عندما يحرّم بعضهم المظاهرات

صحيفة الدستور الأردنية

في مثل هذا الوقت من العام الماضي، وأثناء موجة المظاهرات المناصرة لأهلنا في قطاع غزة والتي كانت العامل الأهم في فك الحصار وفتح معبر رفح لبعض الوقت، خرج بعض مشايخ السلفية التقليدية، لاسيما في مصر والسعودية بفتاوى تحرّم المظاهرات، حيث ذهب بعضهم إلى أنها بدعة لم يستخدمها الصحابة، مضيفين بعض الآراء حول أضرارها، وهو ما تكرر هذه المرة في مواجهة أكبر هبّة جماهيرية في تاريخ الأمة كلها نصرة لمعركة غزة.

هذا لون من الفقه البائس الذي ينتشر في بعض الأوساط ويتميز بخاصيتين: الأولى محاولة جعل الحياة أيام النبي عليه الصلاة والسلام بكل تفاصيلها حكماً على واقعنا المعاصر من دون أخذ تحولات المكان والزمان في الاعتبار، أما الخاصية الثانية فتتمثل في البحث عن فتاوى ترضي الحكام وتحرم أية ممارسة من شأنها أن تسبب لهم الإزعاج، أي إزعاج، بدءاً من حكاية الخروج عليهم، مروراً بالمظاهرات، وليس انتهاءً بانتقادهم أمام الناس.

واللافت أن بعض الحكام يبدون أكثر رأفة بالناس من هؤلاء، إذ يشرّع بعضهم الأحزاب والانتخابات والبرلمانات، كما يضعون القوانين المنظمة للاعتصامات والمظاهرات، على رغم أن بعضها أو كثيراً منها ينطوي على احتجاج على سياساتهم الداخلية والخارجية.

تزداد سخرية العقلاء من أصحاب هذا الفقه حين يضيفون إلى رؤيتهم الدينية في رفض المظاهرات والنشاطات السلمية المشابهة حججاً واقعية وسياسية، إذ يتساءلون بذكاء يحسدون عليه عن فائدتها، في ذات الوقت الذي يبالغون في قصص الدماء التي تسفك بسببها، مع أن الأولى بهم أن يدينوا الرد على الاحتجاج السلمي بالرصاص.

هذه المسائل لا صلة لها بالعبادات التي يحسن الحديث فيها عن البدع، بل هي من الوسائل التي يدير الناس بها حياتهم بحسب تطورات الزمان والمكان، وهي في حقيقتها جزء من أدوات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي ورد فيها حشد هائل من الآيات والأحاديث ووقائع السيرة والتاريخ. أما التقييم الواقعي لما تحققه من مصالح ومفاسد، فيختلف بين حالة وأخرى يقدرها أهل الرأي السياسي الذين ليس من بينهم أقوام لا يقرؤون الصحف ولا يعرفون شيئاً في قضايا السياسة وموازين القوى والعمل العام، حتى لو كانوا من أهل العلم بالقضايا الشرعية التقليدية.

هل يعرف هؤلاء أن ثمة شعوباً حققت من خلال الاحتجاج السلمي إنجازات هائلة وصلت حد التحرر من الطغاة، كما هو حال إيران وعدد من دول أوروبا الشرقية وإندونيسيا وسواها من الدول، كما حققت إنجازات أقل في سياق منع بعض القوانين والقرارات الظالمة، بما في ذلك مسائل تتصل بالعدوان على الدين في العديد من الدول، فضلاً عما تنطوي عليه تلك الاحتجاجات والمسيرات من دعم معنوي للمجاهدين والمستضعفين هنا وهناك؟

إنها مسائل ليس فيها نص، وليس من الضروري أن يتوفر ما يتطابق معها أو حتى يشبهها أيام الصحابة حتى نأخذ بها، مع العلم أن رفض هؤلاء للممارسات التي لم تكن متوفرة أيام النبي عليه الصلاة والسلام لا يطبق إلا على الناس، ولا ينسحب على ممارسات الحكام.

لماذا يستخدم هؤلاء سماعات المساجد والموبايلات وكل مقتنيات الحضارة الحديثة والكثير من صيغها في الاجتماع البشري مثل إقامة المراكز (الدعوية) وتشكيل الهيئات واللجان، بينما يرفضون استخدام ما تعارف عليه البشر في توصيل صوتهم للمسؤولين، بما في ذلك ما أقره “ولاة الأمر” الذين ينادون بطاعتهم “في المنشط والمكره”؟.

هؤلاء يميتون علينا ديننا ويشككون في صلاحيته لكل زمان ومكان، ويعبّدون الناس للحكام، حتى من دون أن يطلب منهم ذلك، إذ يفعلونه على سبيل التملق وكسب الرضا والحصول على رخصة النطق باسم الدين، واستبعاد آخرين يظهرون قدراً من المعارضة في بعض الأحيان.

لسنا ممن يدعون إلى الخروج على الحكام، والأمة حين تعارفت على رفض الخروج على حكام الجور لم تقل إن الرأي الآخر كان حراماً، ربما باستثناء الحنابلة، بل لأن مفاسده أكبر من مصالحه، وإلا فأين نضع الحسين وعدداً من كبار الصحابة (عشرين بحسب ابن حزم) الذين اقروا ذلك، فضلاً عن جحافل من العلماء من بينهم أبو حنيفة والإمام مالك؟

الحمد لله أن قلة فقط هم من يستمعون إلى هؤلاء، ربما لأن أكثرهم لم يستمعوا إلى سواهم حتى يمكنهم التمييز بين الغث والسمين.