حتى لا نجلد الشارع العربي

صحيفة البيان الإماراتية
من طهران وأنقرة شمالاً إلى الخرطوم وكردفان جنوباً، ومن جاكرتا شرقاً إلى الدار البيضاء وتطوان غرباً، انداحت جماهير العالمين العربي والإسلامي في الشوارع والميادين لتقول كلمتها وتفصح عن مكنوناتها إزاء ما يجرى في فلسطين بعامة وقطاع غزة مؤخراً بخاصة.
وبدت هذه الغضبة الشعبية العارمة كبيرة وواسعة شكلاً؛ عميقة الشعارات موضوعاً، على قدر مقام القضية الفلسطينية ومكافحة الصلف الصهيوني عموماً وليس فقط الانتصار لغزة وقطاعها.
في سياق هذه الظاهرة، التي أوحشتنا وأوحشت إعلام الصراع الصهيوني العربي وأخبار فلسطين طويلاً، تبين لكل من يعنيهم الأمر أن فلسطين لم تغادر مكانتها المركزية في ضمائر العرب والمسلمين.. وإذا مددنا خطوط الفهم والتأمل على استقامتيهما وقرأنا مغزى التظاهر خارج هذين العالمين، من طوكيو إلى واشنطن ومن أوسلو إلى جوهانسبرج، أيقنا بأن القضية المركزية حاضرة بقوة أيضاً في شطر كبير من الوجدان الإنساني.
وأن إعلام الأزمات وعمليات التسميم السياسي والتمويه على الحقائق، قد يربحون مؤقتاً وقليلاً ولكنهم يبوؤون بالخسران أخيراً. قبل سويعات من بداية حملة «الإرهاب» المسكوب على غزة ذهبت تسيبي ليفني وزيرة خارجية “إسرائيل” إلى أن المسرح قد أعد تماماً وتهيأ لتفهم الموقف الإسرائيلي على الصعيدين الإقليمي والدولي.
ما أغفلته ليفني أو غفلت عنه مع بطانة الشر من حولها ولم يحسبوا له حساباً، هو رأي عامة الناس من ملح الأرض، والكيفية التي سوف يستقبلون بها هذه الحملة.. وبالتداعي، حجم الخسارة والتشويه الذي سيلحق بصورة “إسرائيل” ومحازبيها حال تكشف حقيقة مقاصدهم وأدواتهم النازية الإبادية بين يدي الحملة. على أن ليفني والذين معها ليسوا استثناء ولا هم معزولون في إطار منهجية انتهاك أهمية الرأي العام عن قصد منهم أو عن جهل وغير قصد.. ذلك لأن لهم شركاء وحلفاء في الرحاب العربية الإسلامية.. شركاء متفيهقون متحذلقون يهونون بدورهم من شأن المراهنة على الجماهير وحركة الشارع وهباته، واصفين إياها بالموسمية والانفعالية، وبأنها لا تنتج حالة منظمة ومستدامة لدعم أصحاب القضايا الساخنة، ولا تقوم على خطط واستراتيجيات لإدارة المجتمعات بأفضل وأقوم ما يمكن.
يقول واحد من هؤلاء القوم (إن خطاب الجماهير يتعامل مع القضايا أكثر مما يتعامل مع البشر وحاجاتهم.. لذلك فهو يهرب للعواطف والشعارات والتمنيات.. وغالبا ما يبالغ بالقدرات الذاتية لأنه خطاب رغبوى وقدري؛ لا يلقي بالاً لموازين القوى ولا للمعطيات الدولية والإقليمية والمحلية. ولا يهتم بالأثمان والجدوى ولا بالخسائر بقدر ما يهتم باستمرار القضايا..).
إلى هذا الحد يعتبر صاحبنا ومدرسته فاقدين للثقة في حساسية الجماهير ونبض الشارع، وهما قوام ما يعرف بالرأي العام الذي لا يجتمع على ضلالة. تفنيد هذا التقدير أمر شرحه يطول.. غير أننا نزولاً عند مقتضى المقام يمكن أن نتبصر فيه بإيجاز عيبين كبيرين.
العيب الأول عام، يتأسس على تناقض جوهري بين تبكيت الشارع وإدانته إذا ما غاب من صورة المناسبات والأحداث، لاسيما الفارق منها، وبين السخرية منه والاستخفاف بطاقته على التأثير والفعل إذا ما تحرك هذا الشارع وعبر عن نوازعه ومراداته.
نحن هنا إزاء ما يبعث على الحيرة والدهشة ويثير عقل الحليم. فالناس (الشارع، الرأي العام) إذا استكانوا واستناموا أمام الوقائع رموا بالغفلة والانهزامية والجهل، وصار من يعول عليهم مصاباً بالوهم والعيش في برج عاجي؛ منبت الصلة بالحياة اليومية.. أما إن فزع الناس أنفسهم إلى التظاهر وما يتيسر لهم من أدوات التعبير عما يجيش بين جوانحهم، أضحوا عاطفيين وموسميين ورغبويين وقدريين؛ غير واعين للمعطيات…! وعموماً لنتخيل ما الذي كان ليقال عن الشارع العربي لو أنه لم يحرك ساكناً تجاه مذبحة غزة.
أما العيب الثاني فيمكن تبينه من جماع بعض التفصيلات والتساؤلات. فليس مطلوباً من الجماهير أن تبيت في الشوارع والحارات زاعقة ليل نهار من أجل أن توسم بالديمومة واللاموسمية والدأب على قضايا الأمة ورعايتها. النزول إلى الشارع في جموع حاشدة، المقرون برفع الشعارات والهتافات (وعادة ما تكون هذه من جوامع الكلم) هو أحد أهم معالم المشاركة السياسية الخالية من دسم المجاملات والطرق الالتوائية التي يأتيها الساسة المحترفون.
وقد يصح وصف الحشود الهاتفة بالانفعال.. ولكن يبقى من الصحيح أيضاً أنه لا فعل بدون انفعال. وإذا كان الانفعال من خصائص التظاهر الجماهيري، فإنه ينطوي في الوقت ذاته على رسائل عاجلة إلى النخب وصناع القرارات.
هذا وإلا ما كان هؤلاء الأخيرين قد ميزوا بين تصرفات وقرارات ذات مرجعية شعبية تحظى بتأييد الرأي العام ومؤازرته وبين قرارات فوقية سلطوية مفروضة على الناس؛ تستأهل السخط واللعنات. أوليس الاستماع إلى ما تقوله الجماهير المحتشدة وتهتف به أعلى الاستقصاء واختبار صحة مسار الخطوات والسياسات والقرارات من عدم ذلك؟
إلى هذا، يمكن التشكيك في مقولة أن الشارع يلتقي ويغيب من تلقاء نفسه وليس بوحي ووعى وإيعاز ودعوة من جانب قوى منظمة؛ معلومة العنوان والبرامج والأهداف. بناء على هذه الحقيقة، فإن من أراد التعرف على معنى التجمهر والتظاهر وغاياتهما في مناسبات بعينها، ما عليه إلا أن يطالع قائمة الداعين إليهما.
والدارج المألوف أن هذه القائمة تضم أحزاباً وحركات ومنظمات ونخب ورموز سياسية ومدنية على درجة عالية من الوعي بمعطيات القضايا موضع النظر والاهتمام.
ويتأتى عن هذه الملاحظة انتفاء مسألة الغفلة وقلة إدراك الشارع لموازين القوى المحيطة ببعض هذه القضايا. مثلا، ألا يعرف الشارع العربي الذي تداعى لنصرة غزة أن القوى العربية والإسلامية بوسعها التصدي ل”إسرائيل” وحلفائها وردعهما إذا ما تمت تعبئة الموارد والإمكانات بشكل وقلب سليمين؟! وفى أضعف الفروض، ألا يدرك هذا الشارع أن هذه القوى تملك ما يؤهلها لنصرة غزة بما هو أكثر وأجدى من تعبيرات الإدانة والشجب والاستنكار والإغاثة بالغذاء والدواء عن بعد؟!
الشاهد على كل حال أن للشعوب حدساً قليلاً ما يخطي أو يخيب، وأن انطلاق الغضب الشعبي الجماعي إلى الساحات والشوارع مؤشر بالغ الدلالة على حيوية الأمم ويقظتها، وهو أمر يؤتي أكله ولو بعد حين.
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

حماس تهنّئ البابا ليو الرابع عشر لانتخابه رئيسًا للكنيسة الكاثوليكية
المركز الفلسطيني للإعلام تقدّمت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بأصدق التهاني والتبريكات إلى البابا ليو الرابع عشر، بمناسبة انتخابه رئيسًا للكنيسة...

الحصاد المر لـ 580 يومًا من الإبادة الجماعية في غزة
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام نشر المكتب الإعلامي الحكومي ينشر تحديثاً لأهم إحصائيات حرب الإبادة الجماعية...

رامي عبده: خطة المساعدات الأميركية الإسرائيلية أداة قهر تمهد لاقتلاع السكان من أرضهم
المركز الفلسطيني للإعلام قال رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، رامي عبده، إن الخطة الأميركية‑الإسرائيلية التي تقضي بإسناد توزيع مساعدات محدودة...

قتلى وجرحى بتفجير القسام مبنى بقوة من لواء غولاني في رفح
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام قتل عدد من جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي وأصيب آخرين في رفح، اليوم الخميس، وفق وسائل إعلام إسرائيلية، فيما قالت كتائب...

شهيد وجرحى في سلسلة غارات إسرائيلية على جنوب لبنان
بيروت - المركز الفلسطيني للإعلام استشهد مواطن لبناني وجرح آخرون، في سلسلة غارات شنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على جنوبي لبنان، اليوم الخميس، على ما...

حصيلة الإبادة ترتفع إلى أكثر من 172 شهيدا وجريحا
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أفادت وزارة الصحة بغزة، اليوم الخميس، بأن مستشفيات القطاع استقبلت 106 شهداء، و367 جريحا وذلك خلال 24 الساعة الماضية...

الادعاء الروماني يحيل شكوى ضد جندي إسرائيلي إلى النيابة العسكرية
بوخارست - المركز الفلسطيني للإعلام أعلنت مؤسسة “هند رجب” أن المدعي العام في رومانيا أحال الشكوى التي تقدمت بها المؤسسة ضد جندي إسرائيلي إلى مكتب...