من أجل صياغة جديدة للعلاقات بين الفلسطينيين

صحيفة الوطن السعودية
كان الانتقال بالمشروع الاستراتيجي الفلسطيني للتحرير، من هدف التحرير الكامل لفلسطين التاريخية، من النهر إلى البحر، ومن الكفاح المسلح إلى العمل السياسي، قد جاء متماهياً مع استراتيجية دول الطوق: مصر وسوريا والأردن التي قبلت بقراري مجلس الأمن الدولي 224 بعد حرب يونيو عام 1967، و338 إثر حرب أكتوبر عام 1973. وبموجب القرارين المذكورين، وافقت الحكومات العربية المرتبطة بالصراع مباشرة على اعتماد الحلول السياسية، بدلاً عن المواجهة العسكرية لإزالة آثار العدوان، ولاستعادة الأراضي التي احتلها الصهاينة في حرب 1967. ومنذ ذلك الحين أصبحت المقاومة المسلحة، صيغة تكتيكية لخدمة المشروع السياسي المعروف بـ “هجوم السلام”.
ولأن الصراع العربي مع الصهاينة، صراع مركب ومعقد وطويل جداً، فقد تعاقبت عليه قيادات وتعددت وتغيرت فيه منطلقات واتجاهات. وكان لكل مرحلة بصماتها. ففي الثلاثينيات من القرن المنصرم شهدت الساحة تصدر مفتي القدس الحاج أمين الحسيني، لقيادة الكفاح الفلسطيني وتحالفاته الدولية المعروفة، ومن ثم رعاية الأنظمة العربية الحديثة الاستقلال لحماية عروبة فلسطين، وخوضها صراعاً غير متكافئ كان من نتائجه نكبة عام 1948، إلى احتضان الأنظمة القومية لمشروع التحرير، وفشلها في المواجهة العسكرية عام 1967. وكانت الحقبة التي أعقبت حرب يونيو قد شهدت انطلاق حركة المقاومة المسلحة بقيادة ياسر عرفات، والتي أكدت على تبني طريق الكفاح المسلح، سبيلاً لتحرير فلسطين. ومع تبني الحلول السياسية، بعد حرب أكتوبر حدث انتقال في خارطة الصراع، ليس فقط على المستوى العربي، ولكن أيضاً في البنيان الفلسطيني.
وخلال عقدين من الصراع، بعد النكبة مباشرة، أبعد الفلسطينيون، في الضفة والقطاع، عن ممارسة أي دور سياسي فيما يخص قضيتهم. وحين احتل الصهاينة الضفة الغربية وقطاع غزة، ضمن ما احتلوه من أراض عربية، كانت عملية الترويض القسري للفلسطينيين وحرمانهم من العمل السياسي قد غيبت إمكانية مقاومتهم للاحتلال. وكان اندلاع المقاومة، وتراكم فعلها النضالي، ومن ثم انتقال منظمة التحرير الفلسطينية، بقيادة فتح إلى تبني مشروع السلطة الفلسطينية في الضفة والقطاع، منذ عام 1973، قد ضخ دماء جديدة في الحركة المجتمعية بالضفة، مكنت من عودة الروح لحركات المجتمع المدني، التي بدأت تفصح منذ منتصف السبعينيات عن مقاومتها السلمية للاحتلال. ونشطت خلال تلك الحقبة شخصيات فلسطينية مؤيدة لمنظمة التحرير. وفي انتخابات العمد، تمكن ثلاثة منهم (قواسمة وملحم والشكعة) من الفوز بالانتخابات. وكانت الانتفاضة الفلسطينية الأولى، انتفاضة أطفال الحجارة، عام 1987، قد مثلث الحضور النضالي المكثف الأول لفلسطينيي الضفة والقطاع، منذ نكبة فلسطين.
وفي خضم تلك الانتفاضة، تأسست حركة المقاومة الإسلامية حماس، على يد الشيخ الشهيد أحمد ياسين عام 1987، وبدأت تشق طريقها بقوة، ليعود لفكرة الكفاح المسلح بريقه وألقه، في صورة عمليات استشهادية.
ومنذ تلك الانتفاضة برزت حقائق جديدة، أهمها تراجع الدور الكفاحي للاجئين الفلسطينيين في المخيمات، خارج فلسطين التاريخية، بلبنان وسوريا والأردن. وانتقال مركز الجاذبية في الكفاح الفلسطيني من المخيمات إلى الداخل، بالضفة الغربية وقطاع غزة. وكان لهذا الانتقال مضامينه السياسية، وانعكاساته المباشرة على توازنات القوة بين مختلف فصائل النضال الفلسطيني.
وأولى هذه الحقائق، أن القوى الجديدة التي أصبحت تمثل مركز الجاذبية في الصراع تعيش تحت الاحتلال المباشر، وبإمكانها تحقيق التحام ملحمي معه في المواجهة. فهي ليست بحاجة إلى عبور نقط الحدود، واجتياز النهر، أو الهضاب والسهول لتواجه الصهاينة في عقر دارهم. وهي من جهة أخرى، تعيش في وطن فلسطيني، هو مدن الضفة والقطاع، ويسكنها هاجس حلم التحرير، لا حلم العودة. إن تحرير الضفة والقطاع، ضمن أية سياقات سيمكنها من التخلص من الاحتلال الصهيوني المباشر. لكن ذلك على كل حال، لم يكن موقفاً شاملاً لمجمل الشرائح والفصائل الكفاحية المتواجدة بالضفة والقطاع.
فحركة المقاومة الإسلامية حماس، وحركة الجهاد الإسلامي، تبنتا تحرير فلسطين، من النهر إلى البحر، وعن طريق الكفاح المسلح. ولا شك أن التسويف والمماطلة من قبل الصهاينة في الالتزام بالاتفاقيات التي عقدت مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، ومضاعفتهم عدد المستوطنات، ورفضهم الاعتراف بعروبة القدس، وبحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم قد أسهم في تعزيز مواقف حماس والجهاد وبقية الفصائل المتمسكة بالمقاومة المسلحة، والتفاف الجمهور حول مشروع التحرير الذي يلتزمون به. كما أدت حالة الفساد التي سادت مؤسسات السلطة، بعد توقيع اتفاقيات أوسلو إلى التفاف غير مسبوق حول حركة حماس، كان من نتائجه هيمنتها الواسعة على حركة الشارع، وفوزها في الانتخابات التشريعية، وهزيمة فتح أمامها في معركة الانتخابات.
ويجدر التنبه في هذا السياق، إلى أن حركة حماس هي وليد شرعي لجماعة الإخوان المسلمين، التي تأسست في مدينة الإسماعيلية بمصر. وقد بدأت الجماعة تستقطب مريدين لها من قطاع غزة منذ الثلاثينات من القرن المنصرم. ورغم تعرض الجماعة لملاحقات شديدة أثناء الحقبة الناصرية، إلا أن خلاياها بقيت كامنة بالقطاع، منتظرة فرصتها. وهكذا نستطيع القول إن هذه الظروف التاريخية هي التي أسهمت في تركز تواجد حماس في قطاع غزة، رغم أن ذلك لا ينفي تمكنها من تحقيق اختراقات مهمة بالضفة الغربية.
كان طبيعياً، بعد فوز حماس بالانتخابات التشريعية أن يجري تكليفها بتشكيل حكومة السلطة. وكان ذلك يعني أن إدارة السلطة أصبحت تجري بقيادتين في آن واحد. هرم السلطة ويقوده أبومازن، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، وزعيم حركة فتح، وحركة حماس بقيادة خالد مشعل، ورئيس الحكومة “الحمساوية” إسماعيل هنية. وفي ظل التناقضات في المواقف السياسية والإستراتيجية، والتنافس والتنافر بين القيادات المتنفذة في الجانبين، أصبح الصراع محتماً بين هرم السلطة والحكومة. وكانت النتيجة الكارثية للصراع هي انشطار قطاع غزة عن الضفة الغربية، والاحتلال الإسرائيلي لما يزل جاثماً عليهما، واستغراق قيادتي رام الله وغزة في وهم سلطة، لا تزال مغيبة، ومعلقة بالهواء.
والآن، وبعد أكثر من عام ونصف على الانفصال الفعلي بين القطاع والضفة، لا يبدو في الأفق القريب أن ثمة حلاً مقبولاً من مختلف الأطراف المتصارعة. فالوساطة المصرية، رغم المفاوضات الماراثونية التي استمرت عدة شهور، لا تزال تراوح مكانها. ولكل طرف من أطراف الصراع منطقه الخاص، الذي يبدو مقبولاً عند أول وهلة، ثم ما يلبث أن يتقهقر عند المحاكمة الموضوعية.
منطق حماس، أنها حصدت أكبر المقاعد في انتخابات المجلس التشريعي، وأنها بذلك تملك كامل الحق في رئاسة الحكومة وتنفيذ برنامجها الانتخابي. ومنطق فتح هو أن قيام السلطة هو ناتج اتفاقيات ومعاهدات مع الكيان الصهيوني، وأن وجود المجلس التشريعي بالأراضي الفلسطينية هو نتاج اتفاقيات أوسلو، وأن على من يقبل في المشاركة بالانتخابات، عليه القبول بالمقدمات. وقد تطور منطق النقاش لاحقاً، بحكم تداعيات الأحداث، ليستعيد من جديد موضوع وحدانية تمثيل منظمة التحرير للشعب الفلسطيني، وفقاً لقرارات القمم العربية، وقبول المجتمع الدولي بها، كمظلة جامعة وممثلة لكل فعاليات الشعب الفلسطيني باتجاه تحرير الوطن وإقامة الدولة المستقلة.
إننا هنا إزاء منطقين ينقصهما الموضوعية، فالقول بوحدانية تمثيل الشعب الفلسطيني، بعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً على صدور قرار القمة العربي، بتناسي جملة أمور، في مقدمتها أن الاعتراف بوحدانية التمثيل، جاء عاكساً لتوازنات القوة في تلك اللحظة التاريخية. إن أموراً كثيرة قد تغيرت، ولم تعد توازنات القوة كما هي عليه آنذاك. فعدد كبير من المنظمات الفدائية التي كانت قائمة في السبعينيات لا يكاد يوجد لها أي تمثيل الآن في أوساط الشعب الفلسطيني. وبالمثل، لم تكن حركتا حماس والجهاد قائمتين في ذلك التاريخ، أما الآن فتستقطب هاتان الحركتان آلافاً مؤلفة من الشعب الفلسطيني. كما أن الاعتراف بوحدانية تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية قد جاء في أعقاب حرب أكتوبر عام 1973، ليهيئ المنظمة للمشاركة في المؤتمر الدولي للسلام بالشرق الأوسط، الذي كان يزمع عقده في مدينة جنيف. ولم يعقد المؤتمر سوى جلسة افتتاحية يتيمة، غاب عنها الحضور الفلسطيني الرسمي.
صحيح أن حماس قد وصلت إلى الحكم، ضمن السياقات التي أفرزتها اتفاقيات أوسلو، لكن الصحيح أيضاً، أن الكيان الصهيوني هو أول من ضرب بعرض الحائط بمنطوق تلك الاتفاقيات، ولم يعرها أدنى اعتبار. ولذلك فإن الفلسطينيين، أو على الأقل أطراف الممانعة ضمنهم، هم في حل من تلك الاتفاقيات.
لابد إذاً من صياغة جديدة لهيكلية العمل الفلسطيني. وإذا قرر الفلسطينيون اعتماد منظمة التحرير الفلسطينية، كمرجعية وممثل شرعي وحيد لهم، فلا بد من الأخذ بعين الاعتبار الحقائق الجديدة وبتوازنات القوة. وفي هذه الحالة، فإن التمثيل إذا كان له أن يعتمد صيغ المحاصصة، كما كان في السابق، فإنه ينبغي أن يكون أميناً ودقيقاً. تغلب فيه المصالح العليا للشعب الفلسطيني، ولا يكون الاعتبار الأول فيه للمصالح الجهوية والفئوية. وذلك وحده هو السبيل لحقن الدم الفلسطيني، وإعادة ما انفصم من وحدة الضفة والقطاع، والسير قدماً في النضال المشترك من أجل تأمين حق الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم، وقيام الدولة المستقلة بعاصمتها القدس الشريف، فهل يغلب الإخوة الفلسطينيون مصالحهم الوطنية على المصالح الفردية، وينتصر صوت القلب والعقل؟!
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

الأورومتوسطي: إسرائيل تمارس حرب تجويع شرسة في قطاع غزة
غزة- المركز الفلسطيني للإعلام أكد المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، أن الهجوم الإسرائيلي المتواصل والحصار الخانق والنقص الحاد في الإمدادات...

550 مسؤولا أمنيا إسرائيليا سابقا يطالبون ترامب بوقف الحرب بغزة
القدس المحتلة – المركز الفلسطيني للإعلام طالب مئات المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين السابقين الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالعمل على وقف الحرب في...

حماس تدعو للنفير لحماية الأقصى بعد محاولة ذبح القرابين
القدس المحتلة – حركة حماس قالت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، إن محاولة المستوطنين ذبح قربان في المسجد الأقصى يعد تصعيداً خطيراً يستدعي النفير...

مؤسسات الأسرى: تصعيد ممنهج وجرائم مركّبة بحق الأسرى خلال نيسان الماضي
رام الله - المركز الفلسطيني للإعلام واصلت سلطات الاحتلال الإسرائيلي خلال شهر نيسان/ إبريل 2025 تنفيذ حملات اعتقال ممنهجة في محافظات الضفة الغربية،...

إضراب جماعي عن الطعام في جامعة بيرزيت إسنادًا لغزة
رام الله- المركز الفلسطيني للإعلام أضرب طلاب ومحاضرون وموظفون في جامعة بيرزيت، اليوم الاثنين، عن الطعام ليومٍ واحد، في خطوة رمزية تضامنية مع سكان...

القسام تفرج عن الجندي مزدوج الجنسية عيدان ألكساندر
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أفرجت كتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، عند الساعة 6:30 من مساء اليوم...

خطيب الأقصى: إدخال القرابين يجب التصدي له بكل قوة
القدس – المركز الفلسطيني للإعلام استنكر خطيب المسجد الأقصى الشيخ عكرمة صبري، محاولة يهود متطرفين إدخال قرابين إلى ساحات المسجد الأقصى، معتبراً أنه...