهر...

الزغاري: نرفض المساس بحقوق أسرانا وعائلاتهم
رام الله – المركز الفلسطيني للإعلام قال رئيس جمعية "نادي الأسير الفلسطيني" الحقوقية، عبد الله الزغاري، إنّ صون كرامة أسرانا وحقوق عائلاتهم يشكّل...

الأورومتوسطي: حديث نتنياهو عن مواصلة هدم بيوت غزة نسخة معاصرة للتطهير العرقي
جنيف – المركز الفلسطيني للإعلام قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، إن حديث رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، عن أن "إسرائيل ستواصل تدمير بيوت...

حماس تعلن نيتها إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي مزدوج الجنسية الأميركية عيدان ألكسندر
الدوحة – المركز الفلسطيني للإعلام قال رئيس حركة "حماس" في غزة، رئيس الوفد المفاوض، خليل الحية، الأحد، إنه "في إطار الجهود التي يبذلها الإخوة الوسطاء...

البرلمان العربي يدعو لتأمين ممرات إنسانية عاجلة إلى غزة
القاهرة – المركز الفلسطيني للإعلام وجه البرلمان العربي رسائل عاجلة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، والمفوض السامي لحقوق الإنسان، والمديرة...

نتنياهو: سنضم 30% من الضفة الغربية
رام الله – المركز الفلسطيني للإعلام قال رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إن تل أبيب "ستكون قادرة على ضمّ 30%" من الضفة الغربية....

الجهاد: لن نطلق سراح أسرى الاحتلال ما لم تتوقف الحرب
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام قال نائب الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي محمد الهندي، إن المقاومة الفلسطينية لن تطلق سراح الأسرى الإسرائيليين ما...