العرب أمام تحوّلين: صعود خط اليمين الإسرائيلي وضمور خط التغيير الأمريكي

صحيفة القدس العربي اللندنية
تميل مراكز الأبحاث، في معظمها، إلى التسليم بوجود مشروعين سياسيين نهضويين في العالم العربي: المشروع العروبي والمشروع الإسلامي.
صحيح أن هذين المشروعين موجودان ولكل منهما حيثياته وأهدافه وآلياته، غير أن ثمة مشروعاً ثالثاً أصبح ناشطاً وهو في الواقع توليف للمشروعين المذكورين. إنه المشروع العربي ـ الإسلامي الذي ينهض به عروبيون ديمقراطيون وإسلاميون شورويون، يضمهم إطار متكامل هو “المؤتمر القومي ـ الإسلامي”، ينشط فيه مسلمون ومسيحيون مؤمنون بأن العروبة هوية وليست إيديولوجيا، ويسعون إلى وحدة متدرجة سياسياً واقتصادياً وثقافياً بصيغ دستورية متنوعة، تعاهدية (كونفدرالية) أو اتحادية (فدرالية)، في ظل عالم تقوده تكتلات كبرى، منطلقين من كيانات (أقطار) لها خصوصياتها الوطنية والاجتماعية لبناء دولة مدنية ديمقراطية في كلٍ منها، ومن أن “المواطنة أو الجنسية التي تمنحها الدولة لرعاياها قد حلّت محل مفهوم “أهل الذمة”، وأنها تعني المشاركة والمساواة التامة في الحقوق والواجبات”. فالدولة المنشودة، بحسب المفكر الإسلامي المعروف طارق البشري، هي “دولة مؤسسات غير شخصية يكون القرار فيها صادراً لا عن فرد، لكن عن جماعة، ويصدر بالأغلبية العددية لأعضاء هذه الجماعة، ويُنسب إلى الهيئة العامة في عمومها لا إلى أشخاص وافقوا عليه. ومن ثم، أنه أمكن بذلك القول إن الولاية العامة قد صارت للهيئات لا للأفراد، ويتساوى أعضاء الهيئة في إصدار قرارها بغير تفرقة بين ذوي دين وآخر ممن يصدق عليهم وصف العضوية لهذه الهيئة”.
ما حال العرب عموماً وحال أنصار المشروعات الثلاثة خصوصاً إزاء التحوّلات التي بزغت أخيراً في كلٍ من “إسرائيل” والولايات المتحدة وانعكاساتها على قضايا المنطقة، لاسيما على قضايا فلسطين ولبنان والعراق وأفغانستان؟ وهل من سبيل إلى مواجهة التحديات الناشئة عن تحوّل “إسرائيل” إلى خط اليمين العنصري وتحوّل الولايات المتحدة إلى خط التغيير الذي نادى به الرئيس باراك أوباما، بأفكار ومواقف ومناهج نابعة من برامج المشروعات الثلاثة وغيرها من البرامج السياسية للقوى المتصارعة في دنيا العرب وعالم الإسلام؟ الواقع أن ثمة خطين ناشطين بين العرب في الوقت الحاضر إزاء التحوّلين الإسرائيلي والأمريكي: الخط المقاوم ويضم جميع شرائح الجماعات الممانعة والمقاومة بمن فيهم أنصار المشروعات الثلاثة المار ذكرها، والخط المساوم ويضم جميع شرائح الجماعات والدول التي تسّمي نفسها “قوى الاعتدال”، ولمعظمها علاقات متينة مع الولايات المتحدة، ولبعضها علاقات دبلوماسية مع “إسرائيل” كمصر والأردن.
اولا: التحول اليميني الإسرائيلي وتداعياته
الصراع بين العرب و”إسرائيل” لا يقتصر على حال العداء والحرب بين أطراف الخط المقاوم، الفلسطيني والعربي، والكيان الصهيوني. ثمة إشارات ذات دلالات إلى أن الصراع سيتحول، عاجلاً أو آجلاً، إلى حال عداء وربما مواجهة بين العرب المعتدلين، وجلهم في السلطة، والصهاينة المتطرفين، بعدما وضعوا أيديهم على السلطة في الانتخابات الأخيرة. كان الصهاينة المتطرفون قد أعلن بعضهم لوسائل الإعلام وبعضهم الآخر في مؤتمر هرتسيليا للشؤون الأمنية والإستراتيجية، مواقفَ تتعارض إلى حدٍ بعيد مع المواقف المعلنة للعرب المعتدلين. زعيم حزب ليكود اليميني المتشدد بنيامين نتنياهو يرفض علناً مبادرة السلام العربية، كما يرفض المفاوضات مع سورية التي كان سلفه إيهود أولمرت بدأها بصورة غير مباشرة معها عبر تركيا. فوق ذلك، يرفض نتنياهو قيام دولة فلسطينية، كما يرفض وقف الاستيطان والتفاوض على القدس وعودة اللاجئين. الأخطر من ذلك كله صعود حزب “إسرائيل بيتنا” بزعامة أفيغدور ليبرمان، الذي حصد 15 مقعداً نيابياً من أصل 120 في الكنيست ما يجعله القوة الثالثة في “إسرائيل”، متقدماً حزب العمل العلماني وحزب “شاس” الديني. ليبرمان أشتهر بدعوته إلى استعمال السلاح النووي ضد إيران، وإلى سحق المقاومة الفلسطينية، لاسيما “حماس”، بكل الوسائل الممكنة، وهو يعتبر عرب فلسطين الذين بقوا في الكيان الصهيوني بعد قيامه سنة 1948، أي ما يشكّل اليوم أكثر من 20 في المئة من السكان، “طابوراً خامساً”. لذلك فهو يدعو إلى سن قانون يرغمهم على توقيع إعلان “ولاء” ل”إسرائيل”، ومن يعصَ هذا الأمر يحرم من حق التصويت، وقد يصار إلى طرده من البلاد!
كذلك، تتخذ معظم الأحزاب الصهيونية، لاسيما اليمينية منها، مواقف أشد تطرفاً من إيران. ففي مؤتمر هرتسيليا دعا زعيم حزب العمل إيهود باراك إلى “تفاهم استراتيجي” مع الولايات المتحدة في شأن البرنامج النووي الإيراني، وأنه حتى لو اختارت إدارة أوباما الطريق الدبلوماسي مع طهران، ينبغي أن تضمن “إسرائيل” “أن تكون المحادثات محددة بفترة قصيرة، وبعدها يجري فرض عقوبات قاسية”. ومن بين الخيارات توجيه ضربة عسكرية قاسية إلى إيران أو ضربها بالسلاح النووي، كما يدعو ليبرمان!
لا شك في أن وصول اليمين المتطرف بشخص نتنياهو إلى السلطة سيعقد الأمور كثيراً، إسرائيلياً وإقليمياً وأمريكياً. ذلك أن الحكومة اليمينية الجديدة ستتخذ، على الأرجح، المواقف الآتية:
ستكون أكثر تعصباً وبالتالي أكثر عداء للسكان الفلسطينيين داخل الكيان الصهيوني الأمر الذي سيحرج محمود عباس وفريقه الحاكم من جهة والعرب المعتدلين من جهة أخرى.
ستكون أكثر تشدداً إزاء شروط التفاوض مع سورية خصوصاً ومع العرب المعتدلين عموماً.
ستحاول إعطاء البرنامج النووي الإيراني أولوية مطلقة على سائر القضايا العالقة بقصد حمل إدارة أوباما على اتخاذ موقف صارم من إيران ـ عقوبات شديدة أو ضربة استباقية ـ قبل ولوج باب المفاوضات مع العرب. وعليه ستكون المفاوضات مع سورية معلّقة على شرط فك ارتباطها مع إيران، ومع العرب المعتدلين معلقـة على شرط عدم المطالبة بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم.
ماذا لو قررت إدارة أوباما مفاوضة إيران للتوصل معها إلى تسوية حول السلاح النووي؟
“إسرائيل” تدرك المخاطر المترتبة على أي صفقة تفاهم أمريكية – إيرانية. لذلك تحاول بلا كلل الحؤول دون قيام انفراج بين واشنطن وطهران. سبيلها إلى ذلك يتمثل باعتمادها، بالتزامن، مواقف خمسة:
الأول، إبراز مخاطر حيازة إيران سلاحاً نووياً على أمن “إسرائيل” ومصالح أمريكا في المنطقة، والإصرار على إسقاط الخيار النووي الإيراني بالحرب، وإذا تعذر ذلك، فبفرض عقوبات سياسية واقتصادية شديدة على إيران، ليس أقلها الحصار البحري الصارم.
الثاني، دعوة دول “الاعتدال” العربية إلى التسليم بأن إيران هي الخطر الأول على أمنها ومصالحها، وتحريضها تالياً على اتخاذ موقف سلبي من أي محاولة من طرف إدارة أوباما للتهاون مع إيران أو للضغط على “إسرائيل” لتقديم تنازلات للفلسطينيين أو للسوريين في صراعهم معها.
الثالث، محاولة إخراج سورية، بعدما جرى إخراج مصر، من دائـرة الصراع بإعطائها تنازلات وازنة، جغرافية واقتصادية وسياسية، شريطة فك تفاهمها الاستراتيجي مع إيران والتوقف عن دعم المقاومتين الفلسطينية واللبنانية.
الرابع، افتعال جو شديد الاضطراب في المنطقة لعرقلة أي مساعٍ تقوم بها إدارة أوبامـا للوصول إلى تسوية شاملة أو تسويات جزئية إقليمية وذلك بشن حروب استباقية، كما في 2006 على لبنان و2008 على غزة، بدعوى إجهاض مخططات إيران وحلفائها ضدها، خصوصاً بعدما أصبحت إيران بالمعنى الاستراتيجي جاثمة على حدودها من خلال المقاومة اللبنانية في الشمال والمقاومة الفلسطينية في الجنوب (غزة) ودعمهما المتواصل، بشكل أو بآخر، من طرف سورية.
الخامس، استثمار تصلب أكثرية الجمهور الإسرائيلي ودعمها السافر لخط اليمين الصهيوني المعارض لتقديم تنازلات للفلسطينيين أو للسوريين، وبالتالي تعبئة أنصار “إسرائيل” في الإدارة والكونغرس وفي مؤسسات المجتمع المدني الأمريكي لمنع أوباما، في حال محاولته، من ممارسة الضغط على “إسرائيل” لتقديم تنازلات بدعوى ضرورة احترام الديمقراطية وإرادة الشعب التي تجلّت في الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة.
ثانياً: التغيير الأمريكي الضامر
قبل الانتخابات الإسرائيلية، كان ثمة أمل عند الخط العربي “المعتدل” بأن تتبنى إدارة أوباما ما يسمى “مبادرة السلام العربية”. بعد الانتخابات، أدرك أهل “الاعتدال” العرب، كما إدارة أوباما، أن الجمهور الصهيوني الناخب، كما أحزابه المتطرفة، وجّهوا صفعة للرئيس الأمريكي الجديد وطوقوا سلفاً أي مساعٍ يمكن أن يبذلها لتنفيذ ما يسمى حل الدولتين. فالأحزاب الإسرائيلية اليمينية الفائزة مجمعة على رفض قيام دولة فلسطينية إلى جانب دولة “إسرائيل”، وعلى رفض التفاوض في شأن القدس، وعلى رفض عودة اللاجئين الفلسطينيين.
ماذا يفعل العرب “المعتدلون”؟ هل يواصلون الرهان على أمريكا، كمـا في الماضي والحاضر، ام يقررون المراهنة على إسرائيل؟ أم ان هناك خياراً ثالثاً يمكن اعتماده؟
الجواب عن هذا السؤال يستوجب، بادئ الأمر، معرفة ما تعتزم إدارة أوباما عمله إزاء تحديات متزايدة تواجهها في المنطقة، لاسيما في العراق وأفغانستان وباكستان؟
يبدو أن أوباما أعاد ترتيب أولويات إدارته في الداخل والخارج. أولى الأولويات باتت الأزمة المالية والاقتصادية التي تعصف ببلاده وتفيض على سائر دول العالم. ليس أدل على خطورة هذه الأزمة واحتلالها المرتبة الأولى في اهتمامات أوباما والكونغرس من الشهادة التي أدلى بها رئيس الاستخبارات الوطنية الأمريكية دينيس بلير في شهادته الأولى أمام لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ منذ تثبيته في منصبه. فقد حذر بلير من أن الخطر الأعظم الداهم على الولايات المتحدة هو الأزمة الاقتصادية التي إذا ما استمرت أكثر من سنتين، فإن حكومات مستقرة في العالم يمكن أن تُطاح. وأكد بلير أن “الوقت هو التحدي الأعظم الذي نواجهه. وكلما طالت الفترة التي سيبدأ فيها الانتعاش، كانت احتمالات الأخطار الموجهة إلى المصالح الإستراتيجية الأمريكية أكبر”.
حتى لو قررت إدارة أوباما أن تبادر في سياق معالجة الأزمة الاقتصادية إلى خفض التزامات واشنطن العسكرية وبالتالي المالية بالخروج المبكر من العراق وبإيجاد حل أو تسوية للوضع المتدهور في أفغانستان، فإن ذلك يتطلب تعاون إيران في كلا الحالتين. وإذا ما قررت إدارة أوباما ولوج باب المفاوضات مع إيران، لا سيما لمعالجة مسألة برنامجها النووي، فما هو الثمن الذي ستطلبه طهران مقابل مد يد العون لواشنطن؟ هل يمكن أن تقبل بأقل من إجازة برنامجها النووي؟ حتى لو قبلت بأقل من ذلك، ألن يكون أي تفاهم أمريكي ـ إيراني على حساب “إسرائيل” وربما أيضاً على حساب بعض دول الخليج “المعتدلة”؟
هكذا سيجد أوباما نفسه مطوقاً، ص
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

مسؤولون بالبرلمان الأوروبي يطالبون إسرائيل بإنهاء حصار غزة فورا
المركز الفلسطيني للإعلام طالب قادة العديد من الجماعات السياسية في البرلمان الأوروبي اليوم السبت، إسرائيل بالاستئناف الفوري لإدخال المساعدات...

جراء التجويع والحصار .. موت صامت يأكل كبار السن في غزة
المركز الفلسطيني للإعلام قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إنّه إلى جانب أعداد الشهداء التي لا تتوقف جرّاء القصف الإسرائيلي المتواصل، فإنّ موتًا...

إصابات واعتقالات بمواجهات مع الاحتلال في رام الله
رام الله – المركز الفلسطيني للإعلام أُصيب عدد من الشبان واعتُقل آخرون خلال مواجهات اندلعت مع قوات الاحتلال الإسرائيلي في عدة بلدات بمحافظة رام الله...

القسام ينشر مقطع فيديو لأسيرين إسرائيليين أحدهما حاول الانتحار
المركز الفلسطيني للإعلام نشرت كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، السبت، مقطع فيديو لأسيرين إسرائيليين ظهر أحدهما بحالة صعبة وممددا على الفراش....

جرائم الإبادة تلاحق السياح الإسرائيليين في اليابان
المركز الفلسطيني للإعلام في خطوة احتجاجية غير مسبوقة، فرضت شركة تشغيل فنادق في مدينة كيوتو اليابانية على الزبائن الإسرائيليين توقيع تعهد بعدم التورط...

سلطة المياه: 85 % من منشآت المياه والصرف الصحي بغزة تعرضت لأضرار جسيمة
المركز الفلسطيني للإعلام حذرت سلطة المياه الفلسطينية من كارثة إنسانية وشيكة تهدد أكثر من 2.3 مليون مواطن في قطاع غزة، نتيجة انهيار شبه الكامل في...

تقرير: إسرائيل تقتل مرضى السرطان انتظارًا وتضعهم في أتون جريمة الإبادة الجماعية
المركز الفلسطيني للإعلام حذر المركز الفلسطيني لحقوق الانسان، من إصرار دولة الاحتلال الاسرائيلي على الاستمرار في حرمان مرضى الأورام السرطانية من...