الخميس 08/مايو/2025

الضمير العالمي في مواجهة إسرائيل

الضمير العالمي في مواجهة إسرائيل

صحيفة الخليج الإماراتية

بعد أيام طويلة بلياليها الحالكة من القصف والدمار والقتل والتشريد الذي مارسته وتمارسه آلة القتل “الإسرائيلي”، لا يزال العالم غير قادر على التدخل من أجل وقف حرب الإبادة التي تمارسها الإدارة الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني المحاصر في غزة الشهيدة. فعلى الرغم من الدعوات الدبلوماسية التي تدعو، باحتشام كبير، إلى الكف عن استعمال ما يسمى القوة المفرطة ضد المواطنين العزل، فإن حملات الاستنفار العربي والعالمي لا تزال منصبة حتى الآن على حشد المساعدات الإنسانية للجرحى والمنكوبين في غزة في سعي مفضوح من مختلف الأطراف من أجل حفظ ماء الوجه لدفع تهمة التقصير وربما التواطؤ مع حملة صهيونية تريد كسر إرادة المقاومة والعيش الكريم لكل أبناء الشعب الفلسطيني.

ويتضح هذا التهافت العالمي في الدفع باتجاه مواقف تدعم الأقوال والتمنيات على حساب الأفعال والتحرك العاجل من أجل وقف مجازر غزة، من خلال التصريحات الداعية إلى ما يسمى “هدنة مؤقتة” من أجل إدخال المساعدات الإنسانية إلى المحاصرين في غزة، وكأن العدوان “الإسرائيلي” يدخل في خانة المسلمات والبديهيات التي لا تحتاج سوى إلى “فترة قصيرة” من وقف العمليات العسكرية لإعادة “تأهيل” السكان ليجابهوا الموت ببطون ممتلئة، ولحفظ عاهات من سيُقدر لهم النجاة من الموت المتربص بهم في كل شبر من تراب غزة التي ضاقت أرضها بما رحبت.

ولأن الحديث عن التصريحات العربية يدخلنا عُنوة في أبجديات المزايدة على المواقف بين الدول المصنفة في خانات وتسميات بلاغية لم تعد تستجيب لخطورة المرحلة وهول الكارثة، خاصة حينما يتعلق الأمر بنظام عربي لم يتوصل حتى الآن لأن يُوجد لنفسه موطئ قدم في هذا النظام العالمي الجديد، فإن الحديث عن فحوى ومضامين المواقف العالمية من مجازر غزة يمثل، في اعتقادنا، صرخة واستدعاء للضمير العالمي الذي ما فتئ يرفع عصا الحرية وحقوق الإنسان في وجه “المارقين” والرافضين لعدالة دولية تمتهن الكيل بمكيالين وتسترخص دماء الشعوب المستضعفة التواقة إلى التحرر من التبعية والاستعمار.

فلم تتمكن الدول الغربية والأوروبية وحتى الآسيوية، التي سبق أن حصلت من الرأي العام العربي على شهادة حسن السلوك بدعوى اتزان مواقفها من القضايا المصيرية للشعوب العربية والإسلامية، من اختراق عتبة التنديد والدعوة السلبية لمختلف “الأطراف” من أجل وقف ما يسمى التصعيد والعودة إلى الهدنة والحوار، فقد اتسم الموقف الروسي بالكثير من البرودة تجاه ما يقع في غزة، بل لجأت قوات الأمن الروسية إلى قمع تظاهرة منددة بجرائم الاحتلال “الإسرائيلي” في غزة. أما الموقف الفرنسي فلم يختلف كثيراً من حيث العمق حتى إن حاول الرئيس الفرنسي أن يعطي مسحة إنسانية لمبادرته الداعية إلى تهدئة مؤقتة في غزة في فترة شهدت فيها أوروبا انتقال رئاسة اتحادها من فرنسا إلى تشيكيا المعروفة بولائها التقليدي ل”إسرائيل” وللّوبي اليهودي، مثلها في ذلك مثل بقية دول أوروبا الشرقية التي ما فتئت تعرقل كل محاولة أوروبية جادة تهدف إلى التخلص من الهيمنة الأمريكية.

وفي الوقت الذي دعا فيه الكثير من البرلمانيين الأوروبيين منذ فترة طويلة إلى ربط مسلسل العلاقات الاستراتيجية مع “إسرائيل” بمستوى التقدم في العملية السلمية، فإن بريطانيا وفرنسا سارعتا في وقت سابق إلى دعم مسيرة التعاون مع الكيان العبري رغم التحفظات التي أبدتها الكثير من الحكومات الأوروبية مثل حكومة البرتغال بالإضافة إلى الدول الاسكندنافية وعلى رأسها السويد والنرويج.

وعليه فلم يستطع الرئيس الفرنسي ساركوزي أن ينكر على “إسرائيل” ما سماه حقّها المشروع في الدفاع عن نفسها بعد استقباله وزيرة خارجية حكومة الاحتلال، أما الموقف البريطاني فلم يخرج هو الآخر عن صيغة الدعوة المحتشمة إلى وقف العنف استجابة لضغوط الجاليات العربية والإسلامية في المملكة المتحدة. والموقف نفسه نجده على مستوى تصريحات الناطقين الرسميين في بعض الدول الآسيوية مثل الصين، التي اكتفت هي الأخرى بالدعوة إلى وقف الهجوم على غزة، ولم تترجم أقوالها بتحركات جدية هادفة إلى وقف المجزرة في غزة، رغم المصالح الكبرى التي تمتلكها الصين في مجموع الدول العربية. أما الأمم المتحدة فقد قامت بإصدار قرار غير ملزم يساوي بين المعتدي والمُعتدى عليه حفاظاً على مشاعر الصهاينة بوصفهم يمثلون الضحية الأبدية للغرب، أما الضحايا الجدد فهم مجرد ظلال باهتة للضحية الأصلية التي تنتمي إلى عالم المثل الأفلاطونية. وذلك في الوقت الذي اكتفى فيه أمين عام هذه المنظمة، المدافعة عن حقوق الأقوياء والسالبة لحقوق الضعفاء، بشجب درجة القوة وكأنه يعطي بذلك الحق ل”إسرائيل” في استعمال القوة ضمن شروط يمكنه أن يتفضل بتحديد مواصفاتها لاحقاً، بعد أن يسيل دم كثير، وتُزهق أرواح الأبرياء من أبناء الشعب الفلسطيني.

ويبقى الصمت الأمريكي في مثل هذه الأحداث أفضل بكثير من كلامها لأنها لا تنطق إلا كفراً، كما يظل الضمير العالمي يُمثل الضحية الأولى في مسلسل هذه الأحداث الدامية بعد أن فقد قدرته على مجابهة ضغوط اللوبي اليهودي في العالم، خاصة أنه كان ولا يزال يُعبر عن ضمير أجوف، يحرص، أولاً وقبل كل شيء، على إدانة جرائم من دُفنوا في مزبلة التاريخ، ويسكت بصفاقة واستهتار على المجازر المقترفة في حق الأحياء. وكأننا أمام مشهد سوريالي لضمير يفتقد المروءة والشرف والأخلاق، ويريد أن يبعث الحياة في القبور من يوم عاد، ويذرف دموع التماسيح على ضحايا النازية والستالينية، بل يرتقي، على سبيل المثال لا الحصر، بحروب وتجاوزات العثمانيين على الأرمن إلى مستوى المجازر والإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، ولكنه يُصرّ على التعامل مع مجازر “الضحية الأبدية” بوصفها دفاعاً “مشروعاً” عن النفس. وهكذا فحينما تضيع القيم، ويموت الضمير العالمي، يُصبح الدفاع عن حق الشعوب في الكرامة والحرية “بدعة” ضالة ينبري إلى محاربتها المرتزقة من كل أصقاع العالم.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات