الجمعة 09/مايو/2025

لو كنت فلسطينياً

لو كنت فلسطينياً

صحيفة الخليج الإماراتية

هذا العنوان ليس لعربي يستخدم خياله السياسي تعبيراً عن فرضية، فالعرب هم فلسطينيون بدرجات متفاوتة، كما أن الفلسطينيين عرب قلباً ولساناً وذاكرة، إنه عنوان مقالة نشرت في “هآرتس” بقلم يوسي ساريد الذي فاجأه، كما يقول، أحد طلابه المحافظين أثناء إلقائه محاضرة عن الأمن القومي في الدولة العبرية.

قال الطالب لو كنت فلسطينياً لقاتلت اليهود حتى الإبادة، وبكل الوسائل، حتى تلك التي تسمى إرهابية، وينهي ساريد مقالته على هذا الاعتراف المفاجئ لشاب يهودي لم يكن متوقعاً منه مثل هذا الاعتراف، لكن العدوان على غزة خلخل على ما يبدو ما كان من وجهة النظر الصهيونية من الثوابت والتربويات السياسية الراسخة، وتذكرنا هذه العبارة الانفجارية والانقلابية بتحولات صاخبة حدثت في المجتمع اليهود بعد اجتياح بيروت عام 1982، وكان الكاتب العربي إبراهيم البحراوي قد أصدر كتاباً بعنوان “الأدب الصهيوني بين حربين”، رصد فيه مثل هذه التحولات وسمّى الإحساس الذي طرأ على الوجدان اليهودي يومئذ بأنه أحزان موضعية، نعرف أن الجنود العائدين من لبنان في تلك الحرب كتبوا يومياتهم على نحو مثير، ومنهم من قال إنه خدع وخاض حرباً ليست هي حربه على الإطلاق. بعد ذلك عرف العالم ما سمي “الأمهات الأربع”، وهنّ الثواكل اللواتي قدن مظاهرات صاخبة في تل أبيب ضد وزارة الحرب وضد فلسفة التجنيد وانتهى الأمر إلى إحداث صدع كبير في الجدار الذي تصور البعض بأنه متماسك وأن مداميكه الأيديولوجية لا تلين، وجاءت ظاهرة العصيان على التجنيد عند جيل الشباب اليهود لتلفت الانتباه إلى أن الرهان التربوي على تحويل مجتمع برمته إلى ثكنة عسكرية قد خاب، أو على الأقل لاحت علامات خيبته في الأفق.

إنها متوالية من الشكوك في جدية وصدقية المشروع الصهيوني، بحيث لم يتحول الكيبوتس إلى معبد، ولم تفلح أحلام الجنرالات التوسعية في إقناع الشباب من اليهود بأن مشروعهم يستحق الموت، وباختصار أصبحت العقيدة العسكرية على محك قد يفضي إلى غير ما اشتهى الرواد الأوائل للصهيونية.

لو كنت فلسطينياً لقاتلت اليهود حتى الإبادة، قد تكون هذه العبارة قابلة للتصديق لو صدرت عن أي كائن غير اليهودي، خصوصاً إذا كان يعيش في مستوطنة داخل فلسطين، لكن السحر ارتد على السحرة، وظهر على الشاشات حاخام أحرق جواز سفره ليقول للعالم إنه يهودي فقط، أما الصهيونية فهي الكمين الذي تساقط فيه من فقدوا الوعي بسبب الجرعة السامة التي لدغوا بها، ففلسطين ليست الفردوس الأرضي الموعود، إنها أيضاً جحيم، لا من حيث التعرض لأخطار المقاومة فقط، بل لأسباب أخرى ذاتية، منها الانتحار، والإصابة بأمراض نفسية مزمنة، وأخيراً سقوط الوهم الذي طالما طرح في أوساط اليهود على أنه الخلاص المقدس.

لم يسبق أن سمعنا أو قرأنا ليهودي مثل هذه العبارة الصريحة والصادقة التي يستشهد بها يوسي ساريد في مقالته، لأن مثل هذه الأطروحة المضادة لم تكن قد نضجت بعد، ويبدو أن العدوان على غزة كان بمثابة نيران جديدة وضعت تحت المرجل لإنضاجها.

لقد عزفت الصهيونية لعدة عقود على وتر الذاكرة الآثمة لدى أوروبا، بسبب مواقف النازية، لكن العدوى تسربت الآن إلى ذاكرة اليهود أنفسهم، فهم يشعرون بأن مؤسستهم العسكرية تزجهم في حرب لا نهاية لها، ولن يكون الانتصار الموعود من نصيبها.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات