انعكاسات حرب غزة على مرايا المشهد الاستراتيجي العربي

صحيفة العرب القطرية
بعد نهاية العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة يبدو المشهد الإقليمي حاملاً في طياته تغييرات بعيدة المدى ستترك آثارها الاستراتيجية في مستقبل التوازنات العربية والفلسطينية، وكذلك في طبيعة العلاقات العربية مع الجوار الإقليمي. فعلى خلاف الحرب الإسرائيلية على لبنان في العام 2006، عصفت حرب غزة بالتضامن العربي، إذ تلقى «المعتدلون» الذين تلكؤوا في مواجهة الدولة العبرية ضربة قوية، واستطراداً تعرضت حركة «فتح»، زعيمة «الاعتدال» الفلسطيني، لأكبر هزة في تاريخها أدت إلى إزاحتها من سدة الزعامة لصالح «حماس».
ولا جدال في أن الانعكاسات التي أفرزتها الحرب الأخيرة ستطفو تباعاً على مرايا المشهد الاستراتيجي العربي خلال الفترة المقبلة، خاصة على صعيد العلاقات العربية الإسرائيلية، إذ انهارت فرص التسوية السياسية مع “إسرائيل” في ظل المكانة الجديدة التي انتزعتها المقاومة الفلسطينية بامتناعها عن رفع الراية البيضاء حتى آخر يوم في الحرب، رغم الاختلال الكبير في موازين القوى. وفي هذا الإطار شكّل قرار كل من قطر وموريتانيا تجميد العلاقات مع الدولة العبرية خطوة سياسية ورمزية ألغت – وإن مؤقتاً- نقطة التطبيع من جدول أعمال كثير من الدول التي كانت تمهّد لإعلان إجراءات من هذا القبيل، وهذا يعني أن “إسرائيل” التي كانت تبحث عن أي منفذ للتقارب مع الدول العربية رفعت بعدوانها على غزة حواجز شاهقة جديدة تزيد الهوة اتساعاً بينها وبين محيطها، وامتدت الشُّقة لتشمل ليس فقط أصدقاءها الإقليميين، أسوة بتركيا، بل بلداناً بعيدة في أوروبا وأميركا اللاتينية.
من هنا تبدو القراءة المتأنية لانعكاسات حرب غزة على صفحة المشهد الاستراتيجي العربي ضرورية، وإن كانت معالمها غير مكتملة بعد، بحكم أن مفاعيلها الإقليمية والعربية والفلسطينية ما زالت مستمرة، لكن يمكن القول منذ الآن إن النظام الرسمي العربي خرج خاسراً من هذه الحرب، فأسلوب الوفاق وتدوير الزوايا الذي استؤنفت على أساسه القمم الدورية منذ العام 2000 (بفضل الانتفاضة الفلسطينية الثانية)، انهار مع تباعد ردود الفعل بين الخائفين من «حماساتهم» الداخلية ومن تجاوزوا هذا النوع من العُقد، وتعذّر رأبُ الصدع بين الفريقين قبيل قمة الدوحة ما انعكس انقساماً في صفوف الدول العربية بين ما يُعرف بـ «معسكر الاعتدال» وما سُمي اصطلاحاً «معسكر الممانعة»، وشكّل تغيب «عرب الاعتدال» عن قمة الدوحة ضربة عميقة لصورتهم لدى الرأي العام وزعزعة لهيبتهم وسلطتهم السابقة (الواسعة) على مؤسسات العمل العربي المشترك.
في هذا السياق ترنحت الجامعة العربية وفقدت دورها بصفتها المربع المشترك الذي كان يقف عليه العرب جميعاً، وحدثت «خضة» شبيهة بتلك التي أعقبت القمة العربية في القاهرة بعد الاجتياح العراقي للكويت في العام 1990، لكن في هذه المرة تمزقت جدران الخيمة واهتزت أوتادها بفعل الغارات الإسرائيلية، لكن كان يمكن إنقاذها لو لم يختر الأمين العام للجامعة أن يكون مصرياً قبل أن يكون عروبياً، إذ أكد عمرو موسى على نحوٍ غير قابل للاستدراك المقولة الرائجة، والتي مفادها أن الأمين العام للجامعة العربية عاد موظفاً لدى الخارجية المصرية منذ عودة الجامعة إلى القاهرة قبيل أشهر من الاجتياح العراقي للكويت وبعد تولي وزير الخارجية آنذاك عصمت عبدالمجيد أمانتها العامة.
من هذه الثغرة في جدار التضامن العربي استطاعت الدول الإقليمية غير العربية الدخول رسمياً إلى معادلة الصراع العربي الإسرائيلي بعدما كانت تطوف حول ملعبه من الخارج، وفي هذه الحرب ما كان ممكناً قفل الباب في وجوههم وتركهم خارج الأسوار بعد الموقف «الفلسطيني» الذي اتخذه رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان ساحباً وراءه الدولة التركية (الصديقة التقليدية ل”إسرائيل”)، وبعد المواقف الإيرانية النارية من احتلال القدس.
ودخول الطرفين التركي والإيراني إلى معادلة الصراع مع “إسرائيل” ليس خبراً سيئاً في ذاته، لا، بل هو نقل للصراع من الدائرة العربية إلى الدائرة الإسلامية، وهذا أمر منطقي طالما أن القدس عاصمة روحية إسلامية، ومن مصلحة العرب أن يكون في مواجهة «عدوتهم» “إسرائيل” مليار ونصف المليار مسلم وليس 300 مليون عربي فقط.
وإذا كان بعض العرب يُبدون اليوم ضيقاً شديداً من دخول أطراف غير عربية إلى مسرح الصراع العربي الإسرائيلي، فالمسؤول عن ذلك هو ما يسمى بمعسكر الاعتدال الذي عمل على إرجاء القمة في انتظار انتهاء الحرب، وعطّل اتخاذ قرار واضح يُزعج “إسرائيل” وأميركا، غير أن مشاركة اللاعبيْن التركي والإيراني في القمة لم تكن انضماماً إلى الخيمة العربية، فالقمة كانت طارئة ولم تكن في إطار جامعة الدول العربية.
واليوم بعد القرار الإسرائيلي بوقف العمليات العسكرية يبدو موقف السلطة الفلسطينية التي غابت عن القمة التي عُقدت في الأسبوع الثالث من الحرب، ولم تكن هناك نقطة أخرى على جدول أعمالها سوى تقديم المساعدة لشعبها، أشبه بانتحار سياسي، فغياب محمود عباس أعطى فرصة لحركة «حماس» كي تتسلم صك الشرعية العربية والإقليمية وتكون ناطقة ليس باسم شعب غزة الجريح فقط بل باسم الفلسطينيين جميعاً في الداخل وفي الشتات، الذين أعلنوا بصوت واحد من خلال المسيرات اليومية أنهم مع خيار المقاومة. واستطراداً انتقلت الزعامة والتمثيل الفلسطيني للمرة الأولى بعد حرب غزة من «فتح» إلى الفصائل الغريمة بقيادة «حماس»، ما أنهى الحقبة الفتحاوية التي استمرت منذ «معركة الكرامة» في العام 1968 إلى الحرب الأخيرة في غزة.
وبتعبير آخر فإن الضربة التي تلقاها «الاعتدال» العربي بغيابه عن قمة الدوحة والنأي بنفسه عن نبض الأمة ونداءات الشارع العربي، أصابت أيضاً السلطة الفلسطينية التي اختارت منذ زمن معسكر «المعتدلين» باعتمادها نهج التسوية بدل خيار «المقاومة والتفاوض»، مثلما فعلت الحركات الوطنية في المغرب العربي وأشهرها «جبهة التحرير الوطني» الجزائرية وحكومتها المؤقتة، وبهذا المعنى يمكن القول إن حرب غزة كرست إنهاء قيادة مصر للعمل العربي المشترك وقيادة «فتح» للساحة الفلسطينية.
وفي ظل المعادلة الداخلية المصرية، التي يطغى عليها مأزق التداول، لا تبدو في الأفق عناصر تسمح باستعادة الدور القيادي السابق، ولا حتى باستعادة زمام المبادرة، فالفراغ الذي تركه انسحاب مصر من الواجهة أتاح لأي طرف عربي أو إقليمي، مثل تركيا، أن يجمع بين يديه الأوراق المتساقطة ويستقطب الشارع والنُخب على السواء.
مثل صخرة كبيرة الحجم، تركت الحرب الإسرائيلية على غزة أصداءً عميقة على صفحة البِركة العربية الآسنة ما زالت دوائرها تتشكل وتتلاحق بكثافة، وعلينا أن ننتظر التطورات الدبلوماسية الآتية بعد استلام باراك أوباما مقاليد الرئاسة الأميركية كي نرى اتجاه البيت الأبيض لمحاولة التأثير على هذه المتغيرات.
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

الأورومتوسطي: إسرائيل تمارس حرب تجويع شرسة في قطاع غزة
غزة- المركز الفلسطيني للإعلام أكد المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، أن الهجوم الإسرائيلي المتواصل والحصار الخانق والنقص الحاد في الإمدادات...

550 مسؤولا أمنيا إسرائيليا سابقا يطالبون ترامب بوقف الحرب بغزة
القدس المحتلة – المركز الفلسطيني للإعلام طالب مئات المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين السابقين الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالعمل على وقف الحرب في...

حماس تدعو للنفير لحماية الأقصى بعد محاولة ذبح القرابين
القدس المحتلة – حركة حماس قالت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، إن محاولة المستوطنين ذبح قربان في المسجد الأقصى يعد تصعيداً خطيراً يستدعي النفير...

مؤسسات الأسرى: تصعيد ممنهج وجرائم مركّبة بحق الأسرى خلال نيسان الماضي
رام الله - المركز الفلسطيني للإعلام واصلت سلطات الاحتلال الإسرائيلي خلال شهر نيسان/ إبريل 2025 تنفيذ حملات اعتقال ممنهجة في محافظات الضفة الغربية،...

إضراب جماعي عن الطعام في جامعة بيرزيت إسنادًا لغزة
رام الله- المركز الفلسطيني للإعلام أضرب طلاب ومحاضرون وموظفون في جامعة بيرزيت، اليوم الاثنين، عن الطعام ليومٍ واحد، في خطوة رمزية تضامنية مع سكان...

القسام تفرج عن الجندي مزدوج الجنسية عيدان ألكساندر
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أفرجت كتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، عند الساعة 6:30 من مساء اليوم...

خطيب الأقصى: إدخال القرابين يجب التصدي له بكل قوة
القدس – المركز الفلسطيني للإعلام استنكر خطيب المسجد الأقصى الشيخ عكرمة صبري، محاولة يهود متطرفين إدخال قرابين إلى ساحات المسجد الأقصى، معتبراً أنه...