عاجل

الثلاثاء 13/مايو/2025

عكا والإكراه الديني في إسرائيل

عكا والإكراه الديني في إسرائيل

صحيفة العرب القطرية

عكست اعتداءات العصابات الإرهابية اليهودية على العرب من أهالي مدينة عكا الفلسطينية العريقة في الأيام الماضية، وجها آخر للصراع الداخلي في “إسرائيل”، والذي إن طال العرب اليوم، فهو ليس بعيداً عن ضرب الشارع اليهودي في داخله، ويتمثل في سعي الجهات الأصولية اليهودية الدائم لفرض تشريعات دينية متشددة جداً على تفاصيل الحياة داخل “إسرائيل”.

فالقضية الأساسية في اعتداءات تلك العصابات التي تقودها مجموعات إرهابية من مستوطني الضفة الغربية، جاءت خصيصاً إلى الشمال لقيادة تلك الاعتداءات، وهي السعي الإسرائيلي الرسمي، والصهيوني بشكل عام، إلى اقتلاع معالم أساسية لفلسطين التاريخية، ومن جوانب هذا المخطط ضرب العرب، المواطنين الأصليين في المدن الفلسطينية التاريخية، عكا وحيفا ويافا واللد والرملة، التي باتت ذات أغلبية يهودية بفعل السياسة الإسرائيلية.

فإلى جانب سياسة تضييق الخناق المفروضة على فلسطينيي 48 بشكل عام، فإن الفلسطينيين في هذه المدن يواجهون سياسة تمييز عنصري ومضايقات مضاعفة، تتدخل في تفاصيل الحياة الدقيقة للمجتمع الفلسطيني. وكان واضحاً أن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، من شرطة وغيرها، تساهلت مع العصابات اليهودية الإرهابية، لتمنحها عملياً ضوءاً أخضر في اعتداءاتها على العرب، طالما أن الهدف هو السعي لاقتلاع من تبقى منهم في مدنهم التاريخية.

ولكن الذريعة التي اندلعت على إثرها الاعتداءات كانت أن سائق سيارة عربياً توجه إلى أحد أحياء المدينة الذي يسكنه العرب واليهود لإحضار ابنته من بيت أقربائها في مساء «يوم الغفران» اليهودي، وهو يوم صيام تُحظر فيه الحركة كلياً، وفيه التقييدات أشد من التقييدات المفروضة على أيام السبت أسبوعياً. وتعّرض هذا السائق لاعتداء عصابات كاد يودي بحياته، إذ تم رجمه وضربه ومطاردته. وبعد أيام قليلة استكملت الشرطة العدوان باعتقاله، ومن ثم وضعه في الحبس المنزلي.

ولكن هذه الذريعة أضاءت ضوءاً أحمر لدى عدد من الكتاب الإسرائيليين العلمانيين الذين فهموا أن ما بدأ في عكا ضد العرب لن يتوقف هناك، بل إنه في مرحلة لاحقة سيضرب بشدة الشارع العلماني اليهودي في “إسرائيل”، وإن كان هذا الشارع يعاني منذ عشرات السنين من قيود دينية، فإنه مقبل على تقييدات أشد.

وحينما نتكلم عن الأصولية اليهودية، فإننا نتكلم عن مجموعتين: الأولى، هي «الحريديم»، وهم من نراهم بزيهم الأسود. وهؤلاء ليسوا كباقي المجموعات الأصولية في الأديان الأخرى، بل لهم مجتمعهم الخاص المنغلق، ولديهم تقييدات مشددة تتعلق بالغذاء بين حلال وحرام، وحركة المواصلات، وإدارة المجتمع، والاختلاط بين الرجال والنساء، وغيرها.

أما المجموعة الثانية، فهم من يطلقون عليهم اسم «المتدينون الصهاينة»، وهم الجمهور الأوسع بين مستوطني الضفة الغربية والقدس المحتلة، ويتبنون نفس الشرائع لكن بدرجة أخف، إلا أنهم أشد عنصرية تجاه العرب وكل من يقترب من العرب بشكل عام.

وعلى مدى عشرات السنين تراكمت في كتاب القوانين الإسرائيلي عشرات التشريعات التي تسعى لفرض شرائع دينية متشددة على مجتمع تمت لملمته من شعوب ومجتمعات متحررة، لا يمكنها أن ترضخ بشكل دائم لضغوط المتدينين.

وأبرز وأسرع اصطدام بين المجتمعين العلماني والمتدين المتشدد في “إسرائيل” نراه في حركة المواصلات العامة أيام السبت والأعياد اليهودية، لأنه يطال الحياة العامة في أيام الراحة، وهناك أوساط محرومة عملياً من الحركة الطبيعية نظراً لعدم امتلاكها وسائل نقل خاصة، في حين أن المواصلات العامة شبه محظورة في مثل هذه الأيام، وحركتها في مناطق معينة لا تتعدى نسبة 2% فقط من مجمل الحركة. وتعاليم السبت تسري أيضاً على الحركة التجارية والمرافق العامة، وهي محظورة كلياً على محلات الأطعمة والمواد الغذائية اليهودية إن أرادت شهادة الحلال من المؤسسة الدينية.

وهذه التعليمات هي مصدر اصطدام داخل الكنيست الإسرائيلي (البرلمان)، إذ يسعى نواب علمانيون لتمرير قوانين تخفف من هذه القيود، لكن النواب المتشددين -وهم قلة عددية لكنهم يحكمون مصير كل الحكومات الإسرائيلية تقريباً- يعترضون على هذه القوانين ولا يسمحون بإقرارها. ولهذا، هناك مساع لتمديد فترة العطلة الأسبوعية في “إسرائيل” لتشمل أيام الأحد ليكون يوم راحة إضافياً تسمح فيه الحركة.

كذلك، هناك قيود تفرض على قضايا الزواج والحياة الاجتماعية وغيرها. فمثلاً، حينما نتكلم عن الغذاء الحلال، فهذا ليس كما في المجتمعات الأخرى، بل لهذا الجانب هناك مؤسسات دينية تجبي أموالاً طائلة من الشركات والمصانع الغذائية المحلية، بما فيها المزارع، وحتى خارج “إسرائيل” قبل التصدير إلى “إسرائيل”. ودلت عدة أبحاث أن جزءاً من تكلفة الغذاء المرتفعة في “إسرائيل” تعود إلى مسألة الصرف على هذا الجانب، إلى جانب الخسائر المالية الناجمة عن إفساد منتوجات صالحة جداً للأكل، وخاصة النباتية منها والحليب، فقط لأنه تم العمل بها في أيام السبت، وغيرها من الأسباب.

ولكن الاصطدام بين العلمانيين والمتدينين لا يتوقف عند تفاصيل الحياة اليومية، بل هناك القضية الجوهرية الأكبر، وهي مسألة تعريف «من هو يهودي». فحسب الديانة اليهودية، فإن اليهودي يجب أن تكون أمه يهودية، بغض النظر عن هوية والده، كما أن المؤسسة اليهودية المتشددة لا تعترف بطرق التهويد التي تتبعها طوائف يهودية ليبرالية. فمثلاً، في “إسرائيل” اليوم هناك حوالي 300 ألف شخص لا تعترف المؤسسة الدينية بيهوديتهم، وهذه نقطة اصطدام دائمة في “إسرائيل”.

إن حلبة الاصطدام الأبرز بين العلمانيين والأصوليين في “إسرائيل” على مستوى الحياة العامة في هذه الفترة تبرز في القدس المحتلة، إذ باتت نسبة المتدينين المتشددين «الحريديم» تقترب من 40%، ليدعمها المتدينون «الليبراليون». وحسب معطيات إسرائيلية رسمية، فإن هذا الأمر يؤدي إلى هجرة داخلية مستمرة للعلمانيين من القدس المحتلة إلى أماكن أخرى في “إسرائيل”، وخاصة إلى منطقة تل أبيب الكبرى.

بغض النظر عن القضية السياسية للقدس المحتلة الأساسية بالنسبة لنا، ولكن ما يجري في القدس المحتلة هو نموذج لظاهرة متصاعدة باستمرار في داخل المجتمع الإسرائيلي، فهناك مدن أخرى تواجه نفس الظاهرة، مثل «بني براك» القريبة من تل أبيب وغيرها، وبالإمكان القول إن هذه الظاهرة هي مؤشر لصدام كبير جداً سيواجهه المجتمع الإسرائيلي بقوة في السنوات القادمة، خاصة حينما نقرأ أن نسبة الحريديم التي هي اليوم تفوق 14% من اليهود في “إسرائيل”، من المتوقع أن تصل في عام 2025 إلى أكثر من 27%.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات