عاجل

الثلاثاء 13/مايو/2025

السر الأميركي المكشوف في الاستيطان الإسرائيلي

السر الأميركي المكشوف في الاستيطان الإسرائيلي

صحيفة الوطن القطرية

إن المعركة لم تنته بعد حول ملكية بيت فايز الرجبي في الخليل الذي احتله المستوطنون اليهود العام الماضي بحماية وحراسة جيش الاحتلال الإسرائيلي قبل أن تخليه قوات هذا الجيش يوم الخميس قبل الماضي من المستوطنين لتقوم هذه القوات باحتلاله بدلاً منهم دون أن تسمح للرجبي بالعودة إليه، إذ أن محكمة العدل العليا الإسرائيلية التي حكمت بالإخلاء خلال ثلاثة أيام في السادس عشر من الشهر الماضي هي نفسها التي سوف تنظر في التنازع على ملكية البيت وليس مستبعداً أن تحكم لخصم صاحبه الفلسطيني لتأمر نهائياً بإخلاء الأخير وأسرته المكونة من ثمانية وعشرين فرداً معظمهم أطفال في المرة المقبلة، غير أن عدم تسليط أضواء الإعلام على حقيقتين في هذه المعركة قد غيب البعد الأميركي فيها وفي كل مشروع الاستيطان الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967.

وأولى الحقيقتين أن خصم الرجبي الذي يدعي ملكيته لبيته هو موريس أبراهام ذو الجنسية الأمريكية الإسرائيلية المزدوجة، وثانيتهما أن المنظمة الصهيونية الأمريكية قد تصدرت الدفاع عن موريس، وكانت في راس المحركين للمتطرفين اليهود (من مدرسة باروخ غولدشتاين الذي ارتكب مجزرة الحرم الإبراهيمي الشريف عندما فتح رشاشه فقتل تسعة وعشرين فلسطينياً وهم ركع سجد بين يدي الله عام 1994) لكي يتدفقوا على المنزل المحتل للاعتصام فيه تضامناً مع موريس الذي قدم من نيويورك خصيصاً للاعتصام فيه منعاً لإخلائه، كما كانت في طليعة المحرضين على مقاومة الإخلاء بالقوة وتحدي دولة الاحتلال ومحكمتها العليا، وفي حال تم الإخلاء فعلاً، وهو ما حدث، يجري الانتقام قتلاً وحرقاً وتخريباً من عرب فلسطين القاطنين بجوار البيت وفي مدينة الخليل، وهو ما حدث أيضاً، وبلغ التحريض بهذه المنظمة «الأمريكية» أنها قررت فتح مكتب لها في بيت الرجبي المحتل كان مقرراً أن تنظم احتفالاً بافتتاحه يوم الأربعاء قبل الماضي «لكي نجعل الحكومة (الإسرائيلية) تعرف» بأن هذا البيت «يجب أن يظل جزءاً لا يتجزأ من الخليل اليهودية، الآن وإلى الأبد»، كما قال جيف دايوبي مدير مكتب المنظمة في “إسرائيل”.

وهذا البعد الأميركي في معركة بيت الرجبي ربما يفسر الغياب اللافت للنظر لأي حضور سياسي أو قضائي أو أمني لسلطة الحكم الذاتي الفلسطينية في مسرح الحدث الذي اجتذب وسائل الإعلام طوال الأسابيع القليلة الماضية، فمفاوض منظمة التحرير الفلسطينية الذي يقود هذه السلطة لم يكتف بهذا الغياب بل إنه نظم «حملة أمنية»، صادف أنها كانت متزامنة، بالتنسيق مع قوات الاحتلال في محافظة الخليل لتجريد المواطنين من «السلاح» المتواضع «غير الشرعي» الذي حازه المقاومون منهم بشق الأنفس للدفاع عن أسرهم ضد أي عربدة مسلحة للمستوطنين مثلما حدث قبل إخلاء بيت الرجبي وبعده، مما تركهم مكشوفين تماماً يذودون عن أنفسهم بصدورهم العارية ضد الاعتداءات النارية عليهم ويراقبون بلا حول ولا قوة هجمات المستوطنين على أرواحهم وبيوتهم وأملاكهم ودور عبادتهم ومقدساتهم، بينما «اختفت» تماماً قوى أمن السلطة التي شنت هذه الحملة والتي تستهلك حصة كبرى من الميزانية الفلسطينية الشحيحة المرهونة لكرم «المانحين»، لتكتفي القيادة السياسية للسلطة بتحميل المسؤولية عن «جرائم» المستوطنين لحكومة الاحتلال ومناشدتها تحمل مسؤولياتها لكي تقوم قواتها المحتلة المسؤولة أصلاً عن هذه الجرائم بحماية المواطنين الفلسطينيين منها!

فالحملة الأمنية التي شنتها السلطة كانت جزءاً من عملية أوسع في الضفة الغربية وفاء منها باستحقاقات المرحلة الأولى من خريطة الطريق «الأمريكية» لعام 2003 التي اعتمدها مؤتمر أنابوليس الذي رعته واستضافته «أميركا» العام الماضي، وكان «اختفاء» قوى الأمن الفلسطينية عن مسرح عربدة المستوطنين حول بيت الرجبي جزءاً أيضاً من التزام السلطة بالتنسيق الأمني الذي يشرف عليه ثلاثة جنرالات أميركيون كبار (منهم جيمس جونز الذي رشحه الرئيس الأميركي المنتخب باراك أوباما مستشاراً لأمنه القومي بانتظار مصادقة الكونغرس على ترشيحه) مع قوات الاحتلال، وكل ذلك وغيره هو جزء من استمرار رهان المفاوض الفلسطيني على الوعود الأمريكية بتحويل «رؤية» حل الدولتين إلى واقع وهي الوعود التي أخل بها الرئيس الأسبق بيل كلينتون عام ألفين ثم أخل بها خلفه جورج بوش الابن مرتين الأولى عام 2005 والثانية قبل نهاية عام 2008 الجاري، وربما لهذه الأسباب «الأمريكية» قررت القيادة السياسية للسلطة الفلسطينية الاستنكاف عن أي تدخل في قضية بيت الرجبي ولكي تظهر أيضاً احتراماً مفرطاً للقانون الدولي الذي يحمل القوة القائمة بالاحتلال المسؤولية عن حماية المدنيين الفلسطينيين الخاضعين لها!

إن استمرار المفاوض الفلسطيني في الرهان على الولايات المتحدة الأمريكية كان المظلة «الشرعية» التي استخدمها الاحتلال لمضاعفة عدد مستعمراته ومستوطنيها منذ توقيع اتفاق أوسلو عام 1993 وهي نفسها المظلة التي استخدمها الاحتلال أيضاً غطاء فلسطينياً «شرعياً» لتوسيع هذه المستعمرات بحيث تضاعف البناء فيها سبع عشرة مرة خلال السنة التي أعقبت مؤتمر أنابوليس بالمقارنة مع السنة السابقة، حسب تقرير حديث لدائرة شؤون المفاوضات في منظمة التحرير نفسها التي تصر قيادتها على المكابرة السياسية لمواصلة الالتزام بأوسلو وأنابوليس، هذا الالتزام المجاني الذي قاد إلى خلق صدع عميق في الصف الوطني الفلسطيني قاد بدوره إلى الانقسام الحالي الذي كان وصول حماس إلى قيادة أحد قطبيه نتيجة للانقسام أكثر مما كان السبب فيه.

وهذه المظلة «الشرعية» الفلسطينية نفسها تستخدمها الإدارات الأمريكية المتعاقبة للتعتيم على حقيقة أن المشروع الصهيوني الاستيطاني في فلسطين التاريخية ما كان له أن يتحول إلى دولة لولا الدعم الأميركي العسكري والمالي والسياسي لما قال جو بايدن، النائب المنتخب للرئيس المنتخب أوباما، العام الماضي إنه «القوة الوحيدة الأكبر التي تملكها أميركا في الشرق الأوسط»، وإذا كان يمكن تسويغ توفير مثل هذه المظلة الفلسطينية لإخفاء هذا التاريخ الأميركي القريب عندما خلا الجو للقوة الأمريكية الأعظم الأوحد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي لكي تلغي دور الأمم المتحدة وتتنطع لدور صانع للسلام العربي – الإسرائيلي وتخدع الرأي العام العربي باعترافها بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً وحيداً لعرب فلسطين فإن حوالي عقدين من زمن الاحتكار الأميركي الخالص لصنع السلام لم يكونا زمناً كافياً كما يبدو لكي يخلق القادة الأميركيون حقيقة سياسية جديدة مغايرة في سياساتهم الخارجية في المنطقة تتميز بالحياد في الصراع والنزاهة في التوسط لإنهائه والمساواة في دعم طرفي الصراع، فلماذا يواصل قادة فلسطينيون توفير مظلة فلسطينية مجانية للانحياز الأميركي الذي حول الولايات المتحدة عملياً إلى شريك في حروب “إسرائيل” العدوانية التوسعية كما إلى شريك في بناء مستعمراتها الاستيطانية في الأراضي التي احتلتها عام 1967!

إن سلسلة ضمانات القروض الأمريكية لدولة الاحتلال الإسرائيلي التي بدأت عام 1992 (بقيمة عشرة مليارات دولار على مدى عشر سنوات)، أي مباشرة في السنة التالية لعقد مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط، وتجددت عام 2003 بقيمة تسعة مليارات دولار على مدى ثلاث سنوات، أي في السنة التي أخرجت فيها إدارة بوش «خريطة الطريق» من جعبتها الدبلوماسية، ثم توجت مؤخراً بثلاثين مليار دولار على مدى السنوات العشر المقبلة، في تزامن مع وعد بوش بقيام دولة فلسطينية قبل نهاية عام 2008، إنما تكشف نهجاً أميركياً سافراً لا يحتاج إلى ذكاء كبير لإدراك أنه نهج يقوم على «الدفع» ل”إسرائيل” من جهة وعلى «الوعد» للعرب من جهة ثانية.

وهذا النهج استمر منذ أعلن الرئيس هاري ترومان اعترافه ب”إسرائيل” كـ«دولة يهودية» عام 1948، إذ مباشرة بعد ذلك صادق الكونغرس على معونة قدرها 140 مليون دولار للدولة الناشئة قدمت في شكل قرض من بنك التصدير والاستيراد، وما زال الحبل على الجرار ليزيد الدعم الرسمي الأميركي المباشر والمعلن على مائة وأربعين مليار دولار خلال الستين عاماً المنصرمة من عمر النكبة الفلسطينية، لتتحول دولة الاحتلال الإسرائيلي إلى أكبر متلق للمعونات الأمريكية في العالم، بنسبة تزيد على ثلاثين في المائة من إجمالي مخصصات المعونات الخارجية في الميزانية الأمريكية، بمعدل ثلاث مليارات دولار سنوياً الآن، أو حوالي ثمانية ملايين دولار من أموال دافع الضرائب الأميركي يومياً.

وكان حسن النية الأميركي الذي يمكنه تسويغ المظلة الفلسطينية للتعتيم على هذه الحقائق الدامغة يقتضي وقفاً لهذا النهج أو في الأقل تغييراً فيه يوازن بين طرفي الصراع العربي الإسرائيلي، خصوصاً بعد انتفاء أي تهديد دولي أو عربي لدولة الاحتلال بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وإجماع الدول العربية على تحقيق السلام والصلح معها عبر التفاوض «فقط» وإجماعها على اعتبار كل مقاومة لها «إرهاباً»، بخاصة بعد هجمات القاعدة في الحادي عشر من سبتمبر، لكن الإدارات الأمريكية المتعاقبة، مهما كان الحزب الذي يقودها، واصلت النهج نفسه في عهد «عملية السلام».

إن ضمانات القروض الأمريكية لدولة الاحتلال الإسرائيلي منذ بدأت «عملية السلام» قد حولت واشنطن إلى أكبر ممول للاحتلال والاستعمار الاستيطاني في العالم لا بل في التاريخ، ومن الواضح أن تضاعف عدد المستعمرات ومستوطنيها اليهود في الضفة الغربية لنهر الأردن ما كان له أن يتحقق لولا التمويل الأميركي، فالعشرة مليارات دولار لضمانات القروض أوائل عقد التسعينيات الماضي قد مكنت دولة الاحتلال من استيعاب نسبة مرتفعة من المليون الذين هاجروا إليها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في مستعمراتها الاستيطانية منهم أكثر من اثني عشر في المائة في القدس ومحيطها المباشر، وعلى سبيل المثال قالت حركة السلام الآن الإسرائيلية إن حكومة دولة الاحتلال خصصت ملياري دولار من ميزانيتها لعام 1992 للمستوطنات وهي السنة التي حصلت فيها “إسرائيل” على ضمانات قروض أميركية بعشرة مليارات دولار، ليقدر الرئيس الحالي لدولة الاحتلال شمعون بيريز عام 2005 أن “إسرائيل” أنفقت ما لا يقل عن خمسين مليار دولار على المستوطنات.

إن موريس أبراهام الذي يدعي ملكيته لبيت الرجبي في الخليل، ومثله ليف ليفييف الذي يمول البناء في المستعمرات الاستيطانية، ليسا إلا قمة جبل جليد من آلاف مزدوجي الجنسية الأمريكية الإسرائيلية الذين خدموا في جيش الاحتلال، وحرسوا المستعمرات ووفروا الحماية لمستوطنيها، واستوطنوها ومولوها، ولم يكن رئيس موظفي البيت الأبيض الأميركي الجديد رام بنيامين عمانوئيل آخرهم، ممن يجمعون التمويل «غير الرسمي» لدولة الاحتلال ومستعمراتها، ففي الخامس والعشرين من أغسطس الماضي ذكر تقرير لرويترز على سبيل المثال وجود ثلاث عشرة منظمة أميركية لها صلة مباشرة «علنية» بتمويل المستوطنات وتروج لدعمها في أوساط المواطنين الأميركيين وتستفيد من «الإعفاءات الضريبية» لتحويل الأموال إليها، ومن هذه المنظمات التي نشأت حديثاً نسبياً «صندوق الخليل» الذي يجمع مليوناً ونصف المليون دولار سنوياً لتمويل الاستيطان اليهودي في خليل الرحمن، وقد بلغت الصفاقة بمدير هذا الصندوق، يوسي باومول، أن يعترف علناً بأن نشاط صندوقه يتعارض مع السياسة الخارجية الرسمية لحكومته حيال المستوطنات، دون أن تتحرك الإدارة الأمريكية

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات