الجمعة 09/مايو/2025

غزة تصنع نصرها.. وتوقظ الأمة

غزة تصنع نصرها.. وتوقظ الأمة

صحيفة الدستور الأردنية

في ظل تهدئة (استمرت منذ حزيران ـ 2008 بين حماس و”إسرائيل”) لم تنجح في فتح المعابر أو رفع حصار ظالم طال أمده حتى قتل وأهلك وأنهك كل شيء… وفي ظل تهدئة لم تفلح حتى في وقف التوغلات الصهيونية التي طالت عشرات الشهداء.. وبعد مسرح العمليات داخلياً حيث لا ماء ولا كهرباء ولا دواء ولا غذاء ولا دفء.. وفي طقس شتوي شديد البرودة.. وفي ظل تواطؤ فلسطيني (حيث كان بعضهم بانتظار دبابة صهيونية تنقلهم إلى غزة بعد تحريرها من شرفها ومقاومتها) وعربي (حيث التواطؤ العلني في بث حي ومباشر).. ودولي (حيث أوكار التآمر التاريخية على الأمة في الغرب كله).. انطلق العدوان مدججاً بقوة غاشمة قوامها كل آلة الشر.. فقتل وأحرق ودمر وانتهك كل المحرمات من الأسلحة وحتى الأخلاق بدءاً من التزوير والتزييف والكذب.. مروراً بالعملاء والشركاء والمتواطئين وليس انتهاء بالأسلحة والقذائف الفسفورية والعنقودية.. انطلق العدوان يدمر غزة على رؤوس سكانها،، ففتك بآلاف البشر والمباني والطرقات وطاول كل الحرمات من مساجد ، ومدارس ومستشفيات ومنظمات إغاثة وإسعاف.

فحش ووحشية شهد عليه الأوروبيون والأمريكيون قبل الفلسطينيين.. فهذا لويس ميشيل، مفوض المساعدات في الاتحاد الأوروبي يقول “إسرائيل تستخدم في ضرباتها العسكرية لغزّة قوة مفرطة وتنتهك القانون الدولي.. وهذا “جون جينج” (مدير عمليات الأونروا في غزة) يقول “لقد خرقت إسرائيل قوانين الحرب”.

وهاهي القناة العاشرة الإسرائيلية تعترف بأن الطائرات الحربية الإسرائيلية وحدها ألقت على غزة “مليون كيلو غرام” من المتفجرات.. ونفذت ما لا يقل عن (2500) غارة خلال أسابيع المحرقة الغزية الثلاثة.. وهذا هو مدير الإسعاف والطوارئ في وزارة الصحة الفلسطينية يقول بأن قوات العدوان “استخدمت أسلحة فتاكة لأول مرة تذيب الأجسام وتحولها إلى هياكل عظمية”.. كل هذا الفحش في التسلح والجسر البحري والجوي الممتد من القواعد الأمريكية إلى تل أبيب أعاد للأذهان ما سبق للقوات الأمريكية أن استخدمته في العراق، وتحديداً في معركة المطار الثانية، أوائل يونيو عام 2003 ، حيث قامت تلك القوات بقصف المطار بأسلحة نادرة، لم يسبق لها أن استخدمت في أي حرب مضت، كانت عبارة عن قنابل محدودة التأثير ألقيت على المطار، فكان تأثيرها أكبر مما يمكن أن يتوقع، حيث أدت إلى سلخ جلد الجنود العراقيين ولحومهم وإبقائهم هياكل عظمية.

ولكن المفاجأة التي أربكت العالم بعامة وشركاء المذبحة بخاصة أنه رغم كل هذه الأسلحة وكل هذا الإفراط في التوحش.. كان هناك مفاجأة الصمود الأسطوري لشعب غزة.. واحتضانه لمقاومته مما ساعدها في الاستبسال في الدفاع عن غزة.. فلم ترفع الرايات البيضاء، ولم تسلم، ولم تستسلم ولم تتراجع عن مطالبها قيد أنملة.. قابله خط بياني فاضح ومتصاعد للتراجعات الصهيونية.. ولعلنا نشير إلى بعضها.. فبعد أن أعلن مجلس الحرب الصهيوني (أولمرت وإيهود باراك وتسيبي ليفني) رفضه لقرار مجلس الأمن 1860 في الثامن من كانون الثاني ـ يناير 2009 الداعي إلى وقف إطلاق النار في غزة باعتباره قراراً “غير عملي”.. نجده بعد أيام معدودة 12ـ1ـ 2009 يقرر عدم إصدار أوامر للقوات لخوض معركة أكثر شمولاً في مناطق الحضر.

حين دعت الأمم المتحدة على لسان بان كي مون “إسرائيل” لوقف إطلاق النار من طرف واحد وبجدول زمني لانسحاب قوات الاحتلال من قطاع غزة.. سارع مارك ريجيف المتحدث باسم رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت إلى إعلان رفض الحكومة لهذه الدعوة ولكنها بعد يومين تراجعت وأعلنت وقف إطلاق النار من جانب واحد مع بقاء القوات في القطاع.. وما أن أعلنت المقاومة قبولها بوقف إطلاق النار مشروطاً بانسحاب القوات في مدة أقصاها أسبوع هرولت هذه القوات مولية الأدبار قبل انتهاء المهلة التي حددتها المقاومة.. بعد أن أضاف إلى وجهه القذر ندبة غائرة أخرى اسمها “غزة” تقف شاهدة على ظلم إنساني دولي إلى جانب سابقاتها من دير ياسين فبحر البقر.. فقانا ومروحين وصبرا وشاتيلا..

فماذا تعني كل هذه التحولات المتسارعة في المواقف والتصريحات؟

بعيداً عن المبالغة في التفاؤل، فإن الاستنتاج الأول الذي يقفز إلى المقدمة هو أن “بقعة الزيت اللاهب” أثبتت بأنها بالفعل مفاجأة حماس للعدو.. فقد تمددت بقعة الزيت على امتداد خارطة فلسطين ووصلت أعماق وأهداف حساسة في كيان الاحتلال.. فتمكنت من الانتصار على حمم “الرصاص المسكوب”..

وربما من الاستنتاجات المذهلة أن “الأرض” (ميدان المعركة) التي كنا نعتقد أنها نقطة ضعف المقاومة في غزة نراها وقد انحازت إلى أهلها فتقالت معهم بأنفاقها وبيوتها المكتظة وأعانت على الصمود والانتصار.

أما ثالث هذه الاستنتاجات فهو أن “بقعة الزيت اللاهب”. جعلت من هذه الحرب “حرب الأهداف والعناوين المتغيرة” بامتياز فمن “سحق حركة حماس” و”إعادة سلطة عباس إلى القطاع”، إلى “منعها من إطلاق الصواريخ نهائياً”.. إلى “الحد من قدرتها على إطلاق الصواريخ”.. حين جاءت المفاجأة من الصواريخ الفلسطينية – التي وصفوها بالعبثية – لتحقق الردع.. وتقلب كل الحسابات.

لعل أهم إنجاز للمقاومة الفلسطينية الباسلة أنه بعد أن ترك الشعب الفلسطيني يواجه مصيره بمفرده.. تمدد هذا الشعب عبر شريان دمائه وبقعة زيته اللاهب على خارطة الدنيا كلها..

وبعد أن وصل حال الأمة إلى قاع الفرقة والتدابر والانكفاء.. نجد صمود المقاومة يوقظ عملاق الأمة ويحرك فيه كل كوامن الثورة والأخوة والخيرية والكرامة.. وكما أبدعت المقاومة هناك في المواجهة.. أبدعت الشعوب في وسائل تعبيرها.. وانحيازها إلى الحرية والاستقلال والكرامة.. وأدركت الأمة – كل الأمة – أن القضية ليست قضية غزة فقط.. وأن القضية أكبر من فلسطين.. بل هي قضية إبادة أمة وحضارة.

وفي ظني أنه ما من أحد بعد اليوم يمكن أن يسوق على جماهير هذه الأمة خيارات الاستسلام والخنوع تحت يافطات الاشتباك التفاوضي.. لقد احتشدت شعوب الأرض في الشوارع تعلن غضبتها.. ترفع رايات المقاومة.. وتتبنى شعاراتها.. وتؤشر بوضوح لا يقبل اللبس على أعداء الأمة والحياة والحرية والإنسانية.. وتعرف العالم على النازيين الجدد الذي نفذوا مذبحتين في أقل من سنتين في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.. فإن انكفأت الأمة مرة أخرى أو عادت إلى سباتها فإن ما حدث في غزة من مجازر لن يكون الأخير من نوعه رغم أنها تميزت بأياد عربية ملطخة بذات الدماء التي تلطخ الوجوه الكالحة لنازيي هذا القرن من قادة الصهاينة.

هاهي المقاومة الفلسطينية نجحت في إجهاض مخطط “إسرائيل” التصفوي للقضية الفلسطينية عبر الحصار الذي استهدف تأليب الشارع على المقاومة..فيصمد الشعب الفلسطيني الجريح.. وينحاز لمقاومته.. ويحقق الانتصار.. وهذا هو أولمرت – أبو الهزايم – يطلق عبر “الرصاص المسكوب” مرحلة العد العكسي لدولة الاحتلال.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات