الخميس 08/مايو/2025

التوغل والتغول

التوغل والتغول

صحيفة العرب القطرية

هذا التوغل الإسرائيلي في غزة والذي يأتي للمرة المائة منذ امتُحنت الأرض المقدسة بآخر مغتصبيها في القرن الـ20، انطوى على أهداف لم تعد تخفى على أحد، إلا على أولئك الذين اشترت الأموال الصهيونية ضمائرهم فراحوا يهذون بما لا يفقهون. الانتخابات الإسرائيلية القادمة هي إحدى هذه الأهداف المسطحة البسيطة، لكن الأهداف الحقيقية تنطوي على جملة من الحقائق المخيفة، والتي من أولها، وكما قال كثيرون، النية في تصفية القضية (حتى حين!)، وذلك عن طريق هذا الذبح الوحشي المبالغ في القسوة والذي طالما شهدت البشرية من أمثاله مراراً وتكراراً في القديم وفي أيامنا النحسات هذه، كلما أرادت الأغوال من الغزاة المستعمرين أو من المستبدين الظالمين التمكن في جغرافية مغتصبة أو حق مغتصب، رآه العالم وفي بث حي ومباشر: أيام البوسنة والهرسك السوداء، وأيام الانتفاضة الأخيرة الحمراء، ولدى الغزو الساحق للعراق، وأثناء انسحاب الجيش العراقي من الكويت إبان تلك العملية الفاجرة التي دفعه إليها صَدّامه. كما رأينا وعشنا وسمعنا عن مثله وعن أعظم منه في العمليات التي لا تقل عن هذه قبحاً وإجراماً والتي شهدتها الشعوب في المنطقة العربية من أقصاها إلى أقصاها على أيدي جلاديها من بعض حكامهم، كلما أرادت هذه الشعوب أن تتنفس حرية أو أن تُعبر عن رفض أو أن تحاول تغييراً!

تريد “إسرائيل” من خلال توغلها الأخير هذا حشر الشعب الفلسطيني في نفق اليأس المطبق ليندفع باتجاه المعابر المغلقة فراراً بالروح والعرض من هذا الجحيم نحو مصر أو الأردن، حتى تصبح الإرادة الإسرائيلية السياسية -في المرحلة الراهنة- واقعاً على الأرض يفرض نفسه، بضم غزة إلى مصر والضفة إلى الأردن، وهكذا تستطيع “إسرائيل” أن تضرب 30 عصفوراً بحجر واحد أو على الأدق بطيارات الأباتشي الأميركية! لترتاح من عناء الممانعة الفلسطينية والعربية ربع قرن على الأقل ريثما تستعيد أنفاسها وهيبتها وسمعتها لتستأنف عمليات التوسع شرقاً وغرباً في المنطقة نحو الفرات والنيل! وفي هذه الخطة السخيفة تتوقع “إسرائيل” القضاء على السلطة الفلسطينية والتخلص التام من تعبير «الدولة الفلسطينية.. وعاصمتها القدس الشريف»! وترك هؤلاء الفلسطينيين «المتمردين» تحت سلطة أشقائهم العرب ليفعلوا بهم ومعهم ما دأبوا على فعله بإخوانهم الذين سبقوهم إليهم في الهجرة والتشرد! وتستطيع “إسرائيل” في الوقت ذاته رسم حدودها «الحالية- المرحلية» بجدار العار والخزي الذي تبنيه بدأب وإصرار ووعي تام لما سيترتب عنه في قادمات الأيام: الفلسطينيون يمكن أن يجدوا في المملكة الأردنية وطناً بديلاً! ويُلحق هذا القطاع غير المطواع بمصر ليتم تطويعه على أيدي الإخوة الأشقاء! إلا أن حسابات «البيدر الإسرائيلي» هذه المرة لم تنطبق على حسابات «الحقل العربي» الرسمي والشعبي، إضافة إلى دخول تركيا إلى الساحة ولأول مرة منذ 80 عاماً كلاعب متميز شديد الخطورة. ودخول تركيا ليس بالأمر السهل ولا الذي يمكن المرور عليه مرور الكرام، لا بالنسبة ل”إسرائيل” ولا بالنسبة للنظام العربي الذي وجد نفسه محصوراً بين إرادة الشارع، ودولتين عظميين إسلاميتين في المنطقة مستعدتين كلتاهما بطريقة أو بأخرى لاستلام مهمة الدفاع عن الشعب الممتحن والحق المغتصب في فلسطين، في ظل هذا التهاون الفاضح المشين من الأنظمة والشعوب «العربية».

هذا التوغل بهذه الخطة الغبية إذن كان لا بد معه من ذلك التغول، تغول وحشي دموي يمارسه ساسة دويلة طالما حكمتها شرذمة من مجرمي الحرب من الإرهابيين الصهاينة الذين يستمدون قوتهم وشراستهم من الستة ملايين يهودي المقيمين في الولايات المتحدة الأميركية يحكمون العالم من خلال نيويورك وواشنطن وهوليوود، أي عن طريق التحكم بالمال والسياسة العسكرية والإعلام. هذا البطش المريع بالإنسان الغزاوي الهدف منه تحويل الشعب الفلسطيني إلى مجموعة من البشر البائسين الهائمين على وجوههم في الأرض، غارقين بآلامهم وفظاعات انتهاكات الكرامة التي لحقت بهم، وهم يرون الهول والموت والدمار، تجويع وتقطيع وتشنيع وتركيع، وكسر للإرادة والعزة الإنسانية في نفوس الناس، يريدون لهم أن يصبحوا شعباً من المتسولين الذين يعتادون مدّ أيديهم للآخرين في قهر وذل، فلا يستطيع الآباء أن يورثوا أبناءهم بعدها روح المقاومة والصمود والتحدي التي استطاع الشعب الفلسطيني في معظمه الحفاظ عليها حتى الآن رغم كل السياسات العربية والإسرائيلية المصممة على قتلها في نفسه وخلال مائة عام، على غرار ما حدث مع بعض الشعوب في بعض بلدان المنطقة!

يحتاج العالم بين الحين والحين -كما بدا- إلى زلزال مروع من هذا النوع ليستيقظ ضميره، فتعود الأمور إلى نصابها لدى الرأي العام العالمي. لقد انقلب السحر الإعلامي الإسرائيلي على الدولة الصهيونية المعتدية، وباءت بالفشل كل جهود سفراء “إسرائيل” في العالم والذين يجوبون وسائل الإعلام الغربية في محاولات يائسة سفيهة وقذرة منهم لغسل وجه دولتهم النازية الوحشية المجرمة، لم تصمد ادعاءات سفراء “إسرائيل” في لندن وباريس ومدريد أمام دماء الفلسطينيين وأشلائهم وجثث أطفالهم وأكوام لحم رجالهم من رجال الشرطة والإطفاء والخدمات المدنية الذين يعتبرون في عرف كل قوانين الأرض مدنيين لا يجوز التعرض لهم بسوء.

لقد أدت الأعمال الإرهابية الغبية التي قامت بها «القاعدة» –إن كانت القاعدة تنظيماً حقيقياً أصلاً!- إلى سحب البساط من تحت أرجل المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق، ولم تؤذ المقاومة قط بمثل ما أوذيت به بسبب تفجيرات 11 سبتمبر وما لحقها من تفجيرات في أوروبا، ذلك أنها قدمت للدولة الصهيونية ومجاناً وعلى طبق من ذهب رؤوس المقاومة الجهادية المشروعة في طول العالم وعرضه، وأصبحت مقاومة العدو على الأرض التي احتلها بالإرهاب إرهاباً! ولتطلع «إسرائيل» على العالم بأنها ضحية لهذا الإرهاب الممتد من تورا بورا إلى الدار البيضاء، إلا أن صمود المقاومين في كل من فلسطين ولبنان على وجه الخصوص ومن ورائهم شعوبهم الممتحنة المرابطة، وتمدد الصحوة الإسلامية في أرجاء الأرض، وثبات كلتا الجهتين في وجه هذا المسلسل من التوغلات والتغولات، جعل المسألة برُمتها تعود إلى نقطة البدء الرئيسة: عدوّ محتل مجرم وشعوب مقاومة مناضلة ممتحنة.

يبدو من المضحك فعلاً أن تتهم «حماس» بأنها المتسببة في هذه المذبحة التي يعيشها العالم اليوم، فرغم الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها الحركة كغيرها من حركات التحرر والمقاومة في العالم، فإن المقاومين الغزاويين لم يحسنوا البحث عن مخرج آخر أمام كل هذا الحجم من شراسة وتغول العدو الذي قطع عن شعب غزة أسباب الحياة، وسدّ عليه بتواطؤ عربي وعالمي منافذ رحمة البشر، يبدو من المضحك أن يردد أحد مثل هذا الاتهام في سياق تاريخ رنان لمجرمي الحرب الإسرائيليين داخل وخارج فلسطين، بل في عقر دار أوروبا التي رحّلتهم عنها وأرادت التخلص منهم بمنحهم أوطان الآخرين ليقيموا فيها دولتهم الإرهابية. لقد انتهت ألوية «المقاومة» في المنطقة العربية وفي مرحلة ما بين القرنين إلى حركات الجهاد الإسلامية، لأن انتفاضة الـ 96 كانت قد غيرت معالم اللعبة، وأعادت القضية الفلسطينية إلى الإطار الفلسطيني الشامل بعد أن كانت قصراً على السلطة الفلسطينية في مرحلة «أوسلو» التي نقض بنيانها «ياسر عرفات» نفسه بثباته الهائل، حتى إنه يمكننا القول إن الرجل كان قد قضى نحبه دون القدس الشريف ودون أن يستطيع لا كلينتون ولا باراك ولا كل الإغراءات ولا التهديدات أن تنتزع منه توقيعاً أو كلمة واحدة يتنازل فيها فيما يخص القدس الشريف.

لقد عادت القضية إلى بُعدها العربي، وأصبحت من جديد قضية الشارع العربي وهمه الأول، وأعادت الصحوة الإسلامية فلسطين إلى حضنها الإسلامي حيث ما كان يجب أن تخرج منه أبداً.

من جديد أحيت دماء الفلسطينيين الحياة فينا حكاماً ومحكومين، من جديد علمنا الفلسطينيون كيف نقف على أقدامنا بعد طول ضياع وهيام على وجوهنا، من جديد لم يتمكن التوغل الإسرائيلي الحاقد من فرض سياسات الأمر الواقع على الفلسطينيين، كما لم يستطع تغوله الدموي الوحشي أن يزحزحهم عن التمسك بحقوقهم، من جديد وحّد الدم الفلسطيني العرب من المحيط إلى الخليج، ومنحهم فرصة جديدة للتفكير في الموضوع الإيراني. ولكن الأخطر والأكثر إثارة للدهشة هو قدرة هذه الدماء والأشلاء المقدسة على إحياء أمة راهنت كل الأرض على انتهائها وموتها وتفسخها، وليس إحياءها فحسب بل بعث الضمير العالمي من هجعته، حتى رأينا رئيساً لاتينياً في فنزويلا يطرد السفير الإسرائيلي انتصاراً لآلام المعذبين، ولاعب كرة قدم من مالي يرفع في مدريد شعار تضامن مع الشعب المذبوح، وخرجت الجماهير التركية التي طالما أبعدت عن هذه الأمة لتهتف وكأنها الأمة وكأنها صوت القدر الآتي بأيدي الأحرار الشرفاء من كل أطراف الأرض ليغير ما بنا من ذل وهوان وليرسل للصامدين المرابطين الممتحنين من أهل فلسطين رسالة أمل بأن التغيير قادم رغم أنف توغلات الحقد وتغولات الحاقدين.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات