وقفة للتأمل

صحيفة الدستور الأردنية
أخيراً، وبعد أكثر من ثلاثة أسابيع من قصف وقتل تواصل فيه الليل بالنهار، اتخذت “إسرائيل” قراراً من جانب واحد لوقف مجزرة كانت قد شرعت منذ مساء يوم 27 ديسمبر الماضي في ارتكابها بدم بارد ضد الشعب الفلسطيني الأعزل والمحاصر في قطاع غزة. ورغم أن الأزمة الناجمة عن هذه المجزرة لم تنته بعد، وستظل تداعياتها المختلفة تمارس تأثيراتها على مجمل التفاعلات في المنطقة لفترة طويلة قادمة، إلا أن الهدوء الذي يخيم حالياً على ساحة المواجهة ربما يتيح فرصة لتأمل حقيقة ما فات والتطلع لاستكشاف ما هو آت.
ولكي نتمكن من القيام بهذه المهمة الصعبة بطريقة موضوعية تتجنب الوقوع في شرك التهويمات الأيديولوجية أو في مصيدة الأطروحات الدعائية، علينا أن نتذكر عدداً من الحقائق الأساسية المتصلة بطبيعة وجذور الصراع:
الحقيقة الأولى: أن للشعب الفلسطيني قضية لا يمكن لأحد أن يشكك في عدالتها. فقد تعرض وطنه للاغتصاب من جانب حركة صهيونية لم يكتمل مشروعها بعد وما تزال مصممة على ابتلاع ما تبقى من أرضه وطمس كافة حقوقه وتصفية قضيته نهائياً وبالتالي فمن حقه، بل من واجبه، أن يسعى لاستعادة أرضه وصون حقوقه بكل الوسائل التي يراها ملائمة، وليس لأحد غيره أن يعطي لنفسه حقاً في التنازل عنها أو عن أي جزء منها مهما كانت الصعاب أو العقبات.
الحقيقة الثانية: أن نضال الشعب الفلسطيني من أجل تحرير وطنه المحتل واستعادة حقوقه المغتصبة لم يتوقف قط على مدى ما يقرب من قرن من الزمان ولن يكون بوسع أحد أن يثنيه عن هذا الطريق مهما كان الثمن الذي تعين عليه دفعه.
الحقيقة الثالثة: أن الحركة الوطنية الفلسطينية التي تصدت لهذه المهمة المقدسة ظلت ممتدة ومتصلة الحلقات رغم مرورها بمراحل ومنعطفات كثيرة، تغيرت خلالها أطروحاتها الأيديولوجية ووسائلها النضالية وتعرضت لمحن وشدائد شارك في صنعها الأعداء والأصدقاء على السواء، إلا أنها كانت رغم ذلك قادرة على الخروج منها دائماً أصلب عوداً وأشد بأساً وأكثر تصميماً على مواصلة المسيرة.
الحقيقة الرابعة: أن ظروفاً معينة جعلت من حماس الفصيل الأكبر والأقوى، ومن ثم الأكثر تأهيلاً لقيادة الحركة الوطنية الفلسطينية في المرحلة الراهنة، غير أن مستقبل حماس مرهون في الوقت نفسه بمدى قدرتها على تحقيق الطموحات المشروعة للشعب الفلسطيني، وفي حالة ما إذا ضعفت أو ترهلت وأصابها ما أصاب غيرها في الماضي فسوف يخرج من تحت ركامها من هم أشد بأساً وأصلب عوداً.
الحقيقة الخامسة: أن القضية الفلسطينية ليست ملكاً للشعب الفلسطيني وحده ولها أبعاد قومية ودينية لا تقل أهمية عن بعدها الوطني، وهو ما يفسر استمرار تفاعل الشعوب العربية والإسلامية معها رغم كل النكسات والاحباطات. وإذا كان تداخل هذه الأبعاد الثلاثة قد جعل من العثور على صيغة متفقاً عليها لإدارة أمر ليس بالهين، إلا أنه لن يكون بوسع أي طرف رغم ذلك اختزال القضية الفلسطينية في بعد واحد رغم ضراوة المحاولات.
وتأسيساً على هذه الحقائق البينة يمكن فهم ما جرى خلال الأسابيع الثلاثة الطوال التي استغرقتها المذبحة الإسرائيلية، وذلك على النحو التالي:
1 – لم يكن قرار “إسرائيل” بشن هجومها الكاسح على قطاع غزة رداً على صواريخ حماس والمقاومة، أو دفاعاً مشروعاً عن النفس في مواجهة عمليات إرهابية، وإنما كان حلقة في سلسلة الخطط الرامية لإسكات وتصفية واستئصال المقاومة الفلسطينية من جذورها من أجل استكمال الجهود الدؤوبة الرامية لتمهيد الطريق أمام فرض تسوية بشروطها على كل الأطراف المعنية.
2 – لا علاقة لتوقيت المذبحة بموقف حماس من تمديد هدنة لم تحترمها “إسرائيل” قط، أو باستئناف فصائل المقاومة لإطلاق صواريخ لم تحدث خسائر تستدعي عملية بهذا الحجم، ف”إسرائيل” ليست في حاجة لأي ذرائع، وإنما له علاقة بانتخابات تشريعية إسرائيلية وشيكة يسعى التحالف الحاكم للفوز بها، وبرغبة جيش يتحرق شوقاً لاستعادة هيبة كانت قد سقطت في حربه الفاشلة على لبنان عام 2006.
3 – ما كان ل”إسرائيل” أن تشن هذه الهجمة الوحشية وفي هذا التوقيت بالذات لو لم تكن على قناعة تامة بأن إدارة بوش تقف وراءها بكل ثقلها، وبأن النظام الرسمي الدولي أو العربي لن يحرك ساكناً، وبأن أطرافاً عربية عديدة، على رأسها السلطة الفلسطينية، باتت راغبة شدة في إضعاف حماس إن لم يكن في إزاحتها كلياً من طريقها أو من الساحة برمتها.
4 – بنت “إسرائيل” حساباتها على أساس قدرتها على تحقيق أهدافها خلال فترة لن تتجاوز عشرة أيام، مفترضة أن الشعب الفلسطيني في غزة لم يعد يطيق حماس وسيحملها على الفور مسئولية ما جرى، وبالتالي يمكن أن ينتهي الأمر كله بالقبض على من تبقى حياً من قياداتها ثم شحنهم إلى تل أبيب ليتفرج عليهم الناخب الإسرائيلي قبل أن يتم الزج بهم في “جوانتنامو إسرائيلي خاص” في صحراء النقب لتصبح إدارة أوباما أمام واقع جديد عليها أن تتعامل معه.
5 – كان أصدقاء “إسرائيل”، وكذلك أصحاب المصلحة في أن تقوم هي بالمهمة القذرة نيابة عنهم، على استعداد لأن يمنحوها ما تحتاجه من وقت اعتقدوه قصيراً. فحماس ليست حزب الله، وغزة ليست لبنان، وسوريا وإيران بعيدتان جغرافيا وعلاقتهما بفصائل المقاومة الفلسطينية ليست من نفس نمط علاقتهما بحزب الله. وفي هذا السياق يتعين فهم قرار النظام الرسمي العربي بالذهاب أولاً إلى مجلس الأمن، بدلاً من عقد قمة عربية، ثم استماتة بعض الأطراف العربية في عرقلة انعقاد قمة عربية دعت إليها قطر وعدد من الأقطار العربية الأخرى، رغم رفض “إسرائيل” رسمياً لقرار مجلس الأمن.
6 – لم تأت الرياح بما تشتهي سفن “إسرائيل” وأصدقائها. فكلما ازدادت ضرباتها وحشية وقسوة، ازداد الشعب الفلسطيني المحاصر والجائع صموداً وعزة. وكلما توغلت وحداتها البرية أمتاراً على حواف المدن، ازدادت فصائل المقاومة صموداً وقدرة على إيقاع خسائر أكبر في صفوف جيشها الجبان.
لكن عندما أوشكت ساعات إدارة بوش الباقية على النفاد، وأصبح موقف أصدقاء إسرائيل أكثر حرجاً مع حلول موعد انعقاد قمة عربية في الكويت كان مقرراً سلفاً قبل أكثر من عام، لم يكن أمام “إسرائيل” بد من وقف المذبحة. ولأنه لا حدود للوقاحة الإسرائيلية، فقد فضلت أن يأتي قرارها أحادي الجانب على أن يكون تتويجاً لمبادرة مصرية. ولإنقاذ ماء وجه البعض تمخض ذهن ساركوزي، والذي كان شريكاً لبعض الوقت في المبادرة المصرية، في ترتيب قمة باهتة لم يكن لها أي تأثير فعلي على مسار الأحداث.
ربما لا يكون بمقدور أي طرف أن يطلق صيحة النصر النهائي. فإسرائيل” لم تكن قد حققت أيا من أهدافها عندما اضطرت لاتخاذ قرارها المنفرد بوقف إطلاق النار، أما حماس ومعها فصائل المقاومة فكانت ما تزال في وضع يمكنها من إطلاق مئات الصواريخ الإضافية. صحيح أن فشل “إسرائيل” في تحقيق أي من أهدافها يعد نجاحاً لحماس ولفصائل المقاومة وللشعب الفلسطيني تصعب المجادلة فيه، غير أن مشهد الدمار الهائل في غزة، من ناحية، وقدرة الجيش الإسرائيلي على استئناف المذبحة في أي لحظة، من ناحية أخرى، لا يسمحان لأحد باستخدام كلمة الانتصار، اللهم إلا على استحياء شديد ولأغراض المحافظة على الروح المعنوية،. وأيا كان الأمر فمن المؤكد أن المنطقة لم تعد بعد المذبحة مثلما كانت عليه قبلها. فقد كشفت هذه المذبحة عن ثلاث حقائق استراتيجية سيكون لها ما بعدها.
الحقيقة الأولى: أن “إسرائيل” دولة مارقة باتت تشكل خطراً كبيراً ليس على أمن وسلامة المنطقة وحدها ولكن على السلم والأمن العالمي ككل، وبالتالي فإن تحجيم طموحاتها وإنزال العقاب بقادتها ممن تسببوا في المذبحة باعتبارهم مجرمي حرب بات أمراً واجباً على المجتمع الدولي ككل، وإلا سقط القانون الإنساني برمته.
الحقيقة الثانية: أن النظام العربي الرسمي في طريقه إلى الانهيار إن لم يكن قد انهار بالفعل وبات إنقاذه يتطلب وضع إطار مؤسسي جديد قادر على تحقيق الأمن والتكامل الاقتصادي في الوقت نفسه.
الحقيقة الثالثة: أن القضية الفلسطينية ما تزال أولاً وقبل كل شيء قضية قومية و لن يقوم للنظام العربي قائمة إلا إذا وضع إدارتها، سلماً أو حرباً على رأس أعماله.
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

حماس تهنّئ البابا ليو الرابع عشر لانتخابه رئيسًا للكنيسة الكاثوليكية
المركز الفلسطيني للإعلام تقدّمت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بأصدق التهاني والتبريكات إلى البابا ليو الرابع عشر، بمناسبة انتخابه رئيسًا للكنيسة...

الحصاد المر لـ 580 يومًا من الإبادة الجماعية في غزة
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام نشر المكتب الإعلامي الحكومي ينشر تحديثاً لأهم إحصائيات حرب الإبادة الجماعية...

رامي عبده: خطة المساعدات الأميركية الإسرائيلية أداة قهر تمهد لاقتلاع السكان من أرضهم
المركز الفلسطيني للإعلام قال رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، رامي عبده، إن الخطة الأميركية‑الإسرائيلية التي تقضي بإسناد توزيع مساعدات محدودة...

قتلى وجرحى بتفجير القسام مبنى بقوة من لواء غولاني في رفح
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام قتل عدد من جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي وأصيب آخرين في رفح، اليوم الخميس، وفق وسائل إعلام إسرائيلية، فيما قالت كتائب...

شهيد وجرحى في سلسلة غارات إسرائيلية على جنوب لبنان
بيروت - المركز الفلسطيني للإعلام استشهد مواطن لبناني وجرح آخرون، في سلسلة غارات شنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على جنوبي لبنان، اليوم الخميس، على ما...

حصيلة الإبادة ترتفع إلى أكثر من 172 شهيدا وجريحا
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أفادت وزارة الصحة بغزة، اليوم الخميس، بأن مستشفيات القطاع استقبلت 106 شهداء، و367 جريحا وذلك خلال 24 الساعة الماضية...

الادعاء الروماني يحيل شكوى ضد جندي إسرائيلي إلى النيابة العسكرية
بوخارست - المركز الفلسطيني للإعلام أعلنت مؤسسة “هند رجب” أن المدعي العام في رومانيا أحال الشكوى التي تقدمت بها المؤسسة ضد جندي إسرائيلي إلى مكتب...