عاجل

الإثنين 12/مايو/2025

معركة الكلمة والصورة والإنسان

معركة الكلمة والصورة والإنسان

صحيفة العرب القطرية

في «تلفزيون مدريد» المهيمَن عليه من قبل حكومة مقاطعة مدريد التي يفوق تعداد سكانها سبعة ملايين، جاء خبر «اليوم العشرين الرهيب» الذي عاشته «غزة الصابرة»، بهذه الصيغة ودون أي إضافة: «استطاعت “إسرائيل” القضاء على القبة القيادية للمجموعة الإرهابية حماس، وسقط أكبر إرهابييها صيام»! بينما كانت طائرات “إسرائيل” -وفي حفل استقبالها الأمين العام للأمم المتحدة- تدكّ مخازن الأونروا حارقة كل المساعدات الغذائية التي دخلت القطاع، وزوارقها الحربية تقصفه دون هوادة، ودباباتها تحصد الأرواح والصبر والحياة والأمل.

لم تحرك أيٌ من القنوات التلفزيونية الإسبانية الستّ الرئيسة ساكناً، ولم يرِد الخبر إلا في القناة الرسمية الأولى وفي أقل من أربع دقائق وفي برودة ولامبالاة عجيبة. كان هذا هو الحال في معظم القنوات التلفزيونية بينما كانت الإذاعات تتميز غيظاً بحوارات ملتهبة جاءت فيها بمحاورين من طرفي الصراع العربي الإسرائيلي، وكانت تورد الأخبار المروعة الآتية من غزة شيئاً فشيئاً، وكما تملي عليها واجباتها الصحافية وشرف المهنة الذي يتناسب عكساً مع علاقاتها الوثيقة بالسفارة الإسرائيلية في مدريد، وما يعنيه ذلك من صلات اقتصادية مباشرة عن طريق تملك معظم أسهم تلك الإذاعات، أو غير مباشرة عن طريق شراء معظم ضمائر العاملين والقائمين عليها، كما يؤكد ذلك الكاتب والباحث الإسباني فرانسيسكو روبيالس في بحث له بعنوان «إسبانيا بعد 30 عاماً.. آلاف الصحافيين والمفكرين الذين باعوا ضمائرهم». وليس إلا مراجعة أرشيف وتاريخ هؤلاء القوم الذين يسدون على الناس منافذ التفكير في كل نافذة إعلامية ممكنة، حيث ترى الصحافي نفسه يقول شيئاً في تاريخ معين، ثم ينقلب على نفسه 300 درجة من القذارة والوقاحة ليقول شيئاً مختلفاً تماماً في تاريخ آخر، إنها سوق عظيمة «سوق الصحافة» هذه، سوق الكلمة التي يلفظها أحدهم فتطير إلى آفاق الأرض بهتاناً وزوراً في محاولات دؤوبة مستميتة لتشويه الحق وترسيخ الباطل في أذهان المواطنين الأوروبيين!

ولكن، ورغم هذا الواقع المحزن فإن للحق جنوداً لا يمكن للباطل أن يتجاوزهم ولا أن يهزمهم بكل دباباته وطائراته وقنابله الذكية ولا الغبية، وتبقى الصحف الورقية والإلكترونية مرابطة في هذا الثغر الخطير، ثغر الحقيقة، التي يجب أن تُنقل كاملة للرأي العام، وذلك رغم كل هذه السيطرة الصهيونية الخانقة على وضع الإعلام في الغرب والذي لا تُعتبر فيه إسبانيا أيَّ استثناء.

الصحف الورقية صدرت صبيحة اليوم الحادي والعشرين وعلى صفحاتها الأولى أخبار الطائرة الأميركية التي اضطرت للهبوط في نهر هدسون بنيويورك، لم تترك كبير هامش للعناوين الخاصة بما يجري في غزة، ولكن صفحاتها الإلكترونية كانت تُورد الأخبار الآتية من «الجحيم الغزاوي» دقيقة فدقيقة، الصهاينة يراهنون على التلفزيونات التي أصبحت أدوات «استحمار» كامل للشعوب، ونسبة متابعيها تعد بمئات الملايين، أما الإذاعات فلا يستمع إليها إلا سائقو السيارات والذين تصل أعدادهم إلى عشرات الملايين في أوروبا، والصحف الورقية التي صارت توزّع الآن كثيراً من طبعاتها مجاناً بسبب انصراف الناس عنها إلى الصحف الإلكترونية ما زالت تراوح بين كلمة الحق التي يجب أن تقال، وبين الذين باعوا ضمائرهم واختاروا أن يكونوا مع الشيطان الذي تبين للعالم كله الآن أنه شيطان.

انتشار الإنترنت نقل المعركة الدائرة منذ 70 عاماً في الأرض المقدسة إلى ساحات جديدة وخطيرة، وجعل الحقيقة لا تكاد تخفى على من يستعمل هذه الأداة الإبداعية الإنسانية، والتي حوَّلت كل من يستخدمها إلى جندي مجهول لنصرة قضية يؤمن بها، والمتجول في المنتديات الإسبانية الإنترنتية يجد فرقاء مجندين ساعاتِ الليل والنهار لا ينامون ولا يكلون، قد وقفوا وجودهم الإنترنتي ذاك لنصرة “إسرائيل” وتشويه الحق أو تقديمه من وجهة النظر الصهيونية العالمية، وعلى الطرف المقابل فإن هناك مجموعاتٍ لا يستهان بها من العرب والمسلمين ممن يذودون عن حقهم ويحاولون تبيانه لجموع الإنترنتيين.

معارك الدم والنار والقنابل الفسفورية، معارك الجغرافيا والتاريخ، انتقلت إلى ساحة أخطر وأعظم، ساحة الكلمة والصورة، حيث أصبحت الكلمة سلاحاً قاطعاً والصورة سلاح تدمير شامل، كلمات عزمي بشارة في هذه المحنة وعبر قناة الجزيرة، وتحليلاته السياسية المتزنة، ومثله مروان بشارة في الجزيرة الإنجليزية، ومعهما قليل جداً -هذه المرة- من المحللين السياسيين والمفكرين وصناع الرأي، وعلى قلتها وندرتها كانت دعامة هائلة بالنسبة للرأي العام العربي والإسلامي، وباستثناء الشيخ العلامة يوسف القرضاوي لا يمكنني قول الشيء ذاته عن مجموعات المشايخ والدعاة الذي استعرضتهم الفضائيات أثناء هذه المحنة حتى ظن البعض منهم أنه محلل سياسي أو عسكري فراح «يخبص تخبيصاً» ما كان يليق أن ينقل عبر الفضائيات، قنوات الجزيرة بكل أفرعها، والعربية، والحوار، والمجد، والجزائرية، ذهبت بخير الجهاد والكفاح بالكلمة المقاتلة والصورة المزلزلة على مدار الساعة، وإن كنت أعتقد أن قناة الجزيرة بالغت كثيراً في استخدام الصورة عاطفياً في وقت تحتاج فيه الأمة إلى كثير من الحقن التي يجب أن تستثير لديها التفكير البارد الهادئ رغم المجزرة الجارية في غزة، لأن القضية لا تتلخص في اعتداء وحشي قذر، لكن في جرائم مرعبة تقدم قرابين بشرية على مذبح قضية مصيرية بالنسبة للمنطقة العربية كما للأمة الإسلامية.

تامر المسحال، جيفارا البديري، وائل الدحدوح، إلياس كرام، آلان فيشر، أيمن محي الدين، شيرين تدرس، خديجة بن قنة، سامي زيدان، جيمس بينيس، وعشرات غيرهم ومعهم ومثلهم من مجاهدي الكلمة، ومنهم من يعمل مع قنوات افتُضحت بدعم مبَطّن لهذا العدوان المتَغول، ورغم ذلك فلقد ضرب مراسلوها المثل في التزام الشرف الصحافي والقومي والإسلامي حتى لو كانوا من غير المسلمين!

معركة مزلزلة معركة الكلمة والصورة هذه، معركة يمكن أن يعرف العالم خطورتها وهو يرى الدبابات والطائرات والصواريخ موجهة نحو صدور الصحافيين، لم يكن اتهام تيسير علوني بالإرهاب مصادفة، ولم يكن اعتقال سامي الحاج خطأ استراتيجياً، ولم يأت قتل طارق أيوب من قناة الجزيرة ومصور القناة الخامسة الإسبانية خوسه كووسو جزافاً، إنها الخطة الصهيونية الأميركية الجديدة في قهر وقمع وإخراس الكلمة، ومنع المشهد والصورة الحقيقيين من الظهور للرأي العام العالمي، لتبقى الشعوب «شاخرة» ساهية في أفيون دغدغات الجنس والرذيلة والسقوط الذي تقدمه لها عشرات الفضائيات التي اخترقت سماءنا وصدورنا، مدفوعة الأجر من قبل بعض حكوماتنا، لتشغل الناس عن قضيتهم، لكن السياسات الإعلامية الصهيو-أميركية لا تفهم أن القضية بالنسبة للناس في المنطقة العربية هي لحمهم ودمهم والهواء الذي يتنفسون، وأن الأمهات ما زلن يرضعن آلام الفلسطينيين لمواليدهن في المهد، وأن الآباء يحيون ويموتون وهم مستمسكون بهذه القضية، ينشغل الناس بعض الشيء ويُرَوِّحون عن أنفسهم ببعض أفلام ومسلسلات القنوات الغازية، ولكنهم أبداً مرابطون أمام شاشات آلت على نفسها أن تقدم الحقيقة، وتضع المشاهد أمام مسؤوليته الإنسانية والتاريخية.

لقد امتنعت كل القنوات التلفزيونية الإسبانية وخلال الأيام الأربعة الأولى لمذبحة «غزة هاشم» الأخيرة، عن نقل أي خبر أو صورة، ولم تنقل حرفاً عن تظاهرات كبيرة جابت شوارع مدريد تهتف لغزة وللحق والعدل والسلام في الأرض، لكن الإنسان دائماً يبقى أكبر سلاح في معركة قهر الإنسان، لقد جاب العرب والمسلمون شوارع مدريد الرئيسة وهم يهتفون «لا للمحرقة الجديدة في غزة»، وكان المدريديون مذهولين بما يرون ويسمعون، ويتساءلون عن الأسباب التي أدت بوسائل إعلامهم إلى التعمية الكاملة على هذه الأحداث، مما جعل التظاهرات الأخيرة تضم عشرات الآلاف من العرب والمسلمين ومعهم كثيرون من أفراد الشعب الإسباني الذين يرفضون هذا الظلم. لقد استطاع «الإنسان» العربي البسيط الذي سار في هدوء وانضباط مثاليين حاملاً العلم الفلسطيني أن يربح المعركة أمام سفير “إسرائيل” في مدريد، والذي استشاط غضباً فراح يشتري المقابلات مع مختلف التلفزيونات والإذاعات ليرد عن دولته وسفارته تهمة الإرهاب العالمي والإبادة الجماعية وجرائم الحرب التي لصقت هذه المرة بإسرائيل وإلى الأبد.

رجل إسباني واحد، باحث في العلاقات الدولية، كان يرسل من غزة تقارير مروعة عن جرائم الحرب التي ترتكبها “إسرائيل”، ولم تستطع الصحف إلا أن تنشر ما يرسله، ألبرتو آرثيه وحده من غزة زلزل وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة، ونقل إلى الرأي العام الإسباني الحقيقة، الإنسان بوثائقه المكتوبة والمصورة قادر ودائماً على التفوق على الجيوش الجبارة التي تظن أنها لا تقهر، لأن الإنسان نفسه هو أهم سلاح في كل المعارك.

كل التحية والاحترام لألبرتو آرثيه ورفاقه من أحرار العالم المستعبد غير الحرّ، وتحية للجزيرة العربية وللجزيرة الإنجليزية التي فتحت في جدار العجز العربي كوّة لا يمكنها أن تُغلق بإذن الله، الجزيرة التي تؤسس لمرحلة جديدة من الوعي القومي- الإسلامي في هذه المنطقة، لا تقل خطورة ولا أهمية عن الصراع الدائر في أرض المعركة، لقد أصبحت الكلمة والصورة والإنسان، مرادفات حقيقية للدم والصاروخ والبطش الإجرامي الأعمى.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات