السبت 10/مايو/2025

إعمار قطاع غزة آلية جديدة لحصاره

إعمار قطاع غزة آلية جديدة لحصاره

صحيفة الوطن القطرية

تحول إعمار قطاع غزة إلى أحدث سلاح لمواصلة فرض الحصار عليه، إذ أن دولة الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة الأميركية التي دعمت العدوان والاتحاد الأوروبي الذي لم يفعل شيئاً لوقفه، تواطؤاً، ترتهن عملية إعادة الإعمار لتوفر «شريك سلام» لهم جميعاً في القطاع، بينما ارتهنت قمة الكويت العربية هذه العملية للمصالحة الفلسطينية، في الوقت الذي تحرض حكومة سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية هذه الأطراف جميعها وغيرها على اعتمادها هي فقط قناة وحيدة لتمويل العملية وإدارتها باعتبارها حكومة منظمة التحرير الفلسطينية التي تعترف بها هذه الأطراف الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، مما يعني عملياً تجميد أي عملية لإعادة الإعمار وتحويلها إلى أحدث سلاح في جعبة «شركاء السلام» هؤلاء كافة لكي يفرضوا على المقاومة ما عجزوا عن انتزاعه منها بعدوان الأسابيع الثلاثة وبالحصار الذي سبقه.

وقد قررت حكومة دولة الاحتلال الإسرائيلي أن تمارس سيطرة تامة على عملية إعادة الإعمار لذلك واصلت حصارها المحكم للقطاع ومعابره بعد وقف إطلاق النار الذي أعلنته «من جانب واحد» حتى لا تضطر إلى وقفه طبقاً لأي اتفاق في إطار المبادرة المصرية أو غيرها ربما كان سيلزمها برفع الحصار ولو جزئياً لتسهيل عملية الإعمار في الأقل لأسباب إنسانية، وهي تسعى أيضاً للحصول على «ضمانات» من غير الأطراف التي ارتهنت العملية لوجود «شريك سلام» فلسطيني في القطاع، مثل وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا»، وقد نسبت رويترز في التاسع عشر من الشهر الجاري لدبلوماسيين غربيين قولهم إن “إسرائيل” طلبت من الأمم المتحدة وغيرها تقديم كشوفات تفصيلية بالسلع والمعدات والعاملين الذين تنوي إدخالهم إلى القطاع سواء للإغاثة الإنسانية السريعة أو للإعمار وأعلنت عزمها مراقبة العملية عن كثب بطلبها الحصول على موافقتها المسبقة على كل مشروع على حدة مع تعهد من أصحاب هذه المشاريع بألا تستفيد منها حركة حماس أو حكومتها في غزة أو تنسب الفضل فيها إليها، وقد عين ايهود أولمرت رئيس وزراء دولة الاحتلال وزير الرعاية الاجتماعية اسحق هيرتزوغ منسقاً لكل جهود إعادة إعمار غزة مع الهيئات الدولية.

وموقف الولايات المتحدة متطابق مع الموقف الإسرائيلي لكنه أوضح منه في الإصرار على استخدام عملية إعمار ما بعد العدوان في غزة لمساعدة سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية في إعادة تأكيد وجودها ونفوذها في القطاع، ويوافق الاتحاد الأوروبي على ذلك علناً، إذ أعلنت مفوضته للعلاقات الخارجية بنيتا فيريرو – والدنر بأن الاتحاد لن يساهم في إعادة الإعمار إلا إذا توفر في القطاع شريك سلام «قابل للحياة» وبأن المعونات الأوروبية للإعمار لن تكون متاحة لحكومة تقودها حماس، ونسبت رويترز في الثالث عشر من الشهر الجاري إلى دبلوماسي أوروبي رفيع المستوى تعليقاً على ذلك بقوله إن هذا الموقف هو «وصفة للفشل منذ البداية، ولنكن واقعيين، فلكي تكون السلطة الفلسطينية مسؤولة فإنها يجب أن تكون موجودة ولها مؤسسات على الأرض، وفي الوقت الحاضر لا وجود لشيء من ذلك».

ومن الواضح تماماً أن تل أبيب وواشنطن وبروكسل تجد في موقف سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية وحكومتها الحجة الأقوى لدعم الحظر الجديد الذي تفرضه على إعمار قطاع غزة بينما تجد حكومة دولة العدوان في هذا الموقف الضمانة الأهم بين «الضمانات» التي تطلبها لتسهيل إحكام سيطرتها على عملية إعادة الإعمار، والخشية الآن هي أن يستخدم الاحتلال الإسرائيلي والقوى الدولية التي مدت في عمره منذ عام 1967 حتى الآن واجهة فلسطينية وغطاء عربياً لتكرار تجربة تأجيل إعادة إعمار العراق بعد العدوان الثلاثيني عليه عام 1991 الذي دمر بنيته التحتية وعطل التنمية فيه تمهيداً لتغيير النظام الوطني الحاكم فيه بالغزو المباشر عام 2003 لكي يستمر منع إعمار القطاع حتى يتم تغيير النظام فيه أيضاً بهذه الوسيلة أو تلك، وربما تكون أو لا تكون مصادفة أن العدوان الإسرائيلي على غزة انتهى في نفس التاريخ تقريباً الذي بدا فيه ذاك العدوان على العراق قبل ثمانية عشر عاماً، لكن بقاء البنية التحتية للعراق حتى بعد مضي ست سنوات تقريباً على «تغيير النظام» فيه أسوأ مما كانت عليه في عهد النظام السابق لا يبشر بأي خير يأتي من أي تغيير مماثل للنظام في غزة طالما أن عملية إعادة الإعمار منوطة بالقوتين القائمتين بالاحتلال في العراق وفلسطين أو بوكلاء محليين لهما.

وإلا ما معنى أن يطالب الرئيس المنتخب حديثاً لدولة فلسطين ورئيس سلطة الحكم الذاتي المنتهية ولايته محمود عباس قمة جامعة الدول العربية التي اختتمت أعمالها في الكويت في العشرين من الشهر الجاري وكذلك رئيس البنك الدولي روبرت زوليك الذي اجتمع معه على هامش القمة في العاصمة الكويتية باعتماد «السلطة الوطنية الفلسطينية» ومؤسساتها من أجل «إعادة الإعمار والبناء» في القطاع، ورفضه آلية اقترحها الأمين العام للأمم المتحدة بان كي – مون وزعماء غربيون بإنشاء لجنة دولية مؤقتة تتولى تمويل وتنظيم المعونات المخصصة لإعادة الإعمار، بحجة أن مثل هذه الآلية «تفترض أن الانفصال بين غزة والضفة الغربية سيستمر»، كما قال رئيس حكومة تسيير أعمال السلطة سلام فياض مضيفاً أن المانحين الدوليين الحريصين على إعادة بناء القطاع «يخاطرون بتعميق الانقسام الفلسطيني من خلال تجاهل دور السلطة» ليخلص إلى الموافقة على آلية كهذه «للحاجات الإنسانية العاجلة» لكن ليس للمعونات الخاصة بالإعمار.

إن موقف السلطة هذا يحكم مسبقاً على التعهدات العربية في قمة الكويت وكذلك على أي تعهدات محتملة في مؤتمر دولي للمانحين لإعمار غزة، تتصدر مصر وتؤيدها السلطة في الدعوة إليه وقد دعت إليه فعلاً الرئاسة التشيكية الدورية للاتحاد الأوروبي، بأن تظل مجرد تعهدات أو بأن توضع في حساب مجمد إن تم الوفاء بها بانتظار أن يصل «شريك سلام قابل للحياة» فلسطيني إلى القطاع كما قالت فيريرو – والدنر.

لقد اتفقت قمة الكويت العربية على أهمية عملية إعادة إعمار غزة من حيث المبدأ لكنها فشلت في الاتفاق على آلية لذلك، إذ أحبط الاختلاف بين القادة اقتراحاً بإنشاء صندوق لإعادة بناء غزة، والقمة إذ ارتهنت عملية الإعمار للمصالحة الفلسطينية فإنها رحلت الاتفاق على هذه المصالحة إلى وزراء الخارجية العرب دون الاتفاق على تحديد موعد أو مكان اجتماعهم لبحثها، تاركين بذلك سؤالاً استنكارياً معلقاً في الهواء حول متى وكيف يمكن للوزراء أن يتفقوا على ما اتفق قادتهم على عجزهم عن الاتفاق عليه في القمة!

وعملية الترحيل هذه في حد ذاتها تعد بأن يتحول التعهد بإعمار غزة، من حيث هذه البداية التسويفية في الأقل، إلى مجرد تعهد لا يساوي الحبر الذي كتبت به البيانات عنه، مثل بقية قرارات القمم العربية التي سرعان ما ينساها متخذوها مثل القرار الذي اتخذته القمة العربية الطارئة بالقاهرة في الشهر العاشر من عام ألفين بإنشاء «صندوق الأقصى والقدس» بإعادة بناء البنى التحتية الفلسطينية وبخاصة في قطاعات الصحة والتعليم والزراعة والإعمار، فقد نسي القادة العرب الذين اجتمعوا في الكويت هذا القرار الذي اعتمد صندوق الأقصى والقدس كآلية لم تحصر الإنفاق بالسلطة الفلسطينية بل اعتمدت أيضاً الأونروا والهلالين الأحمر المصري والقطري والهيئة الخيرية الهاشمية الأردنية وبرنامج الخليج العربي لوكالات الأمم المتحدة وغير ذلك من الهيئات الإقليمية والدولية، وربما نسوا كذلك أنه عند اتخاذ ذلك القرار لم تكن هناك «مشكلة» حركة حماس التي يتخذ منها من لا يريدون إعمار الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 لا في القطاع ولا في الضفة قميص عثمان حالياً، ولا يسع المراقب إلا أن يتساءل عن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء عدم اعتماد هذه الآلية في قمة الكويت وهي قرار لقمة عربية سابقة.

ومن الواضح أن السبب الرئيسي في ذلك يكمن في تسييس مهمة إنسانية ملحة تقتضي فصلها تماماً عن أي شد وجذب سياسي بين الفلسطينيين أو بين العرب أو بين القوى الخارجية ذات الصلة وذات الصوت المرتفع حتى يكاد يصم الآذان في كل ما يتعلق بحقوق الإنسان، فهذه المهمة الإنسانية لا تحتمل أي جدل سياسي ولا أي تأجيل، فقد دمر العدوان كل البنى التحتية المدنية للسلطة، أية سلطة، بذريعة أنها قواعد لسلطة حماس، والقسم الأعظم منها مبني بأموال دافعي الضرائب في الدول المانحة الحالية أو اللاحقة، ودمر أحياء سكنية بكاملها شملت حوالي عشرين ألف منزل أربعة آلاف منها دمرت بالكامل والبقية لحقت بها أضرار فادحة مما قاد إلى تشريد حوالي مائة ألف نسمة بحاجة ماسة إلى مأوى ويؤويهم حالياً اثنا عشر ملاذاً فتحتها الأونروا لهم في مدارسها التي طالها العدوان بدورها بحيث تحتاج هذه الملاذات نفسها إلى إعادة إعمار، إضافة إلى استصلاح الأراضي الزراعية المتضررة، وتزويد نصف مليون فلسطيني بمياه صالحة للشرب منهم ستون بالمائة من سكان مدينة غزة وعدد مماثل بالكهرباء التي قطعها العدوان عنهم، ناهيك عن ثمانين بالمائة من سكان القطاع بحاجة إلى إغاثة غذائية عاجلة (وهذه الأرقام طبقاً لتقديرات الأمم المتحدة)، فأي جدل سياسي يسوغ تأجيل الإغاثة العاجلة هو بالتأكيد جدل عقيم وساقط أخلاقياً وإنسانياً.

إن القائمة الإسرائيلية بـ «المواد الممنوعة» حتى قبل العدوان تشمل مثلاً الحديد والفولاذ والاسمنت التي أصبح إدخالها بعد العدوان شرطاً حيوياً للإغاثة الإنسانية وللإعمار على حد سواء، وقد أدرك رئيس مفوضية الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية جون هولمز هذه الحقيقة عندما قال يوم الثلاثاء إنه ما لم تسمح “إسرائيل” بدخول مواد البناء فإنه لن يمكن البدء في إعادة البناء، وبالتالي فإن اعتماد السلطة قناة وحيدة لإعمار غزة يعني عملياً توكيل دولة الاحتلال نفسها التي دمرت القطاع في المقام الأول بهذه المسؤولية، ويصعب على المراقب أن يتوقع أن تكون السلطة الخاضعة للاحتلال في كل صغيرة وكبيرة قادرة على العمل باستقلالية وكفاءة لإدارة عملية الإعمار بالريموت كونترول من رام الله ناهيك عن إيصال تمويلها دون موافقة إسرائيلية مسبقة، في وقت احتج الرئيس عباس بصعوبة الحصول على تصريح خروج إسرائيلي سريع لعدم حضور قمة غزة في الدوحة، وبينما كانت حكومته في رام الله قبل شهرين عاجزة عن إيصال رواتب عدد تقول إنه يزيد على سبعين ألف موظف سلطة ممن تدفع هذه الرواتب لهم لكي يظلوا في بيوتهم دون عمل في سياق الانقسام الفلسطيني، ومما له أهمية خاصة في هذا السياق أن رئيس هذه الحكومة فياض يكرر في كل مناسبة أن حوالي نصف ميزانيته مخصص لقطاع غزة الذي ما زال ينتظر وصول هذا النصف إليه بأي شكل من الإشكال، فكيف تؤتمن هذه الحكومة على إيصال أي تمويل تم أو سيتم التعهد به لإعمار غزة؟

لقد فعلت الكويت الصواب بعدم انتظار الاتفاق العربي على آلية لإعمار غزة بتبرعها بمبلغ (34) مليون دولار للأونروا مباشرة، ومثل الكويت اللجنة الإدارية لصندوق الأقصى والقدس، ومثلهما النرويج التي تبرعت بعشرين مليون كروناً لمنظمات في وسعها الوصول إلى المدنيين في القطاع ومنها الصليب الأحمر الدولي، فهذه قدوة حسنة تؤكد وجود قنوات عملية مجدية لتلبية حاجة القطاع إلى الإغاثة العاجلة الملحة، إذ لا يجب بأية حجة ارتهان هذه الإغاثة أو عملية إعادة الإعمار لإصرار «شركاء السلام» على وصول شريكهم الفلسطيني إلى غزة الذي أكد وزير خارجيته رياض المالكي في قمة الكويت على «الحاجة إلى التنسيق مع السلطة الوطنية

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات