إنكار الهولوكوست جهل وحماقة

صحيفة القدس العربي اللندنية
شغل الفاتيكان خلال الأيام القليلة الماضية بقضية القس الكاثوليكي ريتشارد ويليامسون الذي اتهم بإنكار الهولوكست، حتى إن حكومة الأرجنتين طالبته بمغادرة البلاد عقاباً له على خطيئته التي لا مجال في الغرب لاغتفارها. الذين ينكرون الهولوكوست سواء كانوا مسلمين كالرئيس الإيراني أحمدي نجاد أو كانوا مسيحيين كهذا القس الكاثوليكي أو كانوا من أبناء ملة أخرى من الملل، كلهم ينكرون معلوماً من التاريخ بالضرورة. فالهولوكوست وقع فعلاً، وارتكب فيه النازيون وأعوانهم من الجرائم ما لا يمكن فعلاً أن يغتفر أو ينسى، فاعتقلوا، وعذبوا، وقتلوا، وشردوا وشتتوا أعداداً يستعصي عدها، ولم يكن ضحاياهم من اليهود فحسب، بل طالت جرائمهم فئات أخرى كثيرة اعتبر النازيون أنها لا تستحق الحياة.
وفرق كبير بين أن ينكر الإنسان الهولوكست وأن يتحفظ على الأرقام المتداولة للضحايا، فرقم الستة ملايين يهودي على سبيل المثال لا سبيل لإثباته، بل يعتقد الجادون من المؤرخين بأن فيه مبالغة كبيرة. ولكن حتى لو كان ضحايا الهولوكست نصف هذا العدد أو ربعه أو حتى سدسه، فالجريمة فظيعة، وثابتة في حق من ارتكبوها وحق من سكتوا عنها.
وفرق كبير أيضاً بين من ينكر الهولوكوست ومن يقر به كحقيقة تاريخية وجريمة يندى لها جبين من شارك فيها أو أقرها، ولكنه يرفض المشاركة في تخليد هذه الذكرى من خلال احتفاليات سنوية باتت تعرف بالهولوكوست ميموريال. فأن ترفض الابتزاز شيء وأن تنكر الحقيقة التاريخية شيء آخر. وسبب رفض كثير من الناس، وخاصة المسلمين، في أوروبا، المشاركة في هذه الاحتفاليات أن القائمين عليها إنما يريدون خدمة الصهاينة لا تخليد ذكرى الضحايا، ولذلك فهم يرفضون حتى الساعة أن تكون الاحتفاليات شاملة بحيث تندد بكل المجازر والجرائم البشعة ضد الإنسانية وليس فقط بالهولوكوست، فما جرى لأهل رواندا كان هولوكوستاً، وما جرى ومازال يجري للفلسطينيين هولوكوست أيضاً، وما إبادة الشعوب الأصلية في المناطق التي غزاها الأوروبيون فيما بات يعرف اليوم بأمريكا وأستراليا إلا هولوكوست. وما كان ينبغي للمسلمين في الغرب أن يشاركوا في أي من هذه الاحتفاليات طالما أنها تستخدم حصرياً لتسليط الضوء على مظلمة اليهود دون غيرهم، وخاصة إذا كان الأمر ينضوي على تستر مريب على جرائم الصهيونية منذ تأسس كيانها المسخ، “إسرائيل”، في فلسطين.
وثمة فرق آخر، أهم بكثير من الفرق المتعلق بالخلاف على العدد وعلى الاحتفالية، ألا وهو ألا ينكر المرء الهولوكوست، بل يقر بأن هذه الجريمة وقعت لأنها فعلاً ارتكبت، ولكنه مع ذلك يرفض الاستغلال البشع لها من قبل الحركة الصهيونية ومن يدور في فلكها، ابتزازاً للشعوب الأوروبية وتبريراً لجرائم الصهيونية التي لا تقل بشاعة عن جرائم النازية، وهل ثمة جريمة أبشع من غزو فلسطين واحتلالها ليقام فيها وطن لليهود على أنقاض مئات القرى والمدن التي هجر منها أهلها الفلسطينيون قسراً؟
إن من أهم الأصوات التي تناضل من أجل فضح هذا الاستغلال اللاإنساني لجريمة الهولوكوست هي أصوات نفر من اليهود المناهضين للصهيونية الذين يزعجهم، بل يقض مضاجعهم، أن تتحول الجريمة النازية في حق الآمنين من اليهود الأوروبيين وغيرهم إلى سلاح يستخدمه الصهاينة صبح مساء لتبرير ارتكاب الجرائم تلو الجرائم بحق الفلسطينيين ومن حولهم من العرب. وأبرز الشخصيات التي لم تأل جهداً في توعية الرأي العام اليهودي والعالمي بجريمة استغلال الهولوكوست لأغراض صهيونية بحتة الفيلسوف اليهودي، الأمريكي الموطن، نورمان فينكلستاين صاحب كتاب “صناعة الهولوكوست”.
تبلغ حجج فينكلستاين من القوة ما يستحيل على الصهاينة أن يدحضوه، فهو لا يتكلم إلا بدليل ولا يقدم من الوقائع إلا ما هو قطعي الثبوت، وهو يهودي كان بعض أقرب أقاربه ضحايا قضوا نحبهم في الهولوكوست. وكل ما يملك الصهاينة فعله هو أن يضغطوا على وسائل النشر حتى لا تنشر كتاباته، وأن يضغطوا على وسائل الإعلام حتى لا تستضيفه أو تبرز آراءه، وأن ينعتوه باليهودي الكاره لذاته. وهذا أمر يتكرر مع كل يهودي يقف للصهاينة بالمرصاد، ويحاججهم بالدليل التاريخي الثابت مقارعاً إياهم بالكلمة تارة وبالقلم تارة أخرى، ومن أمثال هؤلاء البرفسور إيلان بابيه صاحب كتاب “الإبادة العرقية للفلسطينيين” والذي وثق فيه للمجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية قبيل إعلان دولتهم، والدكتور جون روز صاحب كتاب “أساطير الصهيونية”، وآخرون لا يتسع المجال لذكرهم هنا.
ما يقدمه هؤلاء النبلاء من اليهود المناهضين للصهيونية من خدمات للقضية الفلسطينية، يقابله تخريب يقوم به من حيث يعلم أو لا يعلم نفر من الجهلة والحمقى من مختلف الديانات والجنسيات، من الذين يظنون أنهم بإنكارهم للهولوكوست إنما يقدمون خدمة للبشرية عامة، وللفلسطينيين خاصة، مع أن ما يصدر عنهم إنما هو أذى محض، بما يوفر للصهاينة من معاول إضافية يشرعونها في وجه كل منتقد لهم محولين مزاعم ذلك النفر من الجهلة والحمقى إلى موارد إضافية لمزيد من التظلم والاستغلال، وتحريض عوام اليهود على خصوم الصهيونية.
يكمن جهل هؤلاء وحمقهم في أنهم ينكرون حدثاً تاريخياً لا يمكن تفسير قيام الكيان الصهيوني في فلسطين إلا به. فلولا النازية، ولولا الهولوكوست، لما قامت للصهاينة دولة، ولما تعاطف معهم يهود العالم الذين كان معظمهم قبل الهولوكوست يرفضون الصهيونية ويعتبرونها حركة مهرقطة ومدمرة. والدليل التاريخي الثابت يشير إلى أن الصهاينة والنازيين كانوا يتواصلون فيما بينهم، على الأقل حتى عام 1939، عام نشوب الحرب العالمية الثانية، لأن كلا الطرفين كان يريد شيئاً واحداً وهو إخراج اليهود من أوروبا، النازيون لأنهم يكرهونهم ولا يريدونهم بين ظهرانيهم، والصهاينة لأن مشروعهم ما كان ليقوم على أرض الواقع دون شعب، وقد نوه إلى ذلك المؤرخ اليهودي الراحل “إسرائيل شاحاك” في أكثر من موقع وخاصة في كتابه “الأصولية اليهودية في إسرائيل”.
بعض الحمقى والجهلاء ممن ينكرون الهولوكوست تراهم معجبين بشخصية هتلر، مع أن هتلر هو صاحب أكبر فضل على الصهيونية بما ارتكبه من جرائم أقنعت اليهود من المتشككين بالصهيونية، بأن أوروبا لم تعد آمنة، وبأن الصهاينة كانوا صادقين حينما حذروهم، وألحوا عليهم بضرورة الهجرة إلى “أرض الميعاد”. فهؤلاء الصهاينة الأوائل، الذين لم يكونوا يؤمنون لا بموسى ولا بالتوراة ولا برب موسى والتوراة، ولا يقيمون أدنى وزن للدين، بل كانوا من العلمانيين الملحدين، كانوا بحاجة ماسة إلى هتلر، وما كانوا لينجحوا لولا الهولوكوست.
إذن، فالذين ينكرون الهولوكوست هم من أكثر الناس نفعاً ونجدة للصهيونية، فهم، ومن حيث يظنون أنهم يحسنون صنعاً، يلحقون بقضية أهل فلسطين الكثير من الأذى بسبب ما اجتمع لديهم من جهل وحمق.
* مدير معهد الفكر السياسي الإسلامي في لندن
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

مسؤولون بالبرلمان الأوروبي يطالبون إسرائيل بإنهاء حصار غزة فورا
المركز الفلسطيني للإعلام طالب قادة العديد من الجماعات السياسية في البرلمان الأوروبي اليوم السبت، إسرائيل بالاستئناف الفوري لإدخال المساعدات...

جراء التجويع والحصار .. موت صامت يأكل كبار السن في غزة
المركز الفلسطيني للإعلام قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إنّه إلى جانب أعداد الشهداء التي لا تتوقف جرّاء القصف الإسرائيلي المتواصل، فإنّ موتًا...

إصابات واعتقالات بمواجهات مع الاحتلال في رام الله
رام الله – المركز الفلسطيني للإعلام أُصيب عدد من الشبان واعتُقل آخرون خلال مواجهات اندلعت مع قوات الاحتلال الإسرائيلي في عدة بلدات بمحافظة رام الله...

القسام ينشر مقطع فيديو لأسيرين إسرائيليين أحدهما حاول الانتحار
المركز الفلسطيني للإعلام نشرت كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، السبت، مقطع فيديو لأسيرين إسرائيليين ظهر أحدهما بحالة صعبة وممددا على الفراش....

جرائم الإبادة تلاحق السياح الإسرائيليين في اليابان
المركز الفلسطيني للإعلام في خطوة احتجاجية غير مسبوقة، فرضت شركة تشغيل فنادق في مدينة كيوتو اليابانية على الزبائن الإسرائيليين توقيع تعهد بعدم التورط...

سلطة المياه: 85 % من منشآت المياه والصرف الصحي بغزة تعرضت لأضرار جسيمة
المركز الفلسطيني للإعلام حذرت سلطة المياه الفلسطينية من كارثة إنسانية وشيكة تهدد أكثر من 2.3 مليون مواطن في قطاع غزة، نتيجة انهيار شبه الكامل في...

تقرير: إسرائيل تقتل مرضى السرطان انتظارًا وتضعهم في أتون جريمة الإبادة الجماعية
المركز الفلسطيني للإعلام حذر المركز الفلسطيني لحقوق الانسان، من إصرار دولة الاحتلال الاسرائيلي على الاستمرار في حرمان مرضى الأورام السرطانية من...