مكيال أم مكيالان؟!

صحيفة الوطن العمانية
درجنا كعرب في العقود الأخيرة على استخدام مصطلح غدا الأقرب إلى الخطأ الشائع لدينا، وهو توصيف انحياز الغرب التام والتليد الدائم للجانب الإسرائيلي ظالماً لا مظلوماً، ولكل ما هو معاد لقضايانا العادلة إجمالاً، على أنه إنما يكيل بمكيالين. وكأنما نحن هنا في موقع من كان ينتظر من مثل هذا الكائل بعض عدل في كيله بيننا وبين صنيعته، أو إنصافاً في أحكامه بيننا وبين أعدائنا.
… أو ليس كان من الأولى بنا أن نتحرى الدقة في هذه الحالة فنقول، مثلاً، إنما هو يكيل بمكيال واحد لا يعرف سواه، ألا وهو المكيال الإسرائيلي؟
هنا نحن قد نصحح مثل هذا الخطأ الشائع ولسنا في حاجة لسوق أدلة أو اجتراع براهين، وحتى نحن نعدم ثمة مواجهة من ما قد يواجهنا محاججاً أو معترضاً، ولو في الغرب نفسه، هذا الذي لا يبدو أنه يهمه كثيراً نفي مثل هذه التهمة، وقد يكفينا فحسب مجرد الإشارة إلى عنوانين اثنين فعل المكيال الغربي بهما فعائله، لنفقأ بهما عين كل من يطيب له مخالفتنا فيما ذهبنا إليه.
إنهما، محرقة غزة التي لا تزال تطوف صورها الحية الرهيبة أطراف العالم، ويبدو أنها لم تلج بعد وجدانه، أو حتى تركن إلى أرشيف ذاكرته، وبكائية دارفور الغربية الملتبسة المنتفخة بمؤثرات الصوت التي تحاول أن تعوض عن الصورة غير المتوفرة أو تسعى لاختلاقها أو تصنيعها… أو عدالة لويس مورينو أوكامبو، مدعي عام صاحبة السطوة المبالغ في إشهارها المسماة “المحكمة الجنائية الدولية”، أو هذه التي يراد لها أن تغدو سوط عدالة ما يعرف بـ”المجتمع الدولي”، أو واقعاً الغربي، المختصرة عدالته عملياً، أو وفق الواقع الدولي، بثلاثة قضاة ومحلفين وجلادين في آن، هم البريطاني والفرنسي والصهيونية العالمية، أما قاضي القضاة، ومرجع هذه العدالة الأكبر، فهو ذاته الذي لا يعترف بالمحكمة، ولم يوقع على ميثاقها، وعقد عشرات الاتفاقيات الدولية الثنائية لحماية مجرميه، الذين تطوف آلة موتهم الجبارة العالم وتصول في جنباته، من ملاحقة عدالتها، ونعني به الأميركي!
نحن هنا، لسنا بصدد مناقشة النصوص القانونية أو المبادئ الإنسانية العظمى الكامنة خلف سطور هذه النصوص، أو تستند إليها فكرة المحكمة، ولا اعتراض لنا على كل ما طمح وحلم به ميثاق روما، ويا حبذا لو شملت عدالتها المأمولة سائر أطراف الكون، وإنما نحن حيال كيفية الاستخدام وهدف التوظيف وبادي الانتقائية، أو ما يقال إنه الكيل بمكيالين، وصولاً إلى ما قلنا إنه المكيال الواحد.
المندوب السامي إلى إحقاق عدالة “المجتمع الدولي” إياه صرف أعواماً ثلاثة محققاً يطارد ما يتيسر له من الأدلة التي يلاحقها في مخيمات “الفور والزغاوة والمساليت” حصراً في التشاد، أو يجمعها من لغو قادة متمردي هذه القبائل المستضافين المدللين في لندن وباريس وتل أبيب، حول “جرائم الإبادة” المزعومة التي قد يرتكبها السودانيون العرب ضد السودانيين الأفارقة ليخرج علينا بعد سبعة أشهر من حكاية هي أقرب إلى الابتزاز، الذي يشارك فيه الغرب “الإنساني” بكامله للسودان، بما يوحي باقتراب توجيه مذكرة جلب بحق رئيس جمهورية السودان بتهمة مسؤوليته عن هذه الجرائم الدارفورية المفترضة… “مكتب ادعاء المحكمة” يرفع شعار “لا أحد فوق القانون”، وإنه “لا يتبع سوى العدالة”، ولا يهم إن كان السودان لم يوقع على ميثاق المحكمة، ولا يعنيه موقف الاتحاد الأفريقي أو جامعة الدول العربية، أو كل من يستفظع مثل هذا الابتزاز، ولا يأبه لانقسام مجلس الأمن حول المادة “16” التي تسمح بمهلة عام تعطى للسودان، والذي تجمع أطرافه المنقسمة على ضرورة استجابة السودان لمطالب قرقوش عدالة المحكمة هذا.
ونحن هنا، لسنا أيضاً بصدد مناقشة المسألة من جانب القانون الدولي ، وسيادات الدول، إلى ما إلى ذلك… لأن البادي لنا أن لا أحد من قضاتها السياسيين، الذين شرّعوا الالتفاف على عدم توقيع السودان عليها عبر مجلس الأمن، يهمه فعلاً التدقيق فيما إذا كنا فعلاً بصدد تحري عدالة تنتصر لحكاية ملتبسة حول مزاعم ارتكاب جرائم “اغتصاب لخلط جينات الولادة” مرتكبها فقط عرب ضد أفارقة يشاركونهم اللون والثقافة والدين، بهدف “طمس الأثنية”… يقوم بها أناس لم تعرف حضارتهم وثقافتهم وعقيدتهم وتاريخهم ما عرفه “مجتمع الغرب الدولي” من عنصرية وفاشية وجرائم إبادة ضد الإنسانية، وتطهير عرقي، امتازت وتفردت به القارة الاستعمارية العجوز، وورثته عنها سليلتها إمبراطورية القطب الدولي الأوحد الأميركية السائرة إلى أفول!
… بل نحن حيال تسييس فاقع تتستر خلفه استهدافات هيمنة واحتكارات وأطماع استعمارية تسيّرها مؤسسات وكارتيلات ولوبيات يسيل لعابها لما تختزنه كثبان دارفور من نفط ويورانيوم ومعادن وثروات باطنية تستثير وعودها شراهة الجشع الغربي التليد، وخطوة اعتراضية تسبق “اتفاق إطار” الدوحة للمصالحة السودانية وتقطع الطريق عليها، جرياً على عادة ألفها السودان، وهي أنه كلما شارف السودانيون على اتفاق، أو كلمة سواء فيما بينهم، تسارع إنسانية الغرب لإجهاضه.. بالإضافة إلى غابر مخطط مستمر هو مواصلة استنزاف الأقطار التي تمثل ركائز النهوض العربي الممنوع، العراق وقبله الجزائر وبعده السودان، وربما يحين الدور على السعودية، بعد أن تكفلت “كامب ديفيد” بإخراج مصر من معادلة الصراع، أو سالف التأثير وسابق الدور وأهلية الريادة.. وأخيراً، استهداف السودان الهوية العربية والجسر الرابط العرب بالأفارقة.
هل السودان، وهل هنا من مجادل، ليس هو إلا ضحية “إنسانية” نشر الاضطرابات واختلاق الفوضى وإثارة الحروب الأهلية… الفوضى الخلاقة… صراع تقاسم الحصص والنفوذ المشتعل أواره الصامت بين الفرانكوفونية ووريثتها الأمركة المقتدرة القادمة عبر الأطلسي … أم هل بعد نيفاشا المطفئة نيران الجنوب لا بد من بؤرة تلتهب في الغرب، وغدا الشمال بعد أن هدأ الشرق… لاحظوا أين يرابط عبد الواحد نور الذي زار فلسطين المحتلة مؤخراً بداعي زيارة الجالية السودانية هناك.
هذا في دارفور… وماذا عن محرقة غزة، ولا نقول مذبحة صبرا وشاتيلا الشارونية، وما سبق، أو كل محارق فلسطين المستمرة لأكثر من قرن، ولا نتوسع فنعرج على “أبو غريب” ومذابح الأعراس في بلاد الأفغان .. محرقة غزة الموثقة تلفزيونياً على مدار قارب الأسابيع الثلاثة، والتي تفقأ دمويتها ووحشيتها وبشاعتها عين الأعمى والبصير ولم يسمع بها بعد لويس مورينو أوكامبو، أو تلتفت لهولها إنسانية مجتمع الغرب الدولي؟!
نكتفي بإيراد أقوال للمستر ميلا بند أو وزير خارجية القاضي البريطاني في محكمة هذا المجتمع، الذي واجه بها أسئلة أهالها عليه الصحفيون الهنود مؤخراً:
رفض الوزير البريطاني مقارنة محرقة اليهود “الأوروبية” بمحرقة الفلسطينيين “الإسرائيلية”، لأن الأولى، وفق منطق احتكار حق الضحية، هي “أمر استثنائي”، وهذا وقوعه لا يجوز ادعاؤه إلا لشعب الغرب المختار، كما لم يروقه وصف غزة المحاصرة بالغيتو، لأن هذا الوصف عنده “ليس متفاوتاً فقط، بل خاطئا أيضاً”، فالمحرقة بالنسبة له “كانت حدثاً فريداً ومحاولة لإبادة عرق بشري بأكمله، ولا حاجة لمقارنته بما حدث في غزة”!
وعليه، المحرقة هي ما ارتكب فحسب ضد أوروبيين وفي أوروبا، وبالتالي من حق ضحيتها أن يرتكبها بحق سواه من غير الأوروبيين في غير مكان، باعتبار حقوق الإنسان أو تحري إنصاف ضحايا الجرائم ضد الإنسانية، وتوفير الحماية من اقتراف الإبادة الجماعية، هي امتياز يخص الأوروبيين وحدهم، مع استثناء هو ما يوظف انتقائياً خارج القارة المركز، وفقط ضد المارقين والممانعين والرافضين للهيمنة والمتمردين على الاحتكارات، أو المقاتلين من أجل الحرية الذين غدو ينعتون بالإرهابيين، وكل من يرفض “السلام” الإسرائيلي، أو الاستسلام دون قيد أو شرط أمام الغزاة، والكف عن اقتراف جريمة الصمود في مواجهة الاحتلال!
هنا “إسرائيل” معصومة، وجرائمها ضد الإنسانية المبرمجة والمقصودة والمتبعة كسياسة منذ قيامها هي ما فوق المساءلة، وكل ما ترتكبه هو مباح ومفهوم ويوصف دفاعاً عن النفس، وكل مقاومة من قبل ضحاياها إرهاباً… ويظل السؤال برسم هذا العالم، من هو الأولى بمذكرة الجلب الأوكامبوية؟
رئيس دولة عربية مستهدفة تجهد للحفاظ على وحدتها وسيادتها وثرواتها رافضة الابتزاز والخضوع والارتهان للهيمنة الأجنبية، أم عصابة من المجرمين القتلة المفاخرين بما يرتكبونه، في كيان غاضب ومصطنع وغير طبيعي، من أمثال: بيريز وباراك وليفني وأولمرت ونتنياهو وجنرالاتهم من أمثال بن أليعازر وحالوتس، ومن سبقهم… واستطراداً جورج بوش الابن ومعشر محافظيه الجدد، ولا ننسى أسلاف ميلابند ذوي التاريخ الاستعماري الدموي الإبادي التليد.. لم تعد المسألة مسألة كيل بمكيالين فحسب، وإنما الكيل بمكيال واحد يصنعه الصهاينة ويكيل به “المجتمع الدولي” المتصهين!
كاتب فلسطيني
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

حماس: اغتيال المقاومين في الضفة لن يزيد شبابها الثائر إلا مزيداً من الإصرار على المواجهة
الضفة الغربية – المركز الفلسطيني للإعلام أكدت حركة حماس أن سياسة الاحتلال الصهيوني باغتيال المقاومين وتصعيد استهدافه لأبناء شعبنا في الضفة الغربية؛...

الأمم المتحدة تحذّر من استخدام المساعدات في غزة كـ”طُعم” لتهجير السكان
المركز الفلسطيني للإعلام حذّرت هيئات الأمم المتحدة من مخاطر استخدام المساعدات الإنسانية في قطاع غزة كوسيلة للضغط على السكان ودفعهم قسرًا للنزوح، مع...

الإعلامي الحكومي: الاحتلال يُهندس مجاعة تفتك بالمدنيين
المركز الفلسطيني للإعلام قال المكتب الإعلامي الحكومي، إن سلطات الاحتلال "الإسرائيلي" تواصل ارتكاب جريمة منظمة بحق أكثر من 2.4 مليون مدني في قطاع...

حماس تردّ على اتهامات السفير الأمريكي: أكاذيب مكررة لتبرير التجويع والتهجير
المركز الفلسطيني للإعلام رفضت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) تصريحات السفير الأمريكي لدى الاحتلال، مايك هاكابي، التي اتهم فيها الحركة بالتحكّم...

شهيدان باستهداف الاحتلال في نابلس
نابلس - المركز الفلسطيني للإعلام استشهد مقاومان بعد خوضه اشتباكاً مسلحاً - مساء الجمعة- مع قوات الاحتلال الصهيوني التي حاصرته في منزل بمنطقة عين...

حماس تثمّن قرار اتحاد نقابات عمال النرويج بمقاطعة الاحتلال
المركز الفلسطيني للإعلام ثمنت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) قرار اتحاد نقابات عمال النرويج بمقاطعة الاحتلال الصهيوني وحظر التجارة والاستثمار مع...

صاروخ من اليمن يعلق الطيران بمطار بن غوريون
المركز الفلسطيني للإعلام توقفت حركة الطيران بشكل مؤقت في مطار بن غوريون، بعد صاروخ يمني عصر اليوم الجمعة، تسبب بلجوء ملايين الإسرائيليين إلى...