رؤية أفريقية لـحل الدولتين

صحيفة الاتحاد الإماراتية
أثارت قسوة وفظاعة العمليات العسكرية في “حرب غزة” ضد الفلسطينيين مشاعر كثير من المفكرين في أنحاء العالم. وقد وصلني من صديق، أستاذ أفريقي متميز، نص فكري صاغه من موقعه، رغم أنه تعبير عن رأيه الشخصي، لكنه لافت بحق لما أصبح عليه الحال في تطور الأفكار تجاه “إسرائيل” وحقوق الشعب الفلسطيني. البروفيسور “ياش تاندون” أوغندي من أصل آسيوي، تعلم في جامعة مكاريري الشهيرة بأوغندا في الستينيات. وأكمل دراسة الاقتصاد السياسي في مدرسة لندن للاقتصاديات، الشهيرة أيضاً، ثم عين أستاذاً بجامعة دار السلام بتنزانيا. وشارك في حملة المعارضة لديكتاتورية عيدي أمين حتى سقط، وقد عرفته خلال كل ذلك أستاذاً مفكراً لامعاً في رابطة أساتذة العلوم السياسية الأفريقية، ثم أسس معهداً استشارياً للمعلومات وآلية التفاوض لدول شرق وجنوب أفريقيا بزيمبابوي في الثمانينيات والتسعينيات حيث أسهم في مواجهات الدول الأفريقية مع منظمة التجارة العالمية واتجاهاتها المجحفة. وهو الآن السكرتير التنفيذي لـ”مركز الجنوب”، الذي أسسته “لجنة الجنوب” المرتبطة بالأمم المتحدة عام 1995 كمنظمة حرة وشبه حكومية تنفيذاً لروح “تقرير الجنوب” الشهير، الذي صدر عن الأمم المتحدة لصالح توازن العلاقة بين الشمال والجنوب قبل اكتساح عملية العولمة للعالم مؤخراً. والمركز في جنيف تسهم فيه أكثر من خمسين دولة لتقديم المشورات والمعلومات والتقارير لأعضاء الأمم المتحدة من بلدان الجنوب خاصة، ولذا تقف وراءه عدة دول أساسية من آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية والبلدان العربية. ومن هذا الموقع وضع “ياش تاندون” ورقته عن المشكلة الفلسطينية أواخر أيام “حرب غزة” كما يسميها (2009) بعنوان “المسألة الفلسطينية- الإسرائيلية ووهم “حل الدولتين”. وقد سجلها على الموقع الإلكتروني لـ”مركز الجنوب” ليطلع عليها ممثلو شعوب العالم!
أولاً: بدا “تاندون” منزعجاً من مسار الحرب المدمرة في غزة ضد الشعب الفلسطيني، واعتبر في استنتاجه الرئيسي طوال الورقة، أن هذا الدمار لا يمكن أن يساعد الحل السلمي الشائع عن طريق إقامة وتعايش دولتي الإسرائيليين والفلسطينيين أو ما يسمى “حل الدولتين”. ومنذ الفقرة الأولى يقول: كان أحد ضحايا الحرب في غزة، هو الحل القائل بدولتين في فلسطين و”إسرائيل”، إذ تلقى هذا الحل- بعد حرب “إسرائيل” على سكان غزة- ضربة قاتلة”. “إسرائيل”- في تقديره- تريد تدمير الفلسطينيين لأن ميزان القوة العسكرية في صالحها، لكن الموقف يمكن أن ينعكس في جيل آخر إذا بقيت ذكرى غزة في الخلفية العربية، بما يمكن أن يدمر يهود “إسرائيل”؛ على الأقل! لذلك يصعب طرح “حل الدولتين” في هذه الظروف، ولابد من دراسة حلول أخرى ووضعها في الاعتبار. وعين البروفيسور “ياش تاندون”- كما سنرى- على “دولة فلسطينية واحدة” على نحو ما يفصله بعد ذلك إزاء عدم واقعية “حل الدولتين” الآن. بل وإن “حل الدولتين” يبدو زائفاً في نظر تاندون، وسوف نقدم موجزاً عن عرض “تاندون” لأسباب عدم واقعية حل الدولتين؛ ونلخص بعد ذلك رؤيته “للحل العملي”، مراعاة لضيق المساحة التي لن تستوعب مجمل دراسته. والأسباب عنده ثلاثة:
1- ازدياد الاعتراف بأن حل الدولتين مخادع، لأنه- في الواقع- جزء من رؤية الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي للاستراتيجية الجيوبوليتيكية العالمية وأمن الطاقة؛ بينما يُقدم على أنه حل “للمشكلة الفلسطينية”.
2- تصاعد التساؤل حول شرعية إقامة “إسرائيل” عام 1948.
3- تزايد الاعتقاد لدى الفلسطينيين بأن المستقبل هو لصالحهم قطعاً، وأنهم يستطيعون الانتظار!
في تفسير “تاندون” لزيف القول “بحل الدولتين”، يستدعي أولاً نفي التفسير الذي روجه بعض المحللين عن أن الهجوم الأخير على غزة إنما هو مجرد مسألة انتخابية بين الأحزاب الإسرائيلية الساعية للأصوات، لكن الأمر أعمق من ذلك، إذ تبدو الحرب في رأيه أنها “آخر حرب لبقاء إسرائيل” إزاء شعورها بالتهديد، ولذا تقوم بالتصفية الجماعي للشعب الفلسطيني لتحقيق “حل نهائي” بشأن ما يهدد وجود “إسرائيل” كدولة… أما بالنسبة للغرب فهي حرب لحماية المصالح الحيوية الجيوبوليتيكية في الشرق الأوسط، ومنافذ البترول والطرق البحرية والجوية، وذلك وفق مفهوم “أن إسرائيل، هي القوة المسيرة لذلك، وأنهم في حاجة إليها الآن أكثر من أي وقت. وهي التي تستطيع التعامل مع مشكلاتهم في الشرق الأوسط إزاء انشغال الغرب بأزمته الحالية.
ويورد “تاندون” ملخصاً لدراسة المجلس القومي للمخابرات الأميركية عن الاتجاهات العالمية حتى عام 2025 وعن زوال قيمة “الدول القومية” في المجتمع الدولي مع ظهور قوى جديدة مركزية إزاء ضعف التحالف الغربي، من أمثال روسيا والصين وإيران والبرازيل والهند وجنوب أفريقيا.
ومن هنا تبدو أهمية “إسرائيل” في مثلث مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ومن هنا أيضاً يبدو زيف القول إن الحلف الأميركي- الأوروبي، وحتى مع الحكومات العربية الحليفة له، يمكن أن يكونوا “وسطاء طيبين” بين “إسرائيل” والفلسطينيين! وإن كان لا مفر لديهم من معالجة الأمر وفق نظريات القوة الناعمة، حيث الخشونة مع بلد مثل إيران أو “المقاومة” في العراق وفلسطين قد تؤدي إلى إشعال الموقف.
وحتى في فلسطين نفسها فقد دخل عامل جديد لأهمية التعاون الداعم ل”إسرائيل”. هناك احتياطي كميات الغاز الاستراتيجية على سواحل غزة والمصالح المشتركة فيها بين الشركات البريطانية و”إسرائيل”. وهنا يبدو أن “حماس” باتت ترمي الذباب في الإناء، لتتحول بعض المليارات من الدولارات إلى صندوق “جماعة إرهابية”! ووفق مصادر عسكرية إسرائيلية فقد كانت الخطة لغزو “غزة” معدة من يونيو 2008، وأعطت “إسرائيل” الإشارة للشركة البريطانية للغاز لمواصلة التفاوض الذي كان قد توقف معها من قبل حول شراء الغاز الطبيعي من غزة.
ثانياً: في جزء خصب بالنقاش حول مشروعية إقامة “إسرائيل” 1948، وتسمية العرب لذلك بالنكبة وحتى هزيمة 1967 بعدها، لكن منذ 1988 واعتراف منظمة التحرير بالتراجع عن تحرير فلسطين ككل، تم عقد اتفاق “أوسلو”، مما جعل الأمر يبدو- في رأي معظم الفلسطينيين، كأنه شبه قبول بمثل نظام “الأبارتاهيد” في جنوب أفريقيا وتقسيمها إلى “بانتوستانات”.
ثالثاً: حول تمسك الفلسطينيين بأن المستقبل لصالحهم: يرى تاندون أن الموقف الجيوبوليتيكي العالمي يتغير لصالح الفلسطينيين، فالرأي العام الأوروبي، ورأى اليهود الأميركيين الشبان لم يعد يهتم ب”إسرائيل”. وها هي الحرب الأخيرة في غزة لم تساعد الحل الإسرائيلي بالقضاء على الفلسطينيين ومن ثم يفشل “حل الدولتين”…
أخيراً: ما هو الحل المتوقع؟ لا مستقبل لحل الدولتين في فلسطين- في رأي تاندون اللهم إلا في الدعاية الإسرائيلية، فهي عنده كيان صناعي زرع في الشرق الأوسط، والبديل لا يتوقع من قبل اليهود، ولكن من الولايات المتحدة وأوروبا، لأنهما أصحاب المصلحة في دورها لحماية مصالحهما الاستراتيجية. وهنا يدرس “تاندون” تفاصيل الحل الذي يقدمه حول “الدولة الواحدة” على نمط قريب مما حدث في جنوب أفريقيا. بعد دراسة طبيعة التطور الديموغرافي للشعب الفلسطيني والجماعة اليهودية في فلسطين، وهو لا يتوقع هجرة فلسطينيين إلى الدول المجاورة أو الخارج، لكنه يطرح تفاصيل احتمال ميل قطاعات كبيرة من اليهود للهجرة من “إسرائيل”، ويقدم تحليلات إحصائية عن “التقليديين” و”الأرثوذوكس” “والحاريدي” من اليهود الذين يقبلون التجمع في مكان آخر…
ويفاجئنا “تاندون” بتوقعه أن يكون ذلك في الولايات المتحدة؛ في “يوتا” أو نيفادا كاليفورنيا! ذلك لأنه يرى أن الثقافة الديمقراطية التي بناها الإسرائيليون في ظروف “الأبارتاهيد الإسرائيلية” على نمط ديمقراطية نظام جنوب أفريقيا تصيغ نمط تفكير عناصر قيادية جديدة على نفس النمط الذي تم في جنوب أفريقيا لإقامة “الدولة الواحدة” على أسس جديدة لا يشكل فيها اليهود شعب الله المختار لفلسطين! وهنا فإن الغرب الذي خرق وعوده للعرب أثناء وصايته على فلسطين بإقامة “إسرائيل” مسؤول أن يعاود تفكيره في مسؤوليته الجديدة. ويورد “تاندون” من مخرون وثائقه، مذكرة الخارجية الأميركية عند موافقتها على القرار 181 والتي ربطت الموافقة “بتحديد” الهجرة اليهودية، وإقامة إقليمين (أو محافظتين) للعرب واليهود وليس دولتين. “ويمكن لليهود بدلاً من ذلك أن يقيموا محافظة: تدعى “إسرائيل” لو شاءوا”، مع فارق في رأي “تاندون” أن تكون في الولايات المتحدة وليس في الشرق الأوسط.”تاندون”، ينطلق طوال البحث من حق الفلسطينيين الديمقراطي في إقامة “الدولة الواحدة” والتزام الغرب “الديمقراطي” أيضاً بمسؤوليته التاريخية عن ذلك أثناء الوصاية على فلسطين، كما ينطلق هذا المفكر الأفريقي في النهاية من الحق في التفكير الشجاع، لأن أحداً في جنوب أفريقيا لم يكن يتوقع تغييرها على هذا النحو قبل هزيمتها في أنجولا، وهو لا يطلب- في حله هذا- الموت أو الدمار لأحد. ويحتاج الجدل مع “تاندون”… وواقع صدور مثل هذا التفكير من ساحة أفريقية واسعة ومسؤولة، وبعد خروج الآلاف في ديربان (جنوب أفريقيا) لتأييد الشعب الفلسطيني في غزة، يحتاج كل ذلك إلى مناقشة عربية جادة حول المستقبل، جديرة أن تتم في الأوساط الثقافية والشعبية العربية هذه المرة.
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

10 شهداء على الأقل في قصف جديد لمدرسة وسط القطاع
غزة- المركز الفلسطيني للإعلام ارتقى 10 شهداء على الأقل، وأصيب أكثر من 50 مواطنًا بجراح، إثر قصف إسرائيلي جديد، استهدف، مساء الثلاثاء، مدرسة أبو...

الإعلامي الحكومي: مجزرة البريج امتداد مباشر لجرائم الإبادة في غزة
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام قال المكتب الإعلامي الحكومي إن مجزرة مخيم البريج تُعد جريمة امتداد مباشر لجريمة الإبادة الجماعية التي يواصل جيش...

الهيئات الإسلامية: الاعتداء على ساحة الشهابي سياسة تهويدية لتطويق الأقصى
القدس – المركز الفلسطيني للإعلام قالت الهيئات الإسلامية في القدس أن اعتداء سلطات الاحتلال الإسرائيلي على ساحة "الشهابي" التاريخية داخل البلدة...

حماس: مجزرة البريج جريمة حرب بشعة تضاف للسجل الأسود للاحتلال
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام قالت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، إن مجزرة مدرسة أبو هميسة في مخيم البريج، والتي كانت تؤوي نازحين، جريمةٍ جديدةٍ...

بلدية جباليا تحذر من كارثة وشيكة لتراكم النفايات
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام حذرت بلدية جباليا النزلة، يوم الثلاثاء، من انتشار وتراكم كميات النفايات في مناطق نفوذها، مع عدم مقدرة طواقم العمل على...

الاحتلال يشرع بهدم منازل في مخيم نور شمس شمال الضفة
طولكرم – المركز الفلسطيني للإعلام شرعت جرافات الاحتلال الإسرائيلي، الثلاثاء، بهدم عدد من المباني السكنية في مخيم نور شمس شرق مدينة طولكرم شمال الضفة...

20 شهيدا وعشرات الجرحى بمجزرة مروعة وسط غزة
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام ارتكبت قوات الاحتلال الإسرائيلي، مساء اليوم الثلاثاء، مجزرة مروعة بحق النازحين، عقب قصف الطيران الحربي لمدرسة تُؤوي...