نواقيس الخطر

صحيفة الوطن العمانية
إذا كان العالم، بعد صدمة الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة، قد أعلن بصوت واحد وضع مسألة “محاربة الإرهاب” وتجفيف منابعه في طليعة أهدافه، فإن الحرب في غزة بالصورة التي شهدها الجميع وتداعياتها تدل على أن هذا الأمر يبقى طي نسيان المحافل الرسمية العالمية، إذ أن نواقيس الخطر يجب أن تُقرع لتفادي ما جرى في غزة. فالشروط الملائمة للتطرف ولتفريخ “إرهابيي المستقبل” هي اليوم أكثر ازدياداً من ذي قبل.
لنتذكر أن محاربة الإرهاب تعني لغالبية المتابعين المعنيين بهذه المهمة التركيز على جوانب محددة منها عسكري واستخباراتي يتمثل بالعمل السريع على تعقب الإرهابيين وملاحقتهم وإخماد تحركاتهم الساعية إلى الإرهاب ويرمي كذلك إلى ضبط مواردهم المالية ومحاولة تجفيفها عبر تضافر علاقات تعاون دولية لتحقيق الهدف المنشود. فالهدف الأيديولوجي يتلخص في التصدي للنهج التربوي، وللخطاب، الذي يحض، بشكل ما، على العنف والكراهية ونفي رؤية الآخر. إلا أن الثغرة التي لا يزال العالم يخفق بسدها لبتر دوافع الإرهاب، وللمفارقة الكبرى، لا تزال تتسع بمساهمة دولية رسمية حين يفشل العالم في أن ينفذ إلى الجانب النفسي للأفراد والجماعات المغبونة التي تشعر بأنها عاجزة عن القيام بما يزيل غبنها وترى العالم صامتاً حيال ضيمها. ولعل في ما عبر عنه المظلي الإسرائيلي بن موكا والاحتياطي الإسرائيلي “نوعيم ليفنا” لصحيفة الجارديان (تاريخ 17 يناير) يكمن بعضاً من الوصف لما يجري وبنفس الوقت خوفاً، عقلانياَ ومشروعاَ، من نتائجه نظراً للحالة النفسية للفلسطينيين، فيقول بن موكا في تبرير رفضه للخدمة في غزة إنه “انضم للجيش الإسرائيلي على اعتقاد أنه سيحارب “منظمات إرهابية”، ليجد نفسه يقمع تطلعات الفلسطينيين للحرية واحتجاجات المزارعين الفلسطينيين ضد السرقة التي لا تنقطع لأراضيهم” ويتابع بن موكا بقوله إنه قد “شاهد انتهاكات مثل إرسال الجنود الإسرائيليين للنساء والأطفال الفلسطينيين ليدخلوا بعض المنازل للتأكد من خلوها من الألغام، ومثل استخدام المدنيين كدروع بشرية”. وأما ليفنا فإنه يعبر عن مخاوفه من آثار هذه الحرب مستقبلاً إذ يقول: “فقتل المدنيين الأبرياء لا يمكن تبريره، لا شيء يمكن أن يبرر هذا النوع من القتل، إنما هي الغطرسة الإسرائيلية المستندة إلى منطق أنه إذا ما أكثرنا الضرب فسيكون كل شيء على ما يرام، لكن الكراهية والغضب اللذين نزرعهما في غزة سيرتدان علينا”.
لابد من الاستباق للتأكيد على نقطتين: الأولى تتلخص في رفض استخدام العنف، أياً كان شكله أو مصدره، بالتلازم مع نبذ أية لغة أو خطاب أو أيديولوجيا، دينية كانت أم غيرها، متزمتة ترفض الآخر وتستعلي عليه؛ والثانية أن هذه الأسطر لن تتطرق للجانب السياسي البحت للعنف الدائر، فقد أُطنب آخرون في تغطيته وتحليله، وإنما الغاية تنحصر هنا في محاولة استقراء وفهم من وجد نفسه في غزة وسط القصف والتدمير والقتل دون أن يكون مسلحاً أو متحزباً ولكنه عانى من العنف الدائر وكأنه طرف منه وما هي تداعيات ذلك عليه في المستقبل، وهذا لا يخص فقط أطفال غزة ومن سينجو منهم “جسدياً” وإنما يشاطره أيضاً في مشاعر الغبن والإحساس بالعجز من يراقب عن بعد الصورة المريعة لما تفعله آلة الحرب بالأطفال والمدنيين عموماً وقد مزقت أجسادهم أو أحرقتها آله الحرب بدباباتها وطائراتها وصواريخها.
خلافاً لنظيره الفلسطيني، يحظى الطفل الإسرائيلي الذي يتعرض لصدمة نفسية ويعاني منها بالعناية اللازمة من قبل الأخصائيين، فهناك مراكز تدريب مختصة وورشات عمل متعلقة بذلك ويتم تقديم الخدمات والاستشارات والعناية المتطورة في مجال معالجة اضطرابات ما بعد الصدمة. أما الطفل الفلسطيني الذي يفتقد، في الأحوال العادية، للمساعدة المناسبة والعلاج اللازم، فيبقى فريسة للقلق والخوف، وإذا كان الكبار محصنين عموماً بعامل السن والخبرة، فإنه يتعذر على الطفل بمفرده المقدرة على مواجهة ما يعيشه من مآس ستنتج، لا محالة، اضطرابات نفسية عميقة وحالات من التوتر والاكتئاب. وسيبقى عرضة للخوف والقلق والكوابيس جراء شعوره بتهديد حياته وتعرضه للأخطار ونتيجة لقصف المكان الذي يعيش فيه والدمار والخراب في كل مكان من حوله وهلع الموت بافتقاده لواحد أو أكثر من أفراد أسرته.
يجب أن تتمحور الأسئلة، التي يفترض أن تشغل بال الكثيرين الآن، حول المستقبل واحتمالاته. من المؤكد أننا لا نستطيع أن نقرأ بدقة مستقبل الطفل الفلسطيني الآن وهو يتعرض لما نشاهده، لكن من البديهي، والواقع هكذا، أن نقدّر أن احتمال نزوعه إلى العنف قائم وبقوة، فما من أحد يستطيع أن يخمّن ليس فقط كم ستبقى في ذاكرة الفلسطيني مشاهد العنف والدمار والقتل والانفجارات والبكاء والعويل بل وأيضاً إلى أي حد ستطبع حياته أو كيف ستؤثر عليه مستقبلاً، ناهيك عن الشعور بأن طفولته قد سُرقت واغتيلت، ويبقى احتمالاً مرجحاً أن تفكيره سيدور بحلقة يشعر بها أن أحداً لم يقدر طفولته ولم يرحمها وأنه عومل، وسط صمت العالم، كما لو كان ناضجاً ومحارباً، وهو طفل يريد أن يلعب ويلهو.
في كتابه ( From the Wings ) ـ كما في مقابلات معه ـ يوضح جوزيف هارماتز (مواليد ليتوانيا 1926) وهو أحد الذين أثرت في حياتهم آلة الحرب النازية بتدميرها وقتلها لليهود أنه خطط، ومجموعة انتظمت، لقتل الملايين من الألمان بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بطرق إرهابية (وأفلح في الواقع بقتل بضعة مئات) ويبرر ذلك أنه أراد أن ينتقم من أي كان لأن صمت الألمان عامة لما جرى قد عنى له، بشكل أو بآخر، المشاركة فيما حدث، أو أن من بقي صامتاً إنما كان مقتنعاً، على الأقل، وأعطى موافقته الضمنية على استمرار القتل. ختاماً، المأساة يعيشها البعض والبعض الآخر يتعاطف مع من تحل عليه وأما تأثيراتها على الاثنين فهذا ما سيبينه المستقبل.
هذا المقال هو منشور بالتعاون مع مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org
كاتب سوري.
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

إصابة مواطنين برصاص الاحتلال في بنت جبيل جنوبي لبنان
بيروت - المركز الفلسطيني للإعلام أصيب شخصان برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي، اليوم الأحد، في بلدة مارون الراس الحدودية، قضاء بنت جبيل، جنوب لبنان....

حماس: الموقف العربي من حرب التجويع والإبادة لا يرقى لمستوى الجريمة
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام شددت حركة "حماس" على أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي ترتكب جريمة حرب مركبة في غزة، باستخدامها التجويع سلاحا ضد...

السلطة تقطع رواتب عدد كبير من الأسرى في سجون الاحتلال
الضفة الغربية- المركز الفلسطيني للإعلام أقدمت السلطة على قطع رواتب عدد من الأسرى والأسيرات، والمحررين والمحررات، في خطوة أثارت استياء واسعًا في...

الأورومتوسطي: إسرائيل تقتل امرأة فلسطينية كل ساعة في قطاع غزة
المركز الفلسطيني للإعلام قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي قتل بالقصف المباشر على قطاع غزة ما معدله 21.3 امرأة...

الصحة تحذر من تسارع مؤشر النقص الحاد في الأرصدة الدوائية
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام حذرت وزارة الصحة من أن مؤشر النقص الحاد في الأرصدة الدوائية في "تسارع خطير"، فميا أفادت بأن مستشفيات القطاع استقبلت...

الأونروا تحذر من ضرر غير قابل للإصلاح مع إطالة أمد الحصار الإسرائيلي
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام حذرت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، من أن إطالة سلطات الاحتلال الإسرائيلي منع إدخال المساعدات إلى...

السفير الأمريكي في إسرائيل يجدد دعم واشنطن لتهجير الفلسطينيين من غزة
الناصرة - المركز الفلسطيني للإعلام جدد السفير الأمريكي لدى سلطات الاحتلال الإسرائيلي مايك هاكابي، دعم واشنطن تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، رغم...