ثقافة استجداء السلام

صحيفة القدس العربي اللندنية
علمتنا تجارب الشعوب السابقة، والعربية منها على وجه الخصوص، أن الأوطان تتحرر وتستعيد سيادتها بالمقاومة، بأشكالها كافة، والعسكرية منها تحديداً، ولكن لم نسمع مطلقاً، أن أوطاناً تحررت بالاستجداء والتسول، مثلما تفعل حالياً السلطة الوطنية الفلسطينية وبعض فقهائها في رام الله.
فوجئنا في اليومين الماضيين، بنشر صفحات كاملة في صحف عربية وعالمية، باللغات كافة، وبالألوان، تتضمن النص الكامل لمبادرة السلام العربية، موقّعاً من قبل جامعة الدول العربية، وإلى جانبه بيان حول تأييد منظمة المؤتمر الإسلامي لها، مع وضع العلمين الفلسطيني والإسرائيلي جنباً إلى جنب في أعلى الصفحة، وأعلام جميع الدول الإسلامية تزين أطرافها.
مصدر المفاجأة أن السلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله هي التي تقف خلف هذه الحملة الإعلانية المكثفة على طول العالم وعرضه، وهي التي تسدد أثمانها من ميزانيتها، وهي قطعاً تقدر بملايين الدولارات.
ومن المفارقة أن هذه الأموال الطائلة المهدورة في هذه الحملة الإعلانية، تأتي في وقت لا يجد فيه مليون ونصف المليون فلسطيني من أبناء قطاع غزة رغيف خبز، أو ليتراً من الوقود، أو حتى الحطب لطهي الطعام، هذا إذا توفر الطعام أصلاً، بسبب الحصار التجويعي الإسرائيلي الظالم، والتواطؤ الرسمي العربي معه.
ربما نجد العذر لهؤلاء الفقهاء الذين تفتقت أذهانهم عن هذه الحملة، لو أنهم أنفقوا هذه الملايين (قيمة الإعلان على صفحة واحدة في بعض الصحف الأمريكية والبريطانية تصل إلى 150 ألف دولار) من أجل نشر أرقام عن مئات الآلاف من الأطفال في القطاع الذين يعانون من أمراض فقر الدم وسوء التغذية، أو الشهداء من المرضى الذين سقطوا بسبب انقطاع الكهرباء ونقص قطع الغيار للمعدات، أو التلوث لانعدام مادة الكلور لتنقية المياه.. أو.. أو.. ولكن ترويج هؤلاء لمبادرة سلام عربية، وإنفاق هذه الملايين من أجل ذلك، فهذا أمر لا يصدقه عقل.
قالوا لنا في البداية إنهم ينشرون إعلانات حول هذه المبادرة في الصحف العبرية الرئيسية الثلاث، من أجل تعريف الرأي العام الإسرائيلي بهذه المبادرة، لكسر حالة التعتيم عليها من قبل الحكومة وبعض السياسيين، مثل بنيامين نتنياهو زعيم الليكود اليميني، خاصة أن الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية باتت على الأبواب، ولكن هل المواطن العربي جاهل بهذه المبادرة وتفاصيلها حتى تلجأ السلطة وفقهاؤها لشراء صفحات كاملة في الصحف العربية للترويج لها، بالطريقة الساذجة التي رأيناها؟
هل المواطن في الأردن أو المملكة العربية السعودية ولبنان لا يعرف بهذه المبادرة التي صدرت قبل ستة أعوام، وأهلكتها الصحف والمحطات الفضائية بحثاً ومناقشة، وخصصت لها برامج خاصة، استضافت فيها عشرات المعلقين والمحللين والمسؤولين، وعقد بشأنها السيد عمرو موسى الأمين العام للجامعة عشرات المؤتمرات الصحافية، بمناسبة وغير مناسبة، للتبشير بها وبالخير الكبير الذي سيعم على المنطقة بسببها، هل هؤلاء لا يعرفون هذه المبادرة ولم يسمعوا بها، حتى تشتري السلطة، ومن أموال الجوعى والمحاصرين، صفحات كاملة في صحف عربية للتعريف بها؟
اعترف أنني درست الإعلام والسياسة ودرّستّهما باللغتين العربية والانكليزية على مدى العشرين عاماً الماضية دون أي انقطاع في جامعات عالمية عديدة، ومارست الإعلام لأكثر من ثلاثين عاماً، ولكنني أجد نفسي أقف عاجزاً عن فهم هذه الظاهرة الإعلانية غير المسبوقة والفريدة من نوعها، ولا بد أن أصحاب الصحف العبرية والعربية والغربية التي نشرت فيها هذه الإعلانات قد “ضحكوا في عبهم” على هذا الغباء العربي والفلسطيني منه على وجه الخصوص.
كان الشعب الفلسطيني مثلاً يحتذى بمبدعيه وشهدائه ومثقفيه وإعلامييه، وتضحياته الضخمة، ورجالاته الأفذاذ، والأرقام القياسية في عدد خريجيه ومتعلميه، ولكن يبدو أننا نعيش زمناً فلسطينياً مختلفاً، تناقض فصوله كل ما سبق ذكره، بل تنسف هذا التراث الإبداعي المتميز.
الإسرائيليون لن يفهموا مبادرة السلام العربية هذه حتى لو حقنت في عقولهم حقناً، وبالتالي لن يتجاوبوا معها، لأنهم لا يفهمون إلا لغة واحدة، هي تلك التي تهدد أمنهم ومصالحهم ورخاءهم الاقتصادي على وجه الخصوص، أما لغة الاستجداء والتسول والاستعطاف فقد أثبتت التجارب السابقة، أنها تزيدهم عناداً وغروراً وغطرسة.
الرئيس محمود عباس التقى إيهود أولمرت رئيس الوزراء الإسرائيلي ما يقرب من العشرين مرة، وأقل من هذا العدد بقليل مع السيدة كوندوليزا رايس، والرئيس الأمريكي جورج بوش، وجميع المسؤولين الأوروبيين تقريباً، فهل فكك مستوطنة واحدة، أو أزال حاجزاً عسكرياً في الضفة الغربية، أو أفرج عن أكثر من أحد عشر ألف معتقل في المعتقلات والسجون الإسرائيلية؟
من يطالع “تلفزيون فلسطين” التابع للسلطة في رام الله، والبرامج الغنائية والمسرحيات الراقصة التي قدمها ويقدمها، في الوقت الذي يلجأ فيه أبناء قطاع غزة إلى أكل علف الحيوانات والطيور من أجل البقاء على الحياة، لا يستغرب مثل هذه التصرفات الغريبة والشاذة عن القاموس النضالي السياسي الفلسطيني.
تمنيت أن أجد برنامجاً واحداً متعاطفاً مع المحاصرين المجوّعين في قطاع غزة لأكثر من ثلاثة أسابيع منذ انقطاع الماء والدواء والوقود والطعام عنهم، ولكني أصبت بخيبة أمل كبيرة، وكأن هؤلاء ليسوا فلسطينيين بل ليسوا بشراً. فهذه العبقرية الإعلامية التي تقف خلف هذا التلفزيون وتضع سياساته هي نفسها التي تقف خلف هذه الحملة الإعلانية الساذجة والمهينة التي نرى إرهاصاتها في الإعلانات المدفوعة المنشورة في الصحف العربية والعالمية.
لم أكن أتصور في أي يوم من الأيام، أن يأتي اليوم الذي أرى فيه فلسطينيين يخاطبون عدوهم بهذه الطريقة الساذجة، ولكن في هذا الزمن الفلسطيني السيئ كل شيء جائز، وربما تحمل لنا الأسابيع المقبلة مفاجآت أكثر غرابة واستفزازاً.
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

الاحتلال يقتحم مجمع المدارس في حلحول ويشدد إجراءاته العسكرية في الأغوار
الخليل - المركز الفلسطيني للإعلام أصيب عدد من الطلبة بالاختناق، اليوم الأحد، جراء اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي منطقة مجمع المدارس في بلدة حلحول...

إصابة مواطنين برصاص الاحتلال في بنت جبيل جنوبي لبنان
بيروت - المركز الفلسطيني للإعلام أصيب شخصان برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي، اليوم الأحد، في بلدة مارون الراس الحدودية، قضاء بنت جبيل، جنوب لبنان....

حماس: الموقف العربي من حرب التجويع والإبادة لا يرقى لمستوى الجريمة
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام شددت حركة "حماس" على أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي ترتكب جريمة حرب مركبة في غزة، باستخدامها التجويع سلاحا ضد...

السلطة تقطع رواتب عدد كبير من الأسرى في سجون الاحتلال
الضفة الغربية- المركز الفلسطيني للإعلام أقدمت السلطة على قطع رواتب عدد من الأسرى والأسيرات، والمحررين والمحررات، في خطوة أثارت استياء واسعًا في...

الأورومتوسطي: إسرائيل تقتل امرأة فلسطينية كل ساعة في قطاع غزة
المركز الفلسطيني للإعلام قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي قتل بالقصف المباشر على قطاع غزة ما معدله 21.3 امرأة...

الصحة تحذر من تسارع مؤشر النقص الحاد في الأرصدة الدوائية
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام حذرت وزارة الصحة من أن مؤشر النقص الحاد في الأرصدة الدوائية في "تسارع خطير"، فميا أفادت بأن مستشفيات القطاع استقبلت...

الأونروا تحذر من ضرر غير قابل للإصلاح مع إطالة أمد الحصار الإسرائيلي
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام حذرت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، من أن إطالة سلطات الاحتلال الإسرائيلي منع إدخال المساعدات إلى...