الإثنين 12/مايو/2025

هل تحقق مضمون وعد بلفور؟

هل تحقق مضمون وعد بلفور؟

صحيفة الخليج الإماراتية

قبل واحد وتسعين عاماً أصدرت الحكومة البريطانية وعد بلفور، الذي أقره الرئيس ويلسون وحكومتا فرنسا وإيطاليا، واكتسب قوة الوعد الدولي بتضمينه صك الانتداب من قبل “عصبة الأمم” سنة 1922. والوعد وإن بدا خاصاً بإقامة “وطن قومي يهودي” في فلسطين إلا أنه حين يقرأ في العمق يدل على قرار استراتيجي بإقامة استعمار استيطاني عنصري صهيوني فيها على حساب الوجود الطبيعي والتاريخي لشعبها العربي، حيث أنكر شخصيته الوطنية وانتماءه القومي، بالنص على أنه “طوائف غير يهودية” مقيمة في فلسطين. كما أنه أهدر حقه في تقرير المصير وحقوقه السياسية. والسؤال التاريخي بعد كل الذي جرى خلال الإحدى والتسعين سنة الماضية: هل تحقق مضمون وعد بلفور، أم أن الصراع الذي فجره لما يزل يفرض ذاته على العالم أجمع، وإن كثر المخططون لتصفيته وفق ما يؤمن تواصل أداء الكيان الصهيوني لدوره الاستراتيجي في خدمة القوى الدولية والإقليمية المعادية للمصالح والطموحات القومية العربية؟

ولا أنكر ما بلغته “إسرائيل” من مكانة إقليمية واعتبار دولي، ولكنني ادعي بأن الشعب العربي الفلسطيني هو اليوم أخطر على حاضر ومستقبل المشروع الصهيوني مما كانت عليه الحال غداة صدور وعد بلفور سنة 1917، أو عشية إصدار قرار التقسيم سنة 1947، أو يوم استكملت “إسرائيل” احتلال فلسطين من النهر إلى البحر سنة 1967. وإن وقفة مع واقع شعب فلسطين العربي والتجمع الاستيطاني الصهيوني عند بداية الاستيطان في الخمس الأخير من القرن التاسع عشر واليوم كفيلة للبرهنة على صحة ما أدعيه.

فبالعودة لما كان عربياً وصهيونياً سنة 1882، غداة وصول موجة الهجرة الصهيونية الأولى، يتضح ما كان عليه الفارق النوعي بين قدرات وإمكانات طرفي الصراع، باعتبار ذلك ما يقتضيه القياس الموضوعي لما أنجزه وعجز عنه كل منهما. كما أن في استعراض المسيرة منذ بدايات الصراع الأولى ما يستند إليه في تحديد المعوقات التاريخية للحراك الوطني الفلسطيني. والذي لا يأخذه بالحسبان غالبية المتحدثين بأسى عن قصور الأداء الوطني الفلسطيني، أو بانبهار عما يعتبرونه إنجازاً صهيونياً، أنه حين فوجئ الشعب العربي الفلسطيني بالغزوة الصهيونية لم يكن قد خرج بعد من العهد العثماني. إذ كان قاصر الوعي، متخلف المعرفة، مفتقراً عمقه العربي لأي فاعلية. وفي المقابل كان الرواد الصهاينة طليعة نخب يهود روسيا وشرق أوروبا المشاركة في الحراك السياسي والجدل الفكري النشط فيهما، فضلاً عن أنهم كانوا مدعومين مالياً ومعنوياً من أقطاب الرأسماليين اليهود والإنجيليين من البروتستانت في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية، ويحظون برعاية قوى الاستعمار التي التقت على اعتبار استعمارهم الاستيطاني لفلسطين مشروعها الاستراتيجي في تأصيل واقع التجزئة العربي ليتواصل استغلالها الوطن العربي بما يؤمن مصالحها الكونية ورفاه شعوبها.

وليس أدل على ما كان يدركه الصهاينة من خلل استراتيجي في ميزان القدرات والأدوار لصالحهم من رفعهم لشعار “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”. وكان التقدير الغالب لدى صناع قرار التحالف الاستعماري الصهيوني، أن المشروع الصهيوني مرشح لأن يحقق ما حققته مشاريع الاستعمار الاستيطاني الأوروبية المصدر السابقة له. وإذا كان الزمن لم يعد يسمح بالإبادة الجماعية، كما جرى في أمريكا الشمالية واستراليا، فإن التهجير القسري “الترانسفير” هو ما كان معتمداً منذ البداية. فقد ورد في يوميات هرتزل قوله: “إذا ما انتقلنا إلى منطقة فيها حيوانات متوحشة لم يعتد عليها اليهود أفاعي كبيرة وغير ذلك فسوف استخدم سكان البلاد، قبل ترحيلهم إلى الدول التي سينقلون إليها، من أجل القضاء على هذه الحيوانات”. فيما ورد في مذكرات حاييم وايزمان: “لقد وعدتنا بريطانيا أن تكون فلسطين سنة 1935 يهودية كما هي إنجلترا إنجليزية”.

ومع الإقرار بأن المفكرين والساسة العرب، لم يتوصلوا بعد لصياغة الاستراتيجية العامة والشاملة والمستمرة لإدارة الصراع مع التحالف الاستعماري الصهيوني، إلا أن جماهير شعب فلسطين أكدت منذ البداية التزامها بخيار الممانعة والمقاومة واستعدادها لتحمل تبعاته، مقدمة بذلك المعوض الاستراتيجي للقصور النخبوي العربي. وهذا ما توضحه القراءة الموضوعية للحراك الوطني الفلسطيني على مدى العقود التسعة الماضية، إذ كان كلما بدا واهن القوى ولاحت مؤشرات قصور نَفَس قادة نضاله انتشلته هبة شعبية في اللحظة الحاسمة. وإن في صمود ما يقارب الخمسة ملايين عربي في فلسطين المحتلة من النهر إلى البحر وتصديهم لإرهاب الدولة الصهيونية المسكوت عنه دولياً، مقابل عودة الصهاينة إلى مخاوف “الغيتو”، على الرغم من كونهم مدججين بالسلاح، كما ذكر يوري أفنيري قبل شهور، ما يدل دلالة قاطعة على فعالية إرادة الممانعة والمقاومة المتجذرة لدى جماهير شعب فلسطين واستحالة استلاب إرادته في تحرير ترابه الوطني من دنس الغزاة، برغم ما لهم من دعم غير محدود من عمقهم الاستراتيجي على جانبي الأطلسي.

وكثيرون هم المفكرون والساسة الصهاينة الذين باتوا يقرون بأنهم لم يحققوا أي انتصار بعد “حرب الأيام الستة” سنة 1967. وهذا ما أكدته نكستهم في عدوان 2006 على لبنان، غير أن الخلل الاستراتيجي في الحراك الوطني الفلسطيني يكمن في التناقض فيما بين ما هو عليه شعب الممانعة التاريخية والمقاومة الأسطورية من سخاء في عطائه بالدم والمال والجهد، وما يعكسه من بخل كارثي في محاسبة ومساءلة قادته السياسيين ونخبه الاجتماعية. وبذلك سهل على الواضح قصر نفسهِم في النضال، والمفضوح تفريطهم بالحقوق الوطنية لقاء مصالحهم الذاتية، الاحتفاظ بأدوارهم القيادية، بل وتمرير ما يبرمونه من صفقات مشبوهة، ومثالها الأبرز اتفاق أوسلو الذي ما كان ليبرمه رابين إلا ليلتف على فشل إجهاض انتفاضة الحجارة التي عرّت العنصرية الصهيونية، دون مساءلة موقعيه ومسوقيه وكأنه النصر المبين.

وبرغم توالي مسلسل التنازلات تواصل الخلل الاستراتيجي في الحراك الوطني الفلسطيني بدليل أن ما نشرته الصحف “الإسرائيلية” حول التقاء قادة أجهزة “أمن” سلطة رام الله في مستوطنة “بيت إيل” مع الجنرالات الصهاينة، واتفاقهم على عمل مشترك لتصفية المقاومة في الضفة والقطاع المحتلين لم يستدع محاسبة فصائلية أو وطنية. ومع ذلك يتواصل العطاء الشعبي ممانعة ومقاومة مؤكداً بالممارسة العملية عدم تحقق مضمون وعد بلفور بعد تسعة عقود من إصداره.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات