«التنسيق الأمني» يعني «ممنوع الدخول»!

صحيفة الوطن القطرية
كنت أقف مع العشرات من الصحفيين والأطباء والعالقين الفلسطينيين والحقوقيين الدوليين ننتظر رد سلطات معبر رفح من الجانب المصري على طلباتنا الخاصة بالعبور إلى قطاع غزة بعد يوم طويل من الانتظار في ظروف غير آدمية أمام المعبر. ومع تثاقل الوقت وتسرب الملل إلى نفوس الكثيرين كانت بوابة المعبر تفتح من آن لآخر ليطل ضابط البوابة وينادي «أين الوفد الألماني؟» أين الصحفيون الأميركيون؟ «أين الوفد الفرنسي؟» وهكذا.. فخلال اليوم الأول لوجودي على المعبر دخلت عشرات الوفود لاسيما من الأوروبيين والأميركيين كان من بينهم أكثر من خمسة وعشرين من الصحفيين.
وحينما أوشك المعبر على الإغلاق نادى الضابط بصوت عال على مسمع من الجميع قائلاً أحمد منصور لم يمهلني للإجابة حتى اتبع الاسم بكلمة «مرفوض» وكانت هذه هي المرة الأولى في هذا اليوم التي تعلن فيها هذه الكلمة «المخابرات» حتى الغربيون أصبحوا يقولون كلمة مخابرات باللغة العربية تماماً كما ننطقها نحن العرب لكن بالنسبة لي كان القرار فاصلاً مرفوض قلت للضابط: ما معنى مرفوض قال لا أعرف هذا ما بلغت به من الداخل أنت مرفوض لم أجادله كثيراً فهو مثل غيره ينفذ الأوامر لكن كان هناك اثنان آخران ينتظران جواباً أيضاً لكنهما لم يبلغا بالرفض مثلي ولكن قيل لهما التنسيق الأمني لم يتم بعد.
ليست هناك أسرار على المعبر كل ما يدور داخل المعبر وخارجه يتداوله الجميع أشخاص ينادى عليهم ويدخلون للداخل يقضون دقائق وأحياناً ساعات ثم يعودون مرة أخرى في انتظار التنسيق الأمني وهي عبارة مهذبة للرفض وأحياناً لاختبار قدرة طالب الدخول إلى غزة على الصبر والتحمل أو يأخذ قراره من تلقاء نفسه بالعودة إلى القاهرة مرة أخرى ومن ثم العودة إلى بلده إن كان أجنبياً.
لم أقض اليوم الأول في المشاهدة والانتظار فقط ولكني ما تركت وفداً في طريقه إلى غزة أو عائداً منها إلا وتحدثت إليهم كان بعضهم يتحفظ إلى حد عدم الإفصاح عن الهدف من الدخول بل قالت لي إحداهم وهي ألمانية لدينا أوامر من المسؤول ألا نتحدث إلى أحد أما المسؤول عنهم فقد رفض حتى الإدلاء بالمعلومات البسيطة التي كنت أجمعها من الأفراد المتناثرين.
بعض الوفود كانت تتكون من شخصين وبعضها كان يصل إلى عشرين شخصاً معظمهم أوروبيون لاسيما الألمان والفرنسيين واليونانيين والايطاليين وقد لاحظت أن كثيراً منهم يتحدث العربية أو يفهمها على الأقل.
وأصبحت على يقين جازم من اليوم الأول لوجودي على المعبر أنه ما من جهاز مخابرات في العالم إلا وأرسل بعض عملائه ومندوبيه تحت أي من المسميات الكثيرة التي كان يدخل بها هؤلاء لمعرفة ماذا حدث ويحدث في غزة بعد حرب “إسرائيل” عليها بل إني لا استبعد أن هناك إسرائيليين ممن يحملون جنسيات مزدوجة لا سيما الأوروبيين والأميركيين قد دخلوا للقطاع خلال الأيام الماضية لجمع المعلومات، فجواز سفر غربي ومهنة صحفي أو لجنة إغاثة أو حتى طبيب أو متطوع أو جمعية من الجمعيات التي تملأ العالم ورسالة من سفارة بلدك وتنسيق أمني كفيل بأن تكون في غزة خلال ساعات تجمع ما تريد من معلومات ثم تعود. تعرفت في اليوم الأول على كل من كورت جورنج النائب الأول للمدير التنفيذي لمنظمة العفو الدولية وهو أميركي يقيم في واشنطن، وزميلته نانسي هوكر وهي بريطانية تعمل مسؤولة للحملات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في المنظمة، وقد جاءا كوفد من المنظمة لدعم زميلين لهما تمكنا من الدخول إلى غزة في اليوم الأول لفتح المعبر مع عشرات من الصحفيين والناشطين حيث دخل في هذا اليوم مئات من الصحفيين وناشطي حقوق الإنسان كان من بينهم بعض زملائنا من قناة الجزيرة، ولأن منظمة العفو الدولية مكروهة من قبل السلطات المصرية بسبب تقاريرها حيث لم تشفع لجورنج وهوكر جنسياتهما الأميركية والبريطانية ولا عشرات الاتصالات التي بقيا يجريانها طوال ثلاثة أيام بقيا فيها معي على المعبر مع كل من وزارات الخارجية وسفارات بلديهما ومقر المنظمة الرئيسي في لندن ووزارة الخارجية المصرية التي ربما أي جندي من الواقفين على المعبر له سلطة أكبر من سلطة وزيرها عليه ففي نقاش بين أحد المرفوضين ومسؤولي بوابة المعبر قال المرفوض وهو أوروبي: لقد اتصل وزير خارجيتنا مع وزير الخارجية المصري وأكد له أن كافة الترتيبات الخاصة بنا قد أنجزت من أجل الدخول إلى غزة فرد عليه المسؤول الأمني قائلاً: «خلي وزير الخارجية ييجي يدخلك».
كان كورت ونانسي لديهما دأب وإصرار عجيب على الدخول إلى غزة وتوثيق الجرائم التي ارتكبتها “إسرائيل” بحق الشعب الفلسطيني، في بعض الأحيان كنت أجدهما وقد استبشرا بمكالمة أو اتصال ثم يملأ الإحباط وجهيهما مرة أخرى، ثم يعودا معي في المساء إلى الفندق وهما بين الدهشة والذهول مما يحدث.
قلت له: كورت.. هل تعرضت لمثل هذا في أي من مهمات عملك طوال عشرين عاماً في منظمة العفو الدولية؟ قال: على الإطلاق هذا شيء غريب لا أكاد أصدقه، وما يؤلمني هو أن مصر تمنعنا من دخول قطاع غزة لنوثق تجاوزات قامت بها “إسرائيل” ضد الفلسطينيين وليس مصر فلماذا تمنعنا مصر؟، أما نانسي فقد قالت لي: حتى حكومة طالبان لم تعاملني على الحدود الأفغانية الباكستانية بهذه الطريقة، فمرة واحدة طال وجودي على الحدود الأفغانية ولم يزد عن ساعة، أما ثلاثة أيام ومن أجل رصد انتهاكات قام بها الإسرائيليون ضد الشعب الفلسطيني والذي تمنعني هي الحكومة المصرية أنا لا أكاد أصدق؟
بعد أذان الظهر في اليوم الثالث لوجودهما على المعبر جاءني كورت متهللاً وقال لي: أحمد لقد أصبح كل شيء على ما يرام، جاءت الموافقة والتنسيق الأمني تم، الضابط قال لي بعد الصلاة سوف نبدأ في إنهاء إجراءات دخولكم، لقد أكد لي الضابط أن كل شيء قد انتهى سوف ندخل إلى غزة يا أحمد. لكن كورت ونانسي ظلا باقي اليوم يركضان إلى البوابة كلما ظهر الضابط لينادي على من يتم الإفراج عنهم والسماح بدخولهم إلى غزة ثم يعودان إلى حيث أقف غير بعيد والإحباط يعلو وجهيهما. انتهى اليوم الثالث لهما دون جدوى وفي نهاية اليوم جاءني الاثنان وقالا لي: هل يمكن أن تعيرنا سيارتك لتوصلنا إلى العريش حتى نأخذ بسيارة من هناك تعيدنا للقاهرة؟ قلت لهما: هل ستراجعان الخارجية المصرية أم سفارات بلديكما؟ قال: لا سنعود، أنا إلى واشنطن وهي إلى لندن، يبدو أن هناك قراراً نهائياً من الحكومة المصرية بعدم السماح لنا بالدخول إلى غزة لتوثيق الانتهاكات التي وقعت هناك وسوف نوثق ذلك في تقارير منظمتنا. أما وفود الأطباء فكانت تترى من كل الدول العربية تقريباً، ولم يكن الأطباء يقضون في العادة وقتاً طويلاً على المعبر، فقط ساعات، وهي في مفهوم المعبر تعتبر شيئاً من النزهة غير أن وفداً طبياً سورياً عومل بشكل آخر، ففي اليوم الأول بقوا حتى نهاية اليوم تقريباً على بوابة المعبر ثم نادى ضابط البوابة عليهم. كانوا ستة عشر طبيباً كلهم تقريباً من الجراحين ومعظمهم من جراحي الأوعية الدموية والجراحات الدقيقة، وتم اختيارهم بعناية من قبل نقابة الأطباء في سوريا من بين عشرات ممن تقدموا للذهاب إلى غزة، وبعد مساومات معهم أخبرهم الضابط أن نصفهم فقط سيدخل اليوم أي ثمانية، دخل ثمانية ثم أخبروهم في الداخل أن سبعة فقط سوف يدخلون، استبد القلق بالباقين وبالطبيب الذي أعادوه من الداخل وقال لي «الضابط أقسم لي بشرفه إننا سوف ندخل جميعاً في الصباح». وفي التاسعة صباح اليوم التالي كانوا يقفون على بوابة المعبر مذهولين بينما كان الطبيب الذي تلقى الوعد بالشرف يكاد يهذي وهو لا يصدق أن الضابط سحب قسمه بشرفه بهذه السهولة. باتوا يوماً إضافياً في العريش وصباح اليوم التالي نشرت لهم خبراً على شاشة الجزيرة وتدخلت حكومتهم، وفي نهاية اليوم نادوا عليهم، غير أن الضابط أصبح يفحص تخصصات كل منهم ويقول لهم هذا التخصص ممكن أن يدخل وهذا غير مطلوب وهكذا دخلوا في مساومة أدت في النهاية إلى دخولهم جميعاً عدا أحدهم لأنه جراح أوعية دموية وهي من التخصصات الدقيقة التي يحتاجها أهل غزة لكن ضابط المعبر الخبير في الطب والجراحة أكد أن هذا تخصص غير مطلوب في غزة وأعاد الطبيب وحده دون باقي الوفد. وبقي الطبيب محبطاً على المعبر طيلة الأيام كل يوم يأتي في الصباح ويبقى على أمل الدخول إلى آخر اليوم حتى أعلن عن إغلاق المعبر بشكل نهائي.
في اليوم الثاني لوجودي على المعبر جاء وفد علمي من أساتذة الجامعات المصرية برئاسة الدكتور عادل عبد الجواد رئيس مجلس إدارة نادي أعضاء هيئة التدريس بجامعة القاهرة، ويضم الوفد أساتذة من معظم الجامعات المصرية متخصصين في تخصصات علمية دقيقة تتعلق بالاحتياجات المعمارية والطبية التي يحتاجها أهل غزة في مرحلة ما بعد العدوان أهمها خبراء في إعادة الإعمار وبراءات اختراع بسيطة التكاليف تسهل كثيراً من المشكلات للذين هدمت بيوتهم وتقوم على أفكار حازت على جوائز دولية، قضى العلماء المصريون ثلاثة أيام على المعبر يحاولون كل يوم من الصباح إلى المساء ثم عادوا للقاهرة بعدما أعلن أن المعبر سوف يغلق بشكل نهائي في الخامس من فبراير، وقال لي الدكتور عادل عبد الجواد وهو يشعر بالأسى بعد ثلاثة أيام من البقاء على المعبر «كيف نمنع نحن المصريين من الدخول لمساعدة إخواننا في غزة بينما يسمح لكل جنسيات العالم بالدخول. إننا نشعر بالعار من تصرفات هذه الحكومة؟ هل يجب أن نحمل جنسية أوروبية حتى يحترمونا؟» كان يحدث هذا في الوقت الذي كانت الوفود اليونانية والإيطالية والفرنسية والأميركية يسمح لها بالدخول دون عقبات بينما نحن المرفوضين نقضي سحابة النهار أمام المعبر ثم نتلقى وسام الرفض نهاية اليوم وأحياناً في منتصفه «مرفوض».
نتابع قصص المرفوضين على معبر رفح في الأسبوع القادم.
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

الأورومتوسطي: إسرائيل تمارس حرب تجويع شرسة في قطاع غزة
غزة- المركز الفلسطيني للإعلام أكد المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، أن الهجوم الإسرائيلي المتواصل والحصار الخانق والنقص الحاد في الإمدادات...

550 مسؤولا أمنيا إسرائيليا سابقا يطالبون ترامب بوقف الحرب بغزة
القدس المحتلة – المركز الفلسطيني للإعلام طالب مئات المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين السابقين الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالعمل على وقف الحرب في...

حماس تدعو للنفير لحماية الأقصى بعد محاولة ذبح القرابين
القدس المحتلة – حركة حماس قالت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، إن محاولة المستوطنين ذبح قربان في المسجد الأقصى يعد تصعيداً خطيراً يستدعي النفير...

مؤسسات الأسرى: تصعيد ممنهج وجرائم مركّبة بحق الأسرى خلال نيسان الماضي
رام الله - المركز الفلسطيني للإعلام واصلت سلطات الاحتلال الإسرائيلي خلال شهر نيسان/ إبريل 2025 تنفيذ حملات اعتقال ممنهجة في محافظات الضفة الغربية،...

إضراب جماعي عن الطعام في جامعة بيرزيت إسنادًا لغزة
رام الله- المركز الفلسطيني للإعلام أضرب طلاب ومحاضرون وموظفون في جامعة بيرزيت، اليوم الاثنين، عن الطعام ليومٍ واحد، في خطوة رمزية تضامنية مع سكان...

القسام تفرج عن الجندي مزدوج الجنسية عيدان ألكساندر
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أفرجت كتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، عند الساعة 6:30 من مساء اليوم...

خطيب الأقصى: إدخال القرابين يجب التصدي له بكل قوة
القدس – المركز الفلسطيني للإعلام استنكر خطيب المسجد الأقصى الشيخ عكرمة صبري، محاولة يهود متطرفين إدخال قرابين إلى ساحات المسجد الأقصى، معتبراً أنه...