الخميس 08/مايو/2025

انقلاب عربي يصعب تصديقه

انقلاب عربي يصعب تصديقه

صحيفة القدس العربي اللندنية

ما حدث في قمة الكويت الاقتصادية من مصالحات بين أطراف متنافرة، بل ومتصادمة، جاء مفاجئاً للكثيرين، فحروب القمم العربية، التي اشتعل أوارها طيلة الأيام القليلة الماضية، وما شهدته المنطقة من مقاطعات واستقطابات واصطفافات رسخ انطباعاً بأن الشروخ التي أصابت الجسم الرسمي العربي باتت أصعب من أن يتم التئامها، وأنها بصدد الاتساع.

فمن كان يصدق منظر العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز وهو يسير متشابك الأيدي مع الرئيس السوري بشار الأسد، ومن كان يتوقع أن يرى أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة يجلس جنباً إلى جنب مع الرئيس المصري حسني مبارك بعد المعارك الإعلامية الطاحنة، يتبادلان الابتسامات والأحاديث الودية وكأن شيئاً لم يحدث؟

مشهد صعب هضمه، ناهيك عن تفسيره، يعكس لوغاريتمات السياسة العربية، والطبيعة الغريبة، وأحياناً غير المنطقية، لمواقف أقطاب النظام الرسمي العربي، وطريقة تفكيرهم، ومواصفات خلافاتهم أو تحالفاتهم، الأمر الذي يدفعنا إلى طرح العديد من الأسئلة حول أسباب هذا الانقلاب المفاجئ، ومدى جديته، وما يمكن أن يترتب عليه من خطوات عملية في اتجاهات عديدة، وعلى الصعد كافة.

هل هي دماء أطفال غزة التي حققت هذه المعجزة، أم أنها العربدة الإسرائيلية التي فاقت كل التصورات في تغولها ووحشيتها، أم هو الصمت الأمريكي والغربي، أم هو الهوان العربي، أم أنها جميع العوامل هذه مجتمعة حتمت هذا التحول؟

لا نستطيع أن نغرق كثيراً في التفاؤل، لأن خيباتنا من النظام الرسمي العربي ورموزه لا تعد ولا تحصى، فقد شبعنا من الخطابات الرنانة، والكلمات النارية، وعبارات “العين بالعين، والسن بالسن” وتكرار الجمل الخالدة مثل “ما أخذ بالقوة لا يسترد بغيرها”، دون أن نرى غير اعتداءات إسرائيلية مهينة ومتواصلة، وقادة عرب يديرون الخد الأيسر لمن يصفع خدهم الأيمن.

هل ما حدث أمر جدي فعلاً، ومؤشر على بداية مرحلة جديدة من العمل العربي المشترك تضع حداً لمسلسل الإهانات الإسرائيلية، والازدراء الأمريكي، والاحتقار العالمي لكل ما هو عربي؟ أم أنه حدث طارئ لامتصاص حالة غضب شعبي عبّرت عن نفسها بقوة في شوارع المدن والعواصم العربية والإسلامية؟

خطاب العاهل السعودي كان نقطة التحول الرئيسية خلف كل التداعيات التي أطلت برأسها في قمة الكويت، وانعكست في المصالحات التاريخية، في توقيت عربي وعالمي حساس، حيث يقف العالم بأسره أمام مرحلة جديدة ومختلفة تنبئ بالكثير من التغييرات، الأمر الذي قد يوحي بأن المملكة العربية استعادت زمام المبادرة الذي فقدته طوال سنوات التيه السابقة ومنذ مطلع هذا القرن على وجه التحديد، مما قزّم دورها، وصنّفها في خنادق تتناقض مع تطلعات شعبها.

هناك مجموعة من النقاط يمكن استخلاصها من القراءة السريعة لبعض الوقائع التي تبلورت على المسرح العربي، والقمم العربية الأخيرة، والكويتية منها على وجه الخصوص:

أولاً: أدرك النظام الرسمي العربي أنه يقف أمام تحد إسرائيلي شرس ينسف كل الآمال بجدوى التعامل السياسي السلمي معه، مما يعني أن الاستمرار في استجداء السلام بدأ يعطي نتائج عكسية تماماً.

ثانياً: أكدت الاتفاقات الأمنية الأمريكية ـ الإسرائيلية لمراقبة الحدود المصرية مع قطاع غزة لمنع تهريب الأسلحة، ودون دعوة القيادة المصرية أو حتى التشاور معها، أن العلاقة الأمريكية مع دول محور الاعتدال العربي، ليست علاقة تحالفية وإنما “خدمية” حيث ترى واشنطن العرب كمجموعة من التابعين باتت وظيفتهم محصورة في خدمة حروبها، وحماية “إسرائيل”. والشيء نفسه يقال أيضاً عن تجاهل “إسرائيل” للمبادرة المصرية لوقف إطلاق النار، وإنهاء الحرب من طرف واحد ودون التشاور مع الوسيط المصري.

ثالثاً: نجح الرأي العام العربي المغيّب في فرض نفسه على النظام الرسمي العربي، من خلال مظاهراته الاحتجاجية الصاخبة والمستمرة، الأمر الذي أعطى ثماره في إجبار الأنظمة على وقف نظرتها الازدرائية غير المبالية للشارع العربي.

رابعاً: صمود أهل قطاع غزة الأسطوري لأكثر من ثلاثة أسابيع في وجه العدوان الإسرائيلي، ودون أي دعم رسمي عربي، عسكري أو سياسي، وفشل كل الرهانات على رضوخهم للابتزاز الإرهابي الإسرائيلي والانقلاب على المقاومة وفصائلها وثقافتها.

خامساً: تعاظم المعارضة لحال الخنوع العربي الراهنة، وإقدام دول على خطوات عملية للمرة الأولى لتبرئة نفسها من تهم التواطؤ مع الاحتلال، وتبلور حالة من الفرز في أوساط الأنظمة، بين من يريد أن يفعل شيئاً عملياً كرد على الإذلال الإسرائيلي ـ الأمريكي، ومن يتحلى بفضيلة الصمت، وإعطاء “إسرائيل” فرصة لإنهاء المقاومة. ورأينا قطع علاقات مع “إسرائيل”، ومطالبة قوية بسحب مبادرة السلام العربية، والتلويح بخطوات أخرى قادمة.

سادساً: مساء اليوم تنتهي فترة حكم أكثر الزعماء الأمريكيين كراهية للعرب والمسلمين، وصداقة وتأييداً للإسرائيليين ومشاريعهم وحروبهم ضد العرب والفلسطينيين خاصة، وتبدأ فترة إدارة جديدة تعد بالتغيير، وتقليص الاعتماد على العرب ونفطهم، وفرض احترام قيم حقوق الإنسان والديمقراطية، الأمر الذي يفرض على النظام العربي، أو رموزه الأساسية إعادة ترتيب أوضاعها، والتخلي عن بعض جوانب غطرستها وجنوحها، ومحاولة إصلاح الجسور مع أنظمة أخرى اختلفت معها، وعادتها لأسباب شخصية محضة، وليست استراتيجية.

سابعاً: لعب الإعلام العربي، والشريف منه على وجه الخصوص، دوراً فاعلاً في تعرية المتواطئين مع العدوان، والمتدثرين بعجز مفتعل عن مواجهته لأسباب غير وجيهة، علاوة على كونها غير مقنعة، سواء من خلال إبراز الوحشية الإسرائيلية في قطاع غزة، ومظاهر الصمود الإعجازية للثكالى والأطفال المقطعة أوصالهم، أو الأطباء الذين يعملون ببطولة لإنقاذ المصابين، أو تحريض الشارع العربي ضد الأنظمة، وتعبئته خلف عملية التغيير على مستوى القمة.

لعلها “صحوة”، أو بوادر حراك في اتجاه صحيح، وفق بوصلة جديدة، ترتكز قاعدتها على معجزة مساحتها مئة وخمسون ميلاً مربعاً اسمها قطاع غزة، تضم شعباً من الجبارين فعلاً، قد تكون حلماً كاذباً يدفعنا إلى التريث والحذر لأننا لدغنا كشعوب في مرات سابقة، وانخدعنا بخطابات نارية مماثلة، وقد تكون “انتفاضة” حقيقية وجدية تؤشر لمرحلة جديدة.

نفضل التريث قليلاً، وانتظار الأيام المقبلة، حيث سيهدأ غبار قمة الكويت، ويعود الزعماء العرب إلى بطانتهم وقصورهم، بعدها سنرى الحقائق على الأرض، واضحة للعيان، ونأمل أن تكون شكوكنا وحذرنا وعلامات استفهامنا في غير محلها.

ختاماً نقول إن أي مصالحة عربية ـ عربية، أو فلسطينية ـ فلسطينية لا تستند إلى أرضية مقاومة المشروع الإسرائيلي هي مصالحة مغشوشة، ستصطدم حتماً بالشارع العربي، ولن تنقذ النظام الرسمي العربي.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات