الخميس 08/مايو/2025

فشل الحرب على غزة والاستثمار العربي

فشل الحرب على غزة والاستثمار العربي

صحيفة الخليج الإماراتية

بات من المؤكد الآن أن الحرب “الإسرائيلية” على غزة ليست عملية محدودة أو تكتيكية. صحيح أن الأهداف لم تكن معلنة بوضوح لكن سبب ذلك مقصود لإيهام الفرقاء والرأي العام العربي والدولي بأن المطلوب ببساطة هو إخماد صواريخ حماس. إلا أن هذا المطلب الذي يظهر محدوداً وجزئياً لا يتحقق أصلاً إلا بتغيير الأوضاع في غزة كما قالت وزيرة خارجية العدو تسيبي ليفني مع بدء العمليات الحربية.

لقد أعدت “إسرائيل” نفسها لهذه الحرب عبر سياسة الحصار الطويل للقطاع وعبر التوقيت الذي يفيد من المرحلة الانتقالية في الإدارة الأمريكية وتمهيد الأوضاع ميدانياً أمام الإدارة الجديدة.

سبق ل “إسرائيل” أن انسحبت من قطاع غزّة لأنه يمثل كرة من اللهب في يديها وهي ليست راغبة أصلاً باحتضان هذه القنبلة الديمغرافية ذات النضالية العالية. لكن العودة إلى غزة الآن بهدف كسر شوكة المقاومة وإرادة وقدرة القتال لدى الطرف الفلسطيني تمهيداً لحلول سياسية تصفوية. من الواضح أن السياق العام للتعاطي هو تفكيك المشروع الفلسطيني ومنعه من بلورة هويته الوطنية وكيانه المستقل. كل الإجراءات التي تجري في الضفة الغربية بعد “أوسلو” تؤكد ذلك. لقد ازدادت المستوطنات والحواجز الأمنية وتمت عملية ترويض واسعة لحركة المقاومة في الضفة خاصة بواسطة السلطة نفسها. خلال سنوات “أوسلو” كل السياسات “الإسرائيلية” التي جرى اعتمادها تظهر أن “إسرائيل” ليست جاهزة لعملية السلام وهي لم تطبق اتفاق “أوسلو” بل هي ضربت بعرض الحائط كل المبادرات التي تشكل تمهيداً لعملية السلام بما في ذلك مبادرة السلام العربية منذ العام 2002.

يتحصل معنا أن الحرب على غزة هي خطوة على طريق خلق وقائع جديدة لا تسمح للعرب أن يمارسوا ضغوطهم في اتجاه التقدم على طريق المفاوضات.

إن التدمير المنهجي لمقومات الحياة في قطاع غزة كان مقصوداً ومعه المذابح البشرية لإيقاع أكبر قدر من الخسائر في المدنيين ولإرهاب سكان القطاع وإغراقه في المهمات الإنسانية على حساب روح المقاومة.

في واقع الأمر تعرف “إسرائيل” أن أمام الإدارة الأمريكية الجديدة عدّة ملفات يتم من خلالها استنزاف هيبتها السياسية ومشروعها وفي مقدمة ذلك ملف القضية الفلسطينية الذي يشكل أولوية لدى أصدقائها العرب. لذلك كانت مبادرة “إسرائيل” لخلق أوضاع جديدة على صعيد القضية الفلسطينية يمكن من خلالها تبويب مشاريع الحلول السياسية المطروحة. وهنا بالذات يبدو أن حل الدولتين الذي صار متداولاً وملتزماً به من قبل الإدارة الأمريكية ولدى مختلف الأوساط الدولية وكذلك العرب لم يعد في المنظور “الإسرائيلي” مقبولاً. أن اتجاهات الرأي داخل كيان العدو تذهب في التطرف أبعد من ذي قبل. لقد تم إنهاء دور حزب العمل التاريخي لمصلحة الحركات الأكثر يمينية من الليكود حتى كاديما. كما أن هناك تطلعاً جديداً نحو بلورة مشروع يهودية الدولة، الأمر الذي يهدد مباشرة وجود ومستقبل عرب 1948/ وقد أعلنت ليفني صراحة أنها ترغب في إحداث مثل هذا التغيير الديمغرافي. في واقع الأمر هذا من تجليات مأزق المشروع الصهيوني أصلاً. لكن بدلاً من أن يتجه هذا المشروع للتكثيف مع المعطيات الجديدة ولا سيما التوسع الديمغرافي الفلسطيني يذهب في اتجاه الهروب إلى الأمام عبر تعميق السياسة العنصرية.

على ضوء هذه الوقائع يمكن فهم طبيعة الحرب على غزة. لكن ما لا يدركه هذا العدو أن ليس أمام الطرف الفلسطيني سوى المقاومة. وأن محاولة إحداث شرخ فلسطيني بين الضفة والقطاع أو بين المدنيين والمجاهدين هو أمر متعذر خاصة بعد اختبار طبيعة الأهداف وانسداد آفاق أية تسوية سياسية فيما يطرحه العدو.

إن فشل العدوان في تحقيق أهدافه السياسية بعد أسبوعين من القصف الهمجي هو الذي استولد القرار 1860 لأن ما يحصل أمام الرأي العام العالمي بات عبئاً ثقيلاً على سياسة جميع الدول. لقد بدا أن هذه الحرب تطاول بصورة رئيسية المدنيين وأن قسماً أساسياً من ضحاياها هم الأطفال.

لكن القرار 1860 لم يعالج ولم يلامس أصل المشكلة، بما هي مشكلة احتلال ومقاومة. لقد تحدث عن إطلاق النار بصورة عامة وأدان ضمناً المقاومة نفسها بالحديث عن العنف والإرهاب. ولم يشر إلى الطرف السياسي الفلسطيني في هذه المواجهة بل شدد على ضرورة محاصرته عسكرياً بمنع تسرّب السلاح إليه في حين كان عليه أن يعترف بشرعية المقاومة ضد الاحتلال ويركز شرعية القرار على إدانة أعمال الاحتلال وأن يسمي الاحتلال باسمه. لكن رفض “إسرائيل” لهذا القرار جاء على خلفية أنه لا يعطيها مكاسب سياسية عجزت عن تحقيقها في الميدان. لذا نجدها بادرت إلى ما أسمته إطلاق المرحلة الثالثة من الحرب وكأنها بذلك تريد تحقيق بعض المكاسب التي تسمح لها بتبرير حربها أمام جمهورها. وبالفعل أفسح القرار الدولي لها هذه الفسحة الزمنية لأنه لم يحدد آليات ووسائل تنفيذ القرار وترك الأمر للتفاوض وهذا هو سبب تحريك المبادرات السياسية نحو إيجاد آليات تنفيذ الهدف منها عدم إعطاء حركة حماس شرعية مطلقة لإدارتها قطاع غزة، ومن خلال ذلك خفض أهمية المقاومة التي أبداها القطاع بدلاً من الانطلاق من هذه المقاومة وهذا الصمود لتطوير البرنامج العربي والفلسطيني للتفاوض.

في مطلق الأحوال أسقط صمود قطاع غزة المشروع “الإسرائيلي” الهادف إلى تصفية القضية الفلسطينية وعادت قضية فلسطين قضية مركزية ملتهبة على مستوى الشارعين العربي والإسلامي وفي أوساط شعبية عالمية. ما هو مطلوب الآن إعادة صياغة البرنامج الوطني الفلسطيني لمواجهة المرحلة المقبلة من المناورات السياسية للعدو ولحلفائه الدوليين. ولا بد لهذا البرنامج من أن يأخذ بنظر الاعتبار المخرج بين منجزات المقاومة وثوابت النضال الفلسطيني في التفاوض بعد تطهير التفكير الفلسطيني مما علق به من أوهام جراء المرحلة السابقة ولا سيما كل ما يتعلق بتجربة السلطة تحت الاحتلال.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات