الجمعة 09/مايو/2025

أدب المقاومة والتمرد والحرب

أدب المقاومة والتمرد والحرب

صحيفة الوطن العمانية

نحن أمام امتحانات وتحديات ومحن ونقبل على المزيد منها، وفي مواجهة احتلال عنصري همجي لا ترده إلا قوة، ولا بد من التصدي لممارساته وجرائمه، ونحن أيضاً في خضم معركة لا مثيل لظروفها المعقدة وربما كانت فريدة تلك الظروف، حيث الجيوش التي ينبغي أن تدافع عنا وتحمينا محجوبة عن مهامها، ومقفلة عليها أبواب التصرف لغياب إرادة القتال وانعدام الاستعداد له، وفقدان أي نوع من السعي لإحراز توازن مع العدو أو الاستعداد ” للقتال”، وهي أصلاً لا تمكَّن من امتلاك قوة بالمعنى الذي يجعلها قادرة على خوض حرب حرير، فهي شبه موضوعة على الرف في الصرع العربي الصهيوني. ذلك لأن الإرادة السياسية مفقودة في هذا الاتجاه، ولا تستطيع الأنظمة أن تستعد لرد عدوان المعتدي لأنها اختارت “السلام” خياراً استراتيجياً وحيداً وتركت للعدو كل أبواب الخيارات مفتوحة فبطش واستهتر واستهان بها وبكل شيء من حولها، وهي ساكنة راكدة لا تريد أن يُحسب عليها أي تفكير أو صرف باتجاه التصدي، حتى لا تعدّ السياسات التي تتخذها “متطرفة” وحتى يقبل منها رجاؤها بالالتفات إلى تنازلاتها الجوهرية فيما عرف بالمبادرة العربية. أما السياسات فمرتبكة ومتضادة لا تُجمع على نهج، والعدو الهمجي يقوم بالمذابح ويريد أن يفني مقاومة الشعب العربي ويقضي على إرادته وتطلعاته وحقوقه، في ظل مناصرة غربية معلنة وبلا حدود، مناصرة للاحتلال الصهيوني وعدوانه وجرائمه بأنواعها وحصار ومعتقلاته. ومن عجب أن من يرى من الغربيين المجازر والدمار والكوارث التي قام بها الكيان الصهيوني في غزة يُدهش، ولكنه يقول: “إن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها”؟! وكأن تلك الكوارث التي يراها لحقت ب”إسرائيل” وليس بضحاياها؟!. وكل أولئك لا يكف عن وصف المقاومة الفلسطينية المشروعة بالإرهاب وتحميلها مسؤولية ما جرى!.. ومن أسف أن هذا انتقل إلى مسؤولين ومثقفين وإعلاميين من العرب، شاركوا العدو ويشاركوا في فعله بتبنيهم لنهجه وهجومهم الكريه على المقاومة، وقد شجعوا ويشجعون على هذا الفل بصور شتى، وهم يناصرون من يريد أن يضعف الأمة وينال منها ويهمش قضاياها ويقضي على ما تبقى من حقوقها وإرادتها ومقاومتها، ويشوه صورة تلك المقاومة الشريفة وأهدافها بشراسة فائقة وتآمر مفضوح.

وأمام هذا الوضع الشاذ لم يبق للشعب العربي سوى المقاومة، والمقاومة أمام تحديات كبيرة وخطيرة، ولا تكفي بطولاتها وتضحياتها على أهميتها لرد العدوان ومواجهة الاحتلال وعملائه ومناصريه. صحيح أنها تنير طريقها وتجمع حولها وجدان لشعب وبعض فئاته، ولكن ذا لا يكفي. إذ لا بد من تشجيع وحشد وإمداد، وتوظيف الاستعداد الشعبي لجعلها خيار الأمة بكل المعاني والمعطيات والإمكانيات.. لا بد من فتح الباب أمام مناصرتها والانضمام إليها واعتمادها خياراً شعبياً عاماً وإمدادها بما يضمن استمرارها وانتصارها.. وهذا يحتاج إلى استمرار إرادة المقاومة والصمود والتصدي للاحتلال من جهة، وإلى استلهام مواقف المقاومة في مواقع المواجهة وتضحيات وبطولات وتجسيدها في إبداع وأدب، ودعمها بأفكار ومواقف تشكل درعاً لها ومحرضاً للمتفرجين من أبناء الأمة لكي ينخرطوا فيها ويدعموها بما يتيسر لهم من قدرة على القيام بأي نوع من أنواع الأداء الذي يعززها ويحصنها ويضمن بقاءها بوصفها الخيار الأول للأمة في هذه المرحلة.

إننا في وقت نحتاج فيه إلى أشياء كثيرة ومتنوعة تمتد قوس قزح واسع وهائل، ومن ذلك الذي نحتاج إليه التركيز على أدب المقاومة: كتابة وقراءة ونقداً وتذكّراً وتذكيراً واستلهاماً في أداء إبداعي فني وثقافي وإعلامي. وأود أن أتوقف عند أدب المقاومة وضرورته وأهميته وعدم جدوى التشكيك فيه، ونقض معمار القول بأنه مات، أو يمكن أن يموت، أو أن يتجاوزه الزمن.. فتلك خرافات، والنماذج التي يشار إليها أو يستشهد بها على موت أدب وإبداع “مقاومين” نماذج هشة في الأصل ينقصها روح الإبداع الأصيل، أما الإبداع الحق فيعيش ما عاش الخلق لأنه مرتبط بالحياة، لحياة مقاومة مستمرة على نحو ما.

وسوف ألامس بسرعة فروقاً أراها بين أدب المقاومة، وأدب الحرب، وأدب التمرد أو الرفض، من خلال إشارات سريعة جداً إلى نماذج من الأدب العالمي تدل على ذلك، لأتابع لاحقاً التركيز على نماذج عربية من أدب المقاومة في عصرنا نحتاج إليها وإلى أداء يضاف إليها في موجهاتنا المصيرية.

هناك فرق بين أدب المقاومة، وأدب الحرب، وأدب التمرد والغضب، الأخير يعبر عن روح الكاتب المتمرد وموقفه من قضايا محددة أو من أساليب حكم وأنظمة ومواقفها، أو عن نزوع جيل في بلد معين نتيجة ظروف معينة، والتمرد والغضب يختلفان عن نزوع الكاتب المقاوِم والأدب المرتبط بنضال شعب من أجل الخلاص من الاحتلال والوصول إلى الحرية والتحرير والاستقلال، وهو يستلهم المقاومة وبطولاتها وينهض بها ويحرض عليها، أما أدب الحرب فيتناول صراعات دامية بين جيوش سواء أكان ذلك على نطاق ضيق أو على نطاق واسع قد يصل إلى أن يكون عالمياً.

ومن النماذج التي أقدمها في مجال التدليل على الفرق والتركيز على صلب الموضوع، في الأدب العالمي:

1 ـ في أدبي التمرد: بروميثيوس المقيد للكاتب اليوناني إسخيلوس بوصفه نصاً شعرياً مسرحياً يعبر عن التمرد الفكري والروحي بمستواهما لرفيع، ويقدم الرؤية والرأي والأفكار والمسوغات، ويتحمل التبعات الناجمة عن تمرده ذاك الذي كان على كبير آلهة الأولمب زيوس. لا أدري لماذا تلح على مخيلتي تلك الصورة، صورة الرجل الذي قيد إلى الصخور الشاهقة في جبال القوقاز، ودقت في صدره الأسافين، وسلِّط عليه نسر إلهي جارح، ينهش كبده وقلبه طوال النهار، حتى إذا أتى على نهاية قلبه وكبده مع غروب الشمس، عاد إليه في الصباح وقد تجدد قلبه وكبده لتتجدد الآلام من جديد، والرجل وحيد مستوحش في أرض مقفرة .. بعيداً عن كل رحمة، وهو صامد مكابر يتحدى أكبر القوى، القوى الإلهية، إيماناً منه بعدالة قضيته وإيماناً منه بحريته وبكرامة الإنسان وبحق ذلك الكائن الذي أحبه وتعاطف مع معانات في أن يعيش حياة أكرم وأفضل، وفي أن تكتب له الحياة وتبقى.. صورة بروميثيوس بطل إسخيلوس الخالد .. الذي سرق النار من جبل الآلهة، كما تروي الأساطير اليونانية، وقدمها هدية للإنسان لينتفع بها فتزداد معارفه.. ومنحه إلى جانب النار الأمل الذي يقضي على مرارة الحياة ويخفف من وقع خطا الموت المرعبة التي تدق الطرق خلفه أينما اتجه، كما علمه الطب والحكمة، وسائر الفنون، وناصره في الأرض ضد إله السماء وكبير الآلهة “زيوس” الذي أراد به الشر.

كان بروميثيوس يعرف قوة خصمه.. ولكنه كان في الوقت ذاته يؤمن بعدالة قضيته.. لذا لم تهمه الحالة التي قد يؤول إليها من جراء تمرده على زيوس. إنه يقول:

“لقد كنت أعرف مغبة كل شيء، قبل أن أقدم على أي مما أقدمت عليه، ومع ذلك فقد أقدمت عليه طواعية وبمحض إرادتي، وإنه من دواعي فخري أن أصرح بذلك وأقرره.. وإنني في سبيل إنقاذ الإنسانية من عسف الإله الأكبر زيوس، لم أبال بأن أدفع بنفسي إلى قرار هذا العذاب.”

وأنتيجونا بطلة سوفوكليس: تمثل تمرد الإنسان اليوناني وثورته على جور نظام سلطوي يتعارض مع النظام السماوي والاجتماعي الذي يكفل للإنسان حرمة أشياء معيّنة بعد الموت، ويحفظ له حق الحياة بكرامة وحرية قبل أن يصل إلى نهاية كل حي. وتمثل وقفة الإنسان الحر في وجه حاكم مستبد يريد أن يحطم كل معارضة له ولو كانت على حق.

كريون، الملك الحاكم المطلق الذي يريد أن ينفذ القانون، ويفرض النظام ويطبقه حتى على أقرب الناس إليه كي يرتدع الآخرون، ويجور أحياناً على الحقوق المصونة للإنسان، حتى بعد موته، ليقدم درساً قاسياً للأحياء يذكرونه جيداً. وأنتيجونا التي تدفع الظلم عن أخيها بولينيس تريد أن تدفن جثته بعد أن قتل عند أسوار المدينة، وتحفظ له الحق السماوي الذي له… ولا تقبل عرض كريون الذي يتضمن، من وجهة نظرها، التخاذل والتنازل اللذين يؤديان إلى تجرع الذل من أجل الحفاظ على حياة تغدو بلا طعم ولا غاية كما يعرضها ويصورها ويتصورها كريون.. الحياة التي تراها أنتيغونا مجرد عظْمة نمتصها كل يوم.

إنها تقف ببطولة متحدية جور الحاكم وقسوة النظام وعدم إنسانيته. في مواجهة رجل دولة يريد أن يستتب النظام ويطبق على الناس كافة. إنها تراه مستبداً قاسي القلب، ويراها فتاة طائشة خلقت لتقول لا وتموت.

وفي أسطورة سيزيف، وهي أسطورة يونانية تروي قصة ذلك الإنسان الذي خرج على حكم الآلهة فعاقبته بفعل عبثي، أن يرفع صخرة كبيرة إلى أعلى جبل، وكلما كان يصل في دحرجة تلك الصخرة إلى قبيل القمة تعود الصخرة إلى السفح لعدم قدرته عليها، فيعود إلى عمله من جديد.. وهكذا بصورة مستمرة، يستمر تعذيب سيزيف في أن يقوم بعمل عبثي غير مجد، فلماذا يقوم الإنسان بهذا العمل اللامجدي طيلة حياة نهايتها الموت؟! إذن فالعالم غير معقول.

في أسطورة سيزيف يشرح ألبير كامي، أو يحاول أن يضع، بعض الأهداف التي يعاني منها كإنسان عبر الوجود ما دام الموت ضربة لازب لا بد منه فما جدوى الحياة؟! وما هو الهدف من وجود الإنسان في الحياة؟ لماذا أتى؟ وماذا يريد؟ ولماذا يموت؟ ولماذا يعيش على هذه الصورة أو تلك؟ أسئلة محيّرة.. ووجود نهايته الموت. وما دام الموت موجوداً ولا نعرف متى يأتي وكيف؟ فكل ما نقوم به في أثناء الحياة عبث، يقول كامي:

“ليس العالم معقولاً بحد ذاته، هذا كل ما نستطيع أن نقوله، ولكن العبث يتبين لنا حينما نقارن بين هذا اللامعقول وبين هذه الحاجة الملحة إلى الوضوح التي يتصاعد نداؤها من عمق أعماق الإنسان”. إذن هل نقبل فكرة أن ننتحر احتجاجاً على هذا الصمت الذي تذوب فيه أسئلتنا الكبرى؟ هل يحتج سيزيف على عمله اللامجدي فينتحر أم يتابع العمل بسعادة أو بقبول وتسليم.. وحتى بتفاؤل؟

وما كتبه من يطلق عليهم كتاب جيل الغضب في بريطانيا ومنهم جون أوزبورن زعيم لاتجاه في المسرح وزعيم لجيل سمي جيل الغضب في بريطانيا، كانت أولى مسرحياته “انظر إلى الخلف بغضب”. لندن عام ألف وتسعمائة وستة وخمسين، والشباب يغلي غضباً واحتجاجاً بسبب حرب السويس وثورة المجر، والنقمة على الساسة الانجليز وعلى العقلية البورجوازية القديمة بلغت ذروتها، والمسرح لا يزال على ساحته كتابٌ من الجيل القديم أيضاً لا يحسون أعاصير النار في عروق الشباب، والجيل ينتظر من يعبِّر عن أحاسيسه وآرائه ونفسيته.. في هذا الجو برز أوزبورن بمسرحيته “أنظر إلى الخلف بغضب” ليعبِّر عن غضب الشباب واحتجاجهم ورفضهم لكل ما هو تقليدي، فأصبح فارس الساح من غير منازلة ولا منازل. وفي مسرحيته تحدٍّ صارخ للقيّم الأخلاقية كافة، وفيها أيضاً رفض بل واحتقار لكل ما يحترمه الآخرون؟ هل هذا نوع من الثورة على المحافظين والإزراء بسياستهم والقيم التي يرفعونها؟.. ربما. ولكنه تمرد قد يكلف صاحبه والآخرين الكثير.

2 ـ في أدب الحرب نشير إلى أنموذج شهير هو رواية تولستوي “الحرب والسلام”، بوصفها سرداً فنياً يتعامل مع الحرب وسيرتها ووقائعها ونتائجها بتوسع. وأمثال تلك الرواية والمواضيع الأدبية التي تتناول الحروب في سرد فني طويل، موجودة في الأدب الروسي وفي الآداب العالمية كله

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

شهيدان باستهداف الاحتلال في نابلس

شهيدان باستهداف الاحتلال في نابلس

نابلس - المركز الفلسطيني للإعلام استشهد مقاومان بعد خوضه اشتباكاً مسلحاً - مساء الجمعة- مع قوات الاحتلال الصهيوني التي حاصرته في منزل بمنطقة عين...