الخميس 08/مايو/2025

المعركة القانونية.. سهمنا في صد العدوان

المعركة القانونية.. سهمنا في صد العدوان

صحيفة الدستور الأردنية

في ذات نكوص عربي.. ظنت القوة الصهيونية أنها باتت قادرة على الانفراد في المسرح السياسي والعسكري لتفرض نصها.. وذات عزة بإثم التسلح المفرط ظنت أن تطويع الجغرافيا لخرائط سايكس بيكو التي تم ترسيمها في ذات الأقبية المعتمة التي خرجت منها تلك الصهيونية.. هو مقدمة لتطويع السيكولوجيا وترسيم خرائط موازية في الوجدان والعقول والذاكرة الخاصة بالشعوب التي تسكن تلك الجغرافيا.. فتعلن رضوخها لاستزراع نبت هجين في جيولوجيتها.. يفقدها حيويتها وسلامتها الصحية والنفسية.. ويطفئ قدرتها على الانفعال والغضب.. والرفض والنقمة..

ولعل هذه الأوهام التي تدور في الذهنية المرضية الصهيونية لاقت شيء من استجابة لدى نفر منا. حين صدقوا وهما أسموه “سلام الشجعان”.. فراحوا يروجون له بهجوم إعلامي كاسح تم تصنيعه وفق النظرية الجوبلزية القائمة على قاعدة (اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس.. وتصدق نفسك)، أما أمتنا بعد اشتغال طويل على تدجينها لإسقاط مقومات كينونتها كأمة.. كانت قد دخلت في بيات طويل ظنته القوى الصهيو – أمريكية – النازية موتاً سريرياً يغري بإطلاق رصاصات الرحمة على كامل جسدها.. وربما لم يدر بخلد ذات القيادة الصهيونية الغبية التي أشعلت محرقتين متتاليتين في غضون سنتين.. أنها حين توغل بالتوحش والهمجية فإن هذا المارد رغم ما أصابه من ترهل.. ولكنه حين يتحرك يظل مارداً، واليوم وبعد أن هدأت نسبياً سحب الفسفور الأبيض واليورانيوم المنضب في الجو لتستقر في الأجساد والتراب.. فقد أخذ تحرك المارد الانفعالي الغاضب نحو المأسسة والبرمجة والعمل المنسق.. وبدأ أولى معاركه على الجبهة القانونية، ومن التحركات اللافتة الجادة على هذا الصعيد كان القرار الاجماعي لمجلس “النواب الأردني” لمقاضاة عدد من القادة الإسرائيليين كـ”مجرمي حرب” لدى المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة.. وتفويض رئيس اللجنة القانونية في المجلس (مبارك أبو يامين العبادي) لتقديم لائحة الدعوى التي تم إعدادها من قبل أعدها كل من (مجلس النواب والمركز الوطني لحقوق الإنسان) للمدعي العام الدولي استناداً للمادة الخامسة من “النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية” التي تنص على الاختصاص النوعي للمحكمة بـ”أشد الجرائم خطورة”.. والتي تتعلق بـ”جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسان وجريمتي الحرب والعدوان”.

المبادرة النيابية الأردنية لم تكتف بملاحقة مجرمي الحرب الصهاينة في المحكمة الجنائية الدولية، بل اشتملت هذه المبادرة على مطالبة “الحكومة الأردنية” برفع دعوى لدى “محكمة العدل الدولية” على حكومة “تل أبيب” استناداً إلى “اتفاقية منع الإبادة الجماعية”.. وكذلك التوصية للحكومة بتعديل قانون العقوبات الأردني بحيث يشمل جريمة الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية: وبحيث تسمح هذه التعديلات بـ”محاكمة مجرمي الحرب الصهاينة سواء كانوا مدنيين أو عسكريين بسبب جرائمهم على أرض غزة”.

ولا بد من الإشارة إلى أن هذه التوصية لها ما يسندها في (المادة 146) من اتفاقية جنيف الرابعة التي تلزم الدول الأعضاء باتخاذ التدابير اللازمة لمتابعة مجرمي الحرب وإن لم يكونوا من مواطنيها وارتكبوا جرائمهم في مناطق أخرى من العالم. المهم هو أن تسمح التشريعات الوطنية بذلك أو أن تعدل بحيث تسمح بذلك، إضافة إلى التحرك الأردني هناك المئات من التحركات والمبادرات الدولية والآلاف من الأشخاص الذي يتحركون على هذا الصعيد في العالم من أمثلتها:

1. المؤتمر الدولي حول “إسرائيل” وجرائم الحرب والإبادة الذي انعقد في الرباط ـ المغرب والذي صدر عنه “إعلان الرباط” (الأحد 15-2- 2009) للتنديد بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة أثناء حربها العدوانية على الشعب الفلسطيني… وطالب بتوثيق هذه الجرائم تمهيدا لتقديمهم إلى المحكمة الجنائية الدولية أو رفع دعاوى ضدهم أمام المحاكم الوطنية ذات الاختصاص الجنائي… وحث الدول العربية والإسلامية على التقدم لـ”محكمة العدل الدولية” في إطار (المادة 96) من ميثاق الأمم المتحدة لتقديم استشارة قانونية للتكييف القانوني للجرائم الإسرائيلية بأنها “جرائم ضد الإنسانية”.

2. رابطة المحامين الوطنية الأمريكية شكلت لجنة لتقصي الحقائق بشأن الانتهاكات الإسرائيلية للاتفاقات الدولية (وخاصة اتفاقية جنيف الرابعة).. وقامت اللجنة بزيارة قطاع غزة في (2ـ2ـ2009).. وركزت اللجنة بحثها في أمرين مهنيين: الأول مدى استخدام “إسرائيل” للأسلحة المحرمة دولياً، والثاني مدى إعاقة “إسرائيل” للأطقم الطبية واستهدافها.. فوجدوا أن هناك انتهاكاً كبيراً في هذين الأمرين.. ف”إسرائيل” استخدمت القنابل الفسفورية المحرمة دولياً.. كما استهدفت الأطقم الطبية ومنعتها من الوصول للمصابين وقتلت منها 15 طبيباً ومسعفاً.. (بحسب عضو الوفد المحامية الأمريكية من أصل فلسطيني نورا عريقات).

وأكدت اللجنة أن “إسرائيل” ارتكبت جرائم حرب وإبادة جماعية ضد السكان المدنيين والعزل في قطاع غزة بـ”أسلحة معظمها “أمريكي الصنع” ، وأخرى “محرمة دولياً” .. كما ارتكبت العديد من الانتهاكات للقوانين والأعراف والمواثيق الدولية التي تُحرم استهداف المدنيين واتخاذهم كدروع بشرية، وقتلهم من مسافات قريبة جداً.. واستهداف منازلهم وقصفها فوق رؤوسهم… كما أكدوا أن معظم الذين تعرضوا لجرائم الحرب مدنيون محميون وفق القانون الدولي الإنساني والقانون الأمريكي واتفاقية جنيف الرابعة، وأن أبشعها تركز في منع الجنود الإسرائيليين الخدمات الطبية من الوصول إلى المصابين، وإعاقة سيارات الإسعاف واستهدافها.

وانطلاقاً من مبدأ “أن لا دولة في العالم فوق القانون” طالما أنها تنتهكه مثل “إسرائيل” فقد تعهد المحامون الأمريكيون ببذل كل ما بوسعهم من أجل تقديم مجرمي الحرب الإسرائيليين من القادة السياسيين والعسكريين إلى محاكم دولية.

وأعلنت اللجنة أن السلاح الأمريكي المستخدم في هذه الحرب يمثل انتهاكاً للقانون الأمريكي القاضي بعدم استخدام هذه القذائف ضد أهداف مدنية.. وعليه تعهد المحامون بالدفع باتجاه أن تكون هناك محاسبة (مع إشارتهم إلى أن الإدارة الأمريكية لن تتعاطى كثيراً مع مثل هذه القضايا، خاصة التي ترفع ضد “إسرائيل” وحكوماتها). (بحسب عضو اللجنة المحامي توماس نيلسون، من ولاية “أوريغون” الأمريكية).

3. منظمة العفو الدولية طالبت (في رسالة وجهتها رئيسة المنظمة جنفييف غاريغوس إلى الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الأربعاء 28ـ01ـ2009) بالاستفادة من الأيام الأخيرة للرئاسة الفرنسية لمجلس الأمن الدولي بالعمل على تشكيل لجنة تحقيق دولية حول الانتهاكات والمحرقة التي ارتكبتها “إسرائيل” في غزة. من أجل ملاحقة المسؤولين عن هذه الجرائم ومحاكمتهم، خاصة مع وجود أدلة دامغة على استخدام مكثف للفوسفور الأبيض من قبل “إسرائيل”.

ربما تكفي هذه الأمثلة لما ينتظر “إسرائيل حكومة وجيشاً” من ملاحقات.. هناك إجماع – غير مسبوق في التاريخ – على ارتكاب “إسرائيل” جرائم حرب موصوفة بتعريف القانون الدولي الإنساني والجنائي.

وحيث يتوفر فيض من الأدلة الدامغة على هذه الجرائم.. ينبغي أن تسارع المنظمات الحقوقية الفلسطينية والعربية والإسلامية استكمال التوثيق والتدقيق وإعداد الملفات.. ووضعها أمام المنظمات والدول والمحاكم المتخصصة في ملاحقة مجرمي الحرب الصهاينة..

ولعل من النتائج المباشرة (أو الأخبار السعيدة إن صحت) للمبادرة الأردنية بملاحقة مجرمي الحرب الصهاينة، هو في ما ذكرته صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية من أن مسؤولين رفيعي المستوى في الحكومة الأردنية طالبوا القيادة الإسرائيلية بعدم زيارة الأردن خلال الأسابيع المقبلة، على أثر عزم مجلس النواب الأردني تقديم دعوى ضدهم إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي يتهمهم فيها… كما تشير الصحيفة إلى أنها المرة الأولى التي يقدم في الأردن دعوى إلى محكمة دولية ضد “إسرائيل” منذ توقيع معاهدة السلام بين الدولتين في العام 1995. وتنوه بأن الدعوى حظيت بتأييد مجلس النواب الأردني واللجنة الوطنية لحقوق الإنسان ولجان قانونية لمنظمات شعبية في الأردن.. والأهم من كل ذلك ما نقلته ذات الصحيفة عن مسؤول إسرائيلي يتابع القضية قوله “إنه بحسب تجربتنا فإنه لو لم تكن هذه الدعوى قد حظيت بموافقة صامتة من جانب كبار المسؤولين في الحكومة الأردنية لما تم تقديمها. فإن كان للحرب على غزة من فائدة (على قاعدة رب ضارة نافعة) فإن أول فوائدها بأنها لفتت الانتباه العالمي لما تختزنه النفسية الصهيونية من استعدادات وميول للجريمة والدم.. كما كشفت عن كم فظيع من الحقد والكراهية.. واحتقار للقانون الدولي وكل الشرعيات التي تنظم حياة البشر على هذا الكوكب.. مما أثار مخاوف المجتمع الدولي بأن هذا الكيان الصهيوني بات يشكل بالفعل خطراً على السلم العالمي برمته وليس على شعوب المنطقة وحدها.

أما على صعيد الأمة فإن من أهم نتائج هذه الحرب المدمرة يكمن في استفاقتها السريعة وحراكيتها التي عبرت عن طاقة هائلة للغضب والانتفاض.. وكلها ربما كانت خارج حسابات العدو.. أو على الأقل جاءت بشكل يفوق توقعاته.. لقد لاحت الفرصة المناسبة للتحرك.. فإذا كانت الظروف لا تسمح لشعوب الأمة وحكوماتها بالمشاركة في صد العدوان العسكري عن غزة.. فلتكن المعركة القانونية سهمنا في هذه الحرب.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات