العثمانيون الجدد.. يحثون الخطى في حقل الألغام المشرقي

صحيفة العرب القطرية
قبل زهاء خمس سنوات، نشرت مقالة تعالج السياسات الخارجية لحكومة العدالة والتنمية، واصفاً رئيس الوزراء أردوغان وحكومته بالعثمانيين الجدد، وخلال السنوات القليلة التالية، شاع استخدام هذا المصطلح، بوعي أحياناً وفي شكل سطحي في أحيان أخرى.
ما يدفعني لهذا الاستدعاء، كان التظاهرة التي شهدتها مدينة غزة مؤخراً، دعماً وتحية لأردوغان، واللافت في تلك التظاهرة كان رفع العلم التركي على أرض عربية، بروح من الاعتزاز والاحترام، وبأيدي جموع عربية، هذا العلم هو بالطبع ليس علم الجمهورية التركية وحسب، بل كان أيضاً علم الدولة العثمانية، وهو من الرموز القليلة للسلطنة التي لم يقم النظام الجمهوري بتغييرها. تحت هذا العلم قاتل الجنود العثمانيون -الأتراك والعرب والأكراد- في حرب تلو أخرى، وتحته استشهدوا بمئات الآلاف في معارك الحرب الأولى الكبرى. إن لم أكن مخطئاً، فهذه هي المرة الأولى التي يرفع فيها العلم التركي-العثماني في شوارع مدينة عربية بمثل هذا الاعتزاز منذ انهيار السلطنة وتقسيم أراضيها إلى دول المشرق التي نعرفها اليوم.
ما أدى إلى أن يرفع الغزيون العلم التركي-العثماني في شوارع مدينتهم، كان بالطبع وقوف تركيا العلني إلى جانب الفلسطينيين أثناء حرب الأسابيع الثلاثة على القطاع، وقد تتوج التعاطف التركي الرسمي والشعبي بالموقف التي اتخذه أردوغان من الكلمة التي ألقاها الرئيس الإسرائيلي شيمعون بيريز في دافوس، ورأى أردوغان أن قيام حكومة أولمرت بالهجوم على غزة حمل إهانة مباشرة لتركيا، سيما وأن أولمرت استُقبل في أنقرة قبل أيام قليلة فقط من بدء العدوان، في زيارة كان من المفترض أن تمهد لمزيد من التقدم في مسار السلام مع سوريا، وبين الأسباب المهمة أيضاً خلف الموقف التركي كان التحرك الشعبي الهائل للتضامن مع أهالي غزة، ليس في اسطنبول وحسب، ولكن أيضاً في عشرات المدن التركية الأخرى، غير أن هناك عاملاً آخر خلف هذا الموقف، عامل يتعلق بمجمل السياسة الخارجية التي اختطتها حكومة أردوغان طوال السنوات الست الماضية: العثمانية الجديدة.
رغم الوتيرة العالية التي ميزت الموقف التركي من الحرب على غزة، فإن من الضروري ربما رؤية هذا الموقف ضمن سياق أوسع من التحرك في الجوار العربي: الدور التركي الهام في العراق، المصالحة التركية – السورية التاريخية، ومن ثم تعزيز العلاقات الاقتصادية والسياسية بين دمشق وأنقرة، اتفاقية إلغاء التعرفة الجمركية بين مصر وتركيا، وتدفق رجال الأعمال الأتراك للعمل في مصر، علاقات تركية وثيقة مع قطر وعلاقات تزداد عمقاً مع السعودية، مسؤولون أتراك في زيارات متواصلة للعواصم العربية، وشركات بناء تركية تنشط في كافة المناطق العربية، ولعل رفع العلم التركي – العثماني لم يكن السابقة الأولى التي تشهدها العلاقات العربية – التركية منذ ثمانين عاماً، ففي أعقاب حرب صيف 2006 شارك الأتراك في قوات حفظ السلام الدولية على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية. هذه المشاركة أعادت الجنود الأتراك إلى الأرض العربية من جديد، ولو تحت مظلة الأمم المتحدة.
تركيا، بالطبع، هي دولة عضو في حلف الناتو منذ مطلع الخمسينيات، وحتى أثناء الأزمة الجورجية في صيف العام الماضي، التي وقفت أنقرة منها موقفاً حيادياً ومتوازناً، لم يكن خافياً أن تركيا أسهمت في تسليح جورجيا خلال الفترة السابقة على الأزمة، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وتركيا أيضاً أول دولة إسلامية اعترفت بالدولة العبرية، وأقامت علاقات دبلوماسية معها. وقعت أنقرة اتفاقية تعاون عسكري مع الدولة العبرية في 1996، وتنشط في تركيا اليوم عشرات الشركات الإسرائيلية. إضافة إلى ذلك، تبذل تركيا منذ زمن جهوداً هائلة من أجل التقدم في المفاوضات من أجل عضوية الاتحاد الأوروبي. هذا التباين، على الأقل من وجهة نظر المسألة الفلسطينية والعلاقة بالغرب، هو ما يطرح السؤال حول تعقيدات الهوية والخيارات التركية في عهد العدالة والتنمية. قبل عقد أو اثنين، لم يكن هناك من داعٍ لهذا السؤال، لأن أياً من رؤساء الحكومات السابقين لم يكن يفكر بمستقبل تركيا خارج النطاق الأوروبي والتحالف الغربي. ما تشهده السياسة التركية منذ صعود العدالة والتنمية هو تغير نوعي على هذا الصعيد، وهنا يمكن أن ترى المفارقة، أن يرى الازدواج، والتباين والتعقيد.
تعمل حكومة العدالة والتنمية بجدية بالغة من أجل التقدم في مفاوضات عضوية الاتحاد الأوروبي، وتساعد هذه المفاوضات في شكل ملموس على جعل تركيا أكثر ديمقراطية وإنسانية، كما تساعد على وضع حدود لتدخل المؤسسة العسكرية في السياسة، ولكن قادة تركيا الحاليين لا يتعلقون بالأوهام، ويدركون أن أوروبا قد لا تقبل في النهاية بعضوية تركية كاملة في الاتحاد. ولذا، فما يراه هؤلاء الأتراك أن مستقبل تركيا الحقيقي، والواقعي، هو في الفضاء العثماني – التركي، في المنطقة العربية، في البلقان، وفي القوقاز ووسط آسيا، ولكن هؤلاء الأتراك لا يتحركون بطموحات إمبراطورية مستدعاة، وهم لا يعترفون بقوة الرابطة القومية في المنطقة وحسب، بل ويقرون أن الجمهورية التركية نفسها أقيمت على أسس قومية، وستبقى كذلك إلى أمد بعيد. النزعة التركية لتعزيز الارتباط بالجوار، بالفضاء العثماني السابق، ليست نزعة إمبراطورية جديدة، بل محاولة لاستعادة الوجود التاريخي، للبناء في الفضاء الجغرافي الطبيعي، بدون إمبراطورية، ولكن ثمة بعد آخر للسياسة التركية الجديدة، بعد يرتكز إلى المحتوى الثقافي للهوية والعلاقات، لا المحتوى القومي – الإثني فقط. التركي هو تركيٌ قومياً، ولكنه قد يرى نفسه كمسلم أيضاً، ككردي أو عربي، أو كابن للشرق، كصوفي أو كحنفي (وكعلماني، أو أوروبي، كذلك)، وما ينطبق على الأتراك ينطبق على كافة شعوب هذه المنطقة بالغة التنوع، وعلى المشترك الثقافي الكبير الذي يجمع الأتراك بأبناء المنطقة من حولهم، يسعى هؤلاء الأتراك إلى بناء علاقات من نوع جديد.
إن من التبسيط، بالطبع، نفي الميراث التاريخي في صورته الإمبراطورية كلية. يرى قطاع واسع من الأتراك أن تركيا هي الوريث الأكبر للميراث العثماني الإمبراطوري، ولكن من الظلم ترجمة هذا الشعور إلى سياسة توسعية فجة. الأصح، ربما، أن هذا الشعور يعزز الإحساس التركي بالمسؤولية تجاه الجوار، وأن هذا الإحساس بالمسؤولية يتزايد كلما ازداد الشعور التركي الجمعي بالقوة والاكتفاء، تعززت الثقة التركية بالذات، غير أن تركيا الجديدة ترى نفسها أيضاً في قلب العالم، وفي قلب العالم الغربي، لا في قطيعة معه. ترى نفسها جمهورية علمانية، حتى وهي تسعى لإصلاح النظام العلماني وجعله أكثر تسامحاً. تركيا العدالة والتنمية لن تترك حلف الناتو ولن تقطع علاقاتها بالدولة العبرية قريباً، حتى وهي تنتصر لأبناء السلطنة السابقين في فلسطين، وتركيا ليست طرفاً في المحاور العربية، وترفض الاستهداف الغربي لإيران، ولكنها ترفض التوجهات الإيرانية التوسعية كذلك، وأولوية الحكومة التركية هي بالتأكيد رفاه الشعب التركي، وتعزيز اقتصاده، وتركيا الجديدة لم تغادر الأسس القومية التركية للجمهورية، حتى وهي تحاول أن تفسح مجالاً أوسع للتعددية الإثنية والثقافية في صفوف الشعب التركي، ولعل هذا البعد القومي الضيق للهوية التركية للجمهورية سيظل مصدر قلق تركي داخلي لفترة ليست قصيرة قادمة.
هذا كله، على أية حال، ما أقصده بالعثمانية الجديدة.
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

أهالي طلاب مدرسة بنات القدس يحتجون على إغلاقها من الاحتلال
القدس المحتلة – المركز الفلسطيني للإعلام احتج أهالي مدرسة بنات القدس، يوم الأحد، على إغلاق قوات الاحتلال مدرستهم التابعة لوكالة الغوث وتشغيل...

مركز حقوقي: فظائع سديه تيمان تستوجب محاكمة قادة الاحتلال كمجرمي حرب
بيروت- المركز الفلسطيني للإعلام أكد مركز فلسطين لدراسات الأسرى (مستقل) أن "ما كشفته صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية عن الانتهاكات الصادمة التي تُرتكب في...

الصحة بغزة: 19 شهيدا و 81 إصابة وصلوا المستشفيات خلال 24 ساعة
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية في قطاع غزة وصول مستشفيات قطاع غزة 19 شهيدا، و 81 إصابة خلال 24 ساعة الماضية....

المقاومة توقع قوة إسرائيلية بكمين في حي الشجاعية
غزة- المركز الفلسطيني للإعلام أعلنت سرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، تنفيذ عملية مركبة في حي الشجاعية بمدينة غزة، أمس السبت، أسفرت...

الاحتلال يقتحم مجمع المدارس في حلحول ويشدد إجراءاته العسكرية في الأغوار
الخليل - المركز الفلسطيني للإعلام أصيب عدد من الطلبة بالاختناق، اليوم الأحد، جراء اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي منطقة مجمع المدارس في بلدة حلحول...

إصابة مواطنين برصاص الاحتلال في بنت جبيل جنوبي لبنان
بيروت - المركز الفلسطيني للإعلام أصيب شخصان برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي، اليوم الأحد، في بلدة مارون الراس الحدودية، قضاء بنت جبيل، جنوب لبنان....

حماس: الموقف العربي من حرب التجويع والإبادة لا يرقى لمستوى الجريمة
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام شددت حركة "حماس" على أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي ترتكب جريمة حرب مركبة في غزة، باستخدامها التجويع سلاحا ضد...