السبت 10/مايو/2025

حرب الأيام الـ 23: السلوك الصهيوني اندفع نحو الضربات القاضية وحصد الإخفاقات

حرب الأيام الـ 23: السلوك الصهيوني اندفع نحو الضربات القاضية وحصد الإخفاقات

بدأت الحرب الصهيونية على غزة بما أريد له أن يكون عامل “الصدمة والترويع”. سلسلة غارات مكثفة تكون كفيلة في العادة بشلّ دولة نظامية، تتبعها عمليات قصف كثيفة ومركزة على مدار ثلاثة وعشرين يوماً، مصحوبة باجتياحات برية وإطلاق الحمم من البوارج والزوارق البحرية.

إنه نموذج لا يخرج عن وصف “الضربة القاضية”، اختارته القيادة الصهيونية في حربها على قطاع غزة، والتعامل مع معضلة المقاومة و”حماس” على وجه الخصوص.

لم تكن التخمينات والمضاربات الرائجة في الأيام الأولى أو التي تلتها، تفترض إمكانية استمرار الحرب لما يربو على ثلاثة أسابيع، أو أن تعلق المرحلة البرية من العدوان على تخوم المدن والمخيمات والبلدات، وأن تتبخّر فرضيات المرحلة الثالثة الموعودة أمام حقائق الميدان الفلسطيني العصيّة على الانكسار.

مع مآلات “الضربة القاضية” إيّاها؛ تبخّرت الفرضيات والتخمينات، وتراجعت معها وتيرة الخطاب الذي عبّرت عنه أطراف دولية وإقليمية في التساوق المتفاوت مع الحرب على غزة. فقد أخذت تعبيرات “إدانة العدوان” تطفو على السطح في أيامه الأخيرة، مع ضمور لغة تحميل المقاومة الفلسطينية المسؤولية عمّا جرى. إنه ضرب آخر من ضروب الاستحقاق التي أملاها الموقف الميداني، الذي عجزت آلة الحرب الإسرائيلية عن تحقيق أي نجاح جوهري فيه.

العجز عن التقاط “صورة النصر”

لم تفلح “الضربة القاضية” التي سدّدتها السلطات الصهيونية لذلك الشريط الضيق المكتظ بالسكان، في تحقيق “نصر” صهيوني. حتى أنّ الدعاية الحربية الصهيونية لم تتمكن من التقاط صورة اللحظة الأخيرة التي يمكن للتاريخ أن يمجِّدها.

وفي كل الحروب يكون لتلك الصورة مفعول السحر، إلى درجة محاولة افتعالها إن أمكن. كانت تلك الصورة في الحرب العالمية الثانية من نصيب الجيش الأحمر، الذي صعد جنوده على مبنى “الرايخستاغ” ببرلين ليرفعوا العلم السوفياتي. إنها الصورة التي أُعيد إنتاجها على نحو تمثيلي كما أظهرت التحقيقات بعد عقود من الزمن، بعد أن استنفذت أغراضها. وفي حزيران (يونيو) 1967 جاءت الصورة من ساحات القدس الشريف، عندما برز قادة الحرب الإسرائيليون وجنودهم قبالة حائط البراق وقبة الصخرة المشرّفة. أما في حرب رمضان 1973 فكانت الصورة من نصيب الجيش المصري لحظة العبور التاريخية لقناة السويس واختراق “خط بارليف” الحصين.

تكرّرت الصور والمشاهد من حرب إلى أخرى، وصولاً إلى ربيع بغداد المحترق سنة 2003، عندما جاء المشهد من ساحة الفردوس. يومها عمد الجيش الأمريكي إلى إزاحة تمثال الرئيس العراقي صدام حسين ببطء شديد، بطريقة حُشدت لها مقومات المشهد المسرحي الأسطوري، برفقة كاميرات العالم.

إلاّ أنّ أرض غزة استعصت حتى على مجرد صورة نصر يلتقطها الجيش الصهيوني. فالجنود المرتعدون ظلّوا عالقين في دباباتهم، حتى في المناطق المفتوحة التي دخلوها على أطراف القطاع. أما ما جرى في أحياء الزيتون وتل الهوا وعلى مشارف التفاح والشجاعية، وعلى تخوم جباليا وبيت لاهيا وغيرها من المناطق، فكانت “صعوبات شاقة” بتعبير قادة ألوية النخبة بالجيش الصهيون.

كان يكفي أن تعمد الدعاية الصهيونية إلى محاولة التقاط أي مشهد مفترض من خارج القطاع، كي يتحقق الجميع من مدى الإخفاق الميداني الجديد. فمشاهد الجنود المنسحبين الذين يلوِّحون بالأعلام الصهيونية من فوق دباباتهم أتت في الواقع من خارج قطاع غزة، ولم تكن فرحة أولئك الجنود بإنجاز لم يحققوه في الميدان؛ بل بخروجهم أخيراً من مواجهة فرضتها عليهم قيادتهم السياسية والعسكرية. هي فرحة مبرّرة، طالما أنه بات بوسعهم أن يتنفسوا الهواء من خارج الأوعية المصفحة التي قبعوا فيها أسابيع متواصلة.

سلوك “الضربة القاضية” ضد “حماس”

أخفقت “الضربة القاضية” التي أرادتها القيادة الصهيونية، لتُضاف إلى سلسلة إخفاقات نسيها كثيرون، اتسمت جميعها بوصف الحسم الاستئصالي ذاته. فالتعامل الصهيوني مع حركة “حماس”، منذ انطلاقتها قبل أكثر من عشرين عاماً، مرّ بمحطات مفصلية كان يتحوّل فيها الضغط الشديد والملاحقة الضارية إلى هجمة استئصالية؛ تبدو في كل مرّة، للوهلة الأولى، كفيلة باستئصال مشروع “حماس” برمّته، قبل أن يكتشف الجميع أنّ هذه الحركة الفلسطينية قد خرجت من الاختبار العسير أكثر صلابة وتمدّداً.

يرتكز أسلوب “الضربة القاضية”، على استخدام أكبر قدر من الإجراءات المستندة إلى سطوة القوّة، بشكل مركّز على نحو موضعيّ أو شامل، وبصورة مكثفة زمنياً وربما بوتيرة خاطفة، سعياً لتقويض “حماس” أو استئصالها بالكامل، أو شلِّها وإضعافها جوهرياً على الأقل. وما تخفيه نفسية “الضربات القاضية”، هي الإحساس بالحنق من حالة ما، وفقدان القدرة على السيطرة على الأوضاع، بل والشعور بالتهديد المتعاظم في الحاضر والمستقبل، وربما بمخاطر وجودية تبرر إطلاق حمم الغضب والتعبير عنها بقرارات يتضح في ما بعد أنها تفتقر إلى الاتزان.

لكن يبقى السؤال مبرراً: لماذا استأثرت “حماس” بسلوك “الضربات القاضية” الصهيوني؟ يعود ذلك إلى ظروف “حماس” من جانب، وإلى طبيعتها وخصوصيتها كذلك.

إذ يبدو أنّ ذلك وثيق الصلة بتمركز الحركة في قلب الساحة الفلسطينية، أي داخل الأراضي المحتلة، التي تبدو مكشوفة ظاهرياً أمام السطوة الصهيونية. هكذا عجزت القيادات الصهيونية المتعاقبة عن مقاومة إغراء الاستئصال الشامل الذي كانت تراه متاحاً لها للوهلة الأولى.

مثّلت “حماس” حالة فلسطينية متعاظمة ومقلقة بالنسبة للمشروع الصهيوني، فهي ليست مجرد تنظيم يمكن القضاء عليه بتصفية الأسماء الواردة في قائمة المطلوبين. كما أنها ليست مجرد خلايا مسلّحة يُحسَم أمرها في ميادين الاشتباك والمطاردة. وهي أيضاً ليست نخبة متقوقعة في أروقة التنظير السياسي يمكن استدعاؤها والتعامل معها بالعصا والجزرة. وهي فوق ذلك تجسِّد تجربة متماسكة مستعصية على الشطر أو الاستدراج إلى فخاخ سياسية أو مسارات تفضي بها إلى حالة من التشظي.

ثم إنّ صلابة الفكرة لدى “حماس” تجعل منها خطراً يصعب مهادنته صهيونياً، خاصة وأنها الصوت الفلسطيني المرتفع الذي ما زال ينادي بيافا وحيفا وعكا والناصرة وعسقلان، ويرى أنّ القضية الفلسطينية هي قضية وجود لا تسويات حدودية، وأنّ الأمة برمّتها مطالبة بالانخراط في الصراع وفق كيفيات متنوِّعة. وقد كشفت حرب الأيام الثلاثة والعشرين، أنّ مخزون الحشد والتعبئة على صعيد الأمة، لا يمكن الاستهانة به، وأنه قابل للتطوير والاستثمار السياسي، بدءاً من الجماهير، ومروراً بالقوى الشعبية والسياسية، وانتهاء بالنظم الحاكمة ذاتها رغم الالتزامات المثقلة بها، وفق ما يستدل من مقررات “قمة غزة الطارئة” على الأقل، التي جمعت أكثر من نصف المنظومة الرسمية العربية.

تجارب الضربات الصهيونية الأولى

تكشف العودة إلى السنوات الأولى من انطلاقة “حماس” (1987)، أنّ القيادة الصهيونية لم تكتف بالاعتقالات والملاحقات الاعتيادية لحركة المقاومة الإسلامية، التي ولدت من رحم جماعة الإخوان المسلمين ذات الحضور التاريخي المعروف في فلسطين والمنطقة.

ففي سياق “انتفاضة الحجارة” (1987 ـ 2003)، استخدمت سلطات الاحتلال الصهيوني أسلوب “الضربة القاضية” وبشكل متكرِّر. فقد جرى لمرّتين أو ثلاث مرات، شنّ حملات اعتقال جماعية هي الأوسع من نوعها في الساحة الفلسطينية، أخذت تطال في ليلة واحدة المئات من قيادات الحركة، لتزجّ بالقيادتين العليا والوسطى لـ”حماس” بالكامل، ولم يكن مؤسس الحركة الشيخ أحمد ياسين ذاته استثناء من ذلك.

لم يكن الاختبار يسيراً بالنسبة لحركة كانت قياداتها وفعالياتها في ذلك الحين منحصرة في الداخل الفلسطيني، خلافاً لفصائل منظمة التحرير التي كان الخارج مركز قيادتها وثقلها. لكنّ “حماس” تجاوزت بوضوح اختبار الاستئصال، وكان تستعيض وقتها عن حملات الاستهداف تلك بصفوف قيادية جديدة، بما منحها القدرة على التبرعم المتجدِّد، والانتشار الديناميكي الفعّال في صفوف الشباب الفلسطيني والشرائح الشعبية بعامة. وهكذا برزت صفوف من القيادات الشابة التي وجدت ذاتها سريعاً أمام مسؤوليات تاريخية.

سقوط رهانات “تفكيك حماس”

في نهاية سنة 1992 بدا أنّ القيادة الصهيونية التي عوّلت لسنوات متلاحقة على قدرتها على “تفكيك حماس”؛ قد توصّلت إلى قناعة راسخة باستحالة القضاء على الحركة بمجرد استخدام أساليب اعتيادية مشدّدة واسعة النطاق، كحملات الاعتقال وإغلاق المؤسسات ومداهمة المساجد والجهد الاستخباري.

هكذا قرّرت القيادة السياسية والعسكرية الصهيونية، ممثلة برئيس الوزراء إسحق رابين، قبيل اتفاق أوسلو، تسديد ضربة قاضية بكل المقاييس، لحركة “حماس”، فأبعدت أربعمائة من قياداتها السياسية والمجتمعية وشخصياتها العامة، وألقت بهم جميعاً في ليلة واحدة إلى الحدود اللبنانية، بشكل أعاد إلى الأذهان مشهد التشريد الفلسطيني الأول إبان نكبة 1948.

كانت تلك عملية إزاحة فيزيائية قسرية، لصفوف قيادية أخرى، علاوة على آلاف من قيادات “حماس” وعناصرها القابعين في سجون الاحتلال. بدت عملية الإبعاد الجماعية الأكبر من نوعها في التاريخ الفلسطينية لقيادات على هذا النحو؛ بمثابة الورقة الأخيرة، حتى حينه، في جعبة الاستئصال الصهيونية. كانت الرسالة واضحة؛ فهل بوسع حركة ما أن تبقى في المشهد بعد هذه الإزاحة القسرية لقياداتها؟!.

لكنّ “الضربة القاضية” ارتدّت إلى الجانب الصهيوني بصورة غير متوقعة، عندما تحقق ما لم يكن في الحسبان. فالمبعدون الأربعمائة لم يتجاوزوا الحدود صوب الجانب اللبناني، بل اختاروا نصب خيامهم في العراء، في الموقع المسمى مرج الزهور، بين جانبي الحدود الفلسطينية ـ اللبنانية.

وبعد أن اختطفوا أنظار العالم؛ نجح المبعدون بعد نحو سنة، في فرض إرادتهم بالعودة، ومعهم تحوّلت “حماس” من حركة ذات حضور محلي كبير إلى آفاق أوسع عربياً وإسلامياً، ودخلت منذ ذلك الوقت إلى الوعي الدولي من خلال منبر المبعدين الذي اجتذب الإعلام العالمي بكل ما يختزن من قصص ورسائل.

اختبارات حقبة التسوية وفخاخها

إذا كانت حقبة التسوية السياسية شاقة بالفعل على “حماس”، بكل فخاخها وألغامها المركّبة؛ فإنّ مرحلتها الأصعب حلّت في أواسط التسعينيات (1995 ـ 1997)، عندما أدركت الحركة التي تعاظم حضورها في الداخل والخارج، أنها تواجه استهدافاً ضارياً على جبهات متعددة. كانت سلطات الاحتلال الصهيوني تواصل تعقبها بلا هوادة، بينما أجهزة السلطة الفلسطينية تدفع بها إلى الزاوية وتودع قادتها وعناصرها في الس

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات