الخميس 08/مايو/2025

الصمت الدولي عن الممارسات الإسرائيلية يشكل وصمة عار في جبين الإنسانية

الصمت الدولي عن الممارسات الإسرائيلية يشكل وصمة عار في جبين الإنسانية

صحيفة القدس العربي اللندنية

ستة عقود شهدت إخفاقات عديدة في حالة حقوق الإنسان

ستون عاماً مرت في 10 كانون الأول (ديسمبر) الجاري على إقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 1948 “الإعلان أو الميثاق العالمي لحقوق الإنسان”، كنص مؤسّس يُجسّد خلاصة التطور الإنساني ومستخلصاً العبر من تاريخ طويل حافل بالمظالم وحروب طاحنة أشبعت الإنسانية هلاكاً وتدميراً، وبخاصة الحربين الكونيتين، وما رافقهما من ويلات وكوارث، وكان يراد لهذا “النص” أن يكون مُلهماً لحقبة جديدة، من تطور القانون الدولي، ليكتسي البعد الإنساني، غير أن الهدف المنشود منه بقي مثار جدل وبعيداً عن المنال، وبإقرار منظمة العفو الدولية بتقريرها الصادر بالمناسبة 2008 فإن العقود الستة المنصرمة من عمر الميثاق شهدت “إخفاقاً” في حالة حقوق الإنسان في العالم، تمثل بالأوضاع المأساوية لحقوق الإنسان في فلسطين والعراق ودارفور وميانمار وغزة وغيرها، بل إن منظمة العفو طالبت زعماء العالم أن يقدموا (اعتذاراً) عن ستة عقود من الإخفاق في مجال حقوق الإنسان!.

الإعلان العالمي سكت عن حق الشعوب في تقرير المصير

ولعلها المأساة أن تكون الدول التي صاغت “الميثاق العالمي لحقوق الإنسان” هي ذاتها القوى الغربية الضالعة في الاستعمار(!!) والتي خرجت منتصرة من الحربين الكونيتين، وهي التي كانت (وما زالت) تمارس سياسات انتهاك حقوق الإنسان، وتصادر حق الشعوب الأخرى في الحرية والانعتاق، ولهذا وجدنا المؤتمر الأول المؤسّس لحركة عدم الانحياز المنعقد في باندونغ 1955 (نهرو، عبدالناصر، سوكارنو، تيتو) يرفض الإعراب عن أيّ دعم سياسي للإعلان، لأنه سكت تماماً عن “حق الشعوب في تقرير مصيرها”، واكتفى بالقول “إن البشر يولدون أحراراً ومتساوون في الكرامة والحقوق”، ولم يطالب الإعلان بحق الشعوب المحتلة في الاستقلال!!

واكتفى أن يُعدّد في ثلاثين نقطة الحقوق الإنسانية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية غير القابلة للتجزئة. وبالرغم من أن وثيقة 1948 هي ليست (النموذج الأمثل) الذي كانت تتمناه شعوب الأرض (وبالأخص تلك التي عانت طويلاً من الاستعمار والاضطهاد) وليست بالقدر الكافي لتمثيل حصيلة إنسانية مشتركة حول العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ولم تكن الوثيقة خالية من الثغرات التي ترقى إلى مستوى المساوئ البنيوية. ولكن.. في المقابل، لا يمكن أن ننكر البتة محاسنها، والتذكير بأنها كانت خطوة أولى على طريق صياغة تعاقد إنساني عالمي يؤطر حقوق الإنسان، كما أنها استفادت من التراث الإنساني المتصل بشرعة حقوق الإنسان، وبخاصة من الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان 1789 وإعلان الاستقلال الأمريكي 1776، ولا يمكن تغافل حقيقة أن الشريعة الإسلامية التي ألهمت الكثيرين من الأدباء والمفكرين ومنظري حقوق الإنسان في مدى احترامها لحقوق الإنسان.

الغربيون قاوموا فكرة تحويل الإعلان إلى أداة قانونية ملزمة

الديمقراطيات الغربية من جهتها كانت (تقاوم) فكرة تحويل الإعلان إلى “أداة قانونية ملزمة” خشية أن تستخدمه الدول المُستَعْمَرَة ضدّها، وهذا ما أرجأ إلى 1966 إقرار الأمم المتحدة لميثاقين ملزمين يشكلان مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أساس شرعة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وبالرغم مما ينطوي عليه هذا النص من نقاط التباس ومن الأفكار المُضْمَرَة التي كانت خلف صياغته، فهو يبقى بحسب القانوني الفرنسي رينيه كاسان الذي شارك في وضعه “أول إعلان أقرّته البشرية بصفتها كياناً منظماً”. والإعلان الذي لا طابع إلزامياً له ألْهَمَ كل المواثيق الدولية فيما بعد الحرب، ويعدّ بصورة عامة أساساً للقانون الدولي في مجال حقوق الإنسان. فقد كان هو المصدر الأول المباشر للمعاهدة الدولية ضد التمييز بحق النساء عام 1979 والمعاهدة الدولية ضد التعذيب عام 1984 والمعاهدة الدولية لحقوق الطفل عام 1990 وإنشاء المحكمة الجنائية الدولية عام 1998.

البشرية بلغت سن الرشد والضمير الجمعي للجنس البشري اجتاز مرحلة النضج

لقد جاء هذا الإعلان العالمي ليشكل الأساس القانوني الدولي لكل التشريعات المتعلقة بهذا الجانب والمرجعية الفقهية لكل الاتفاقات الدولية التي زادت عن ثمانين اتفاقية حيث وقعت عليها معظم بلدان العالم وباتت ملزمة لها في هذا المجال الحساس والضروري لتقدم البشرية والحفاظ على السلم الدولي كما السلم الاجتماعي وغيره.

وبعد أن بلغت البشرية سن الرشد واجتاز الضمير الجمعي للجنس البشري مرحلة النضج، وفهم العالم خطورة انتهاك حقوق الإنسان وعقابيله الخطيرة على المجتمعات كما الدول وعلى الاقتصاد كما السياسة والسلم الدوليين، فإن بقاء الصمت الدولي أو بالأحرى بعض الدول النافذة كونياً عن ممارسات (إسرائيل) وانتهاكاتها لحقوق الإنسان يُشكل وصمة عار في جبين الإنسانية وانتكاسة كبيرة وفاضحة لكل ما مثلته وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من قيم كبرى، وعلى هذه الدول مراجعة مواقفها الآن. كما أن نهج الولايات المتحدة التي (تحت شعار الحرب الاستباقية ضد الإرهاب) جعلت من العدوان سياسة ثابتة لها من المنطقة، وبرفعها علم الديمقراطية كذباً، دمرت دولة مستقلة عضو مؤسس بالأمم المتحدة (العراق) وعملت وتعمل على تفكيكه وإثارة الحرب الأهلية بين أهله وقتلت مئات الآلاف من مواطنيه، وشاركت وتشارك في استباحة ونهب ثرواته الوطنية، وبموازاة ذلك، وبدعم أمريكي مكشوف، تقوم “إسرائيل” بالفتك بالشعب الفلسطيني عاملة على تحويل أرضه المحتلة إلى مكان يستحيل العيش الطبيعي فيه. ستون عاماً انصرمت على بزوغ وعي إنساني فذ، قرر وضع العالم على المحك الأخلاقي لضميره، مذكراً بالأخوة الإنسانية بين بني البشر، وبالأرضية المشتركة للكثير من مزاياهم الإنسانية، وبأن كرامتهم الآدمية واحدة في أصل النوع الإنساني، وبأن المبدأ الإنساني هو أساس العلاقة التي بينهم، وبأنهم شركاء لا محالة على هذه المعمورة وعليهم جميعاً تقع مسؤولية حمايتها، لما فيها من خيراتهم جميعاً.

ستون عاماً على صدوره، ولا يزال يلهم البشر بالشعور السوي تجاه بعضهم البعض، في أصالة الاختلاف، مهما كان مصدره، العنصر أو اللون والجنس أو الدين أو الفكر، أو ما شابه من مصادر الاختلاف، وبأن قيم العدل والمساواة، والحرية، قيم يجب أن لا تمس إلا بالمزيد من تعزيزها بينهم. ستون عاماً انتهت وعشرات الألوف من البشر “النشطاء” يسعون ويتحركون بفاعلية متزايدة كماً وكيفاً، وبكل إصرار وعدم فتور في سبيل نشر التعاليم والقيم المبدئية التي جاء بها “الإعلان” ليعم الأمن والسلم في كل العالم، ولتسود الشرعة والقانون في كل بلد وعلى جميع المواطنين دون تمايز أو خذلان لكرامتهم الآدمية. وما تزال البشرية تناضل لضمان الحقوق الأساسية للإنسان بوجه القوى المسيطرة داخل المجتمعات، أو لانتزاعها من هذه القوى التي تنتهكها، وكذلك بمواجهة القوى العالمية التي تصادر أو تنتهك حقوق الشعوب بالجملة.

كاتب عراقي أكاديمي

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات