درس عكا الذي لن تتعلمه إسرائيل

صحيفة الوطن السعودية
لا تعيد صدامات عكا الدرس مرة أخرى بالأوهام الإسرائيلية حول التعايش في عكا فحسب، بل تعيد فتح ملف السياسات الإسرائيلية المتبعة تجاه الفلسطينيين داخل الخط الأخضر. والقصة الفلسطينية داخل “إسرائيل”، هي قصة حزينة، مثل كل القصص الفلسطينية. فسيرة الشعب هناك جزء من تاريخ المأساة الفلسطينية، وهو الجزء الذي بقي صامداً في مواجهة سياسات الطرد الصهيونية. ولم تفلح كل السياسات القمعية التي حاصرت هذا الشعب في أداء مهمتها في كسر الصمود الفلسطيني على الأرض الفلسطينية. ففي الوقت الذي خضع فلسطينيو بعد العام 1948 إلى الحكم العسكري لكسر الإرادة الفلسطينية، كان إصرارهم على التمسك بالأرض والوطن يزداد، رغم سياسات مصادرة الأراضي والقمع والإرهاب الصهيوني. وإذا كان العالم قد انشغل بضحايا النكبة الذين طردوا من وطنهم، وغيّب صورة الصامدين على أرضهم، فإن هذا الجزء كان يحفر صموده بالمعاناة والدم والدموع على أرض الوطن المصادرة.
كان اتساع حجم المأساة يحجب أجزاء من الشعب الفلسطيني ويظهر أخرى، ولكن الصورة الفلسطينية لا تكتمل إلا بأجزاء الشعب الفلسطيني الذي توالد مآسي في الوطن والمنافي خلال ستين عاماً. فبمقدار ما كانت الجريمة التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني كبيرة، بقدر ما وحدت هذا الشعب، حيث كتب تاريخ العدوان في المنطقة على الجسد الفلسطيني.
لم يحتج الفلسطينيون يوماً إلى اكتشاف جزئهم الصامد في الوطن، فهم إخوة وأقارب وأصدقاء لأولئك الذين هُجروا من وطنهم، وفي لحظات تاريخية لا بد للشعب الذي تعرض إلى أقصى حالات الظلم أن يعلن عن نفسه وبقوة. لم يتوقف هذا الشعب يوماً عن النضال من أجل حقوقه المشروعة. فإذا كان البعض قد اكتشف الفلسطينيين داخل مناطق 1948 كقوة سياسية قادرة على التأثير في السياسة الإسرائيلية من خلال المشاركة في اللعبة السياسية الإسرائيلية، وإذا كان هذا الاكتشاف قد تأخر إلى منتصف التسعينات، مع ظهور قوة الكتلة المانعة أثناء ولاية حكومة إسحاق رابين. فإن هذا الشعب كان طوال العقود الماضية يخوض معاركه الكبيرة والصغيرة للوصول إلى ما وصل إليه. فهو لم يولد بين ليلة وضحاها، فقد واجه وبكل صلابة سياسات الحكم العسكري الذي بقي مفروضاً عليه حتى عام 1966، وسياسات الإلغاء، ومصادرة الأراضي وتهويدها. وأعلن عن وجوده المدوي في انتفاضة «يوم الأرض» في عام 1976 في مواجهة هذه السياسات، ليكشف عنصرية “إسرائيل” وممارساتها التمييزية ضد أصحاب الأرض، وليعلن بالدم أنه ابن هذه الأرض وابن المأساة الفلسطينية.
منذ انتفاضة «يوم الأرض» في عام 1976 حاولت “إسرائيل” استيعاب ما تعتبره الأقلية العربية داخل “إسرائيل”، فقد أخافها التعبير عن الانتماء الوطني في مواجهة الدولة، بعد المصادرات التي قامت بها الحكومة الإسرائيلية لأراضي القرى والبلدات العربية. ولم تتوقع “إسرائيل” هذه الهبة الجماهيرية من فلسطينيي 1948 للدفاع عن الأرض، فحسب المنطق الإسرائيلي، على المهزوم أن يختفي من الصورة.
لقد عانى الفلسطينيون داخل مناطق 1948 من ظروف معقدة وتعرضوا لمخاطر كبيرة، فقد تشكل الوجود الفلسطيني هناك من بقايا المجتمع الفلسطيني بعد انهياره بفعل سياسات الطرد الصهيونية، وجعلهم هذا الوضع يعيشون ظروف تطور غير طبيعية. ف”إسرائيل” التي يعيشون تحت علمها دمرت مجتمعهم الفلسطيني، وأصبحوا يعيشون على أرضهم، وفي دولة لا ينتمون لها، دولة أقيمت على أنقاض مجتمعهم، وتحولوا إلى أقلية عربية تعيش في وسط يهودي يمارس ضدهم كل الممارسات العنصرية، على اعتبار أنهم مواطنون من الدرجة الثانية. فقد استثنتهم “إسرائيل” من إطار المواطنة الإسرائيلية، رغم أنهم يحملون الوثائق الإسرائيلية، فقد قررت منذ البداية أنها «دولة اليهود»، وهذه الهوية اليهودية للدولة أخرجتهم من مواطنية الدولة الإسرائيلية. وبصرف النظر عن المأساة التي تعرض لها الفلسطينيون، فالدولة التي تعرّف نفسها ملكية خاصة لنوع خاص من البشر، تستثني الآخرين مهما كانت انتماءاتهم الدينية أو الوطنية، حكمت على الفلسطينيين أن يبقوا غرباء على أرضهم، في دولة لا تعبر عن انتمائهم الوطني والقومي. وكان على الفلسطينيين أن يعيشوا على هامش المجتمع الإسرائيلي، وأن يتوغل هذا المجتمع في تهميشهم على كل المستويات الحياتية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية.
قامت المحاولات الإسرائيلية لدمجهم في المجتمع الإسرائيلي من خلال تحسين أوضاعهم المعيشية، وتحويلهم إلى مواطنين في دولة “إسرائيل”، حيث يكون ولاؤهم لها بعد أن اعتبرتهم على مدار عقود «طابوراً خامساً». وعرفت هذه السياسة بـ”الأسرلة”، هدفت إلى تحويل ولاء الأقلية العربية في “إسرائيل” إلى الدولة، بدلاً من الولاء الذي يحملونه إلى أطراف خارج الحدود، وأن يكف الفلسطينيون عن اعتبار أنفسهم كذلك، حيث المطلوب منهم أن يعرفوا أنفسهم كإسرائيليين. وما تجاهلته هذه السياسة التي اعتمدت تحسين الأوضاع المعيشية للعرب هو مشكلة الهوية الوطنية. ف”إسرائيل” ليست دولة الإسرائيليين، إنما دولة اليهود، ولأن المطلوب من الأسرلة التنازل عن الهوية والانتماء الوطني، فقد فشلت هذه السياسة. ولأن الهوية ليست سلعة تستبدل بأخرى حسب الطلب، فإن الهوية والانتماء الوطني كان المشكلة التي لا بد أن تظهر وتعبر عن نفسها بشكل صارخ.
كانت الانتفاضة الفلسطينية في عام 2000 الظرف المناسب ليعبر فلسطينيو 1948 عن حقيقة انتمائهم الوطني، وليطيحوا بسنوات من سياسة الأسرلة. وعلى الجانب الآخر عبرت قوات الشرطة من خلال القمع الشرس الذي واجهت به الجماهير الفلسطينية، عن استمرار نظرة المؤسسة الإسرائيلية إلى الأقلية العربية داخل “إسرائيل” بوصفها «طابوراً خامساً». فقد تعاملت الشرطة الإسرائيلية مع المظاهرات داخل الخط الأخضر كما تعامل الجيش الإسرائيلي مع المظاهرات في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. وقد وحدت الاحتجاجات الشعب الفلسطيني على طرفي الخط الأخضر، ولم يتعامل القمع الإسرائيلي مع العرب داخل “إسرائيل” بوصفهم مواطنين، وعادت هذه الممارسة لتظهر طبيعة “إسرائيل” الأصلية باعتبارها دولة عنصرية. وفي هذا الإطار لم يكن المرء يستطيع التمييز بين مشاهد الصدامات في رام الله ونابلس وغزة والخليل وبين تلك التي وقعت في أم الفحم والناصر وحيفا ويافا. فقد قدم الفلسطينيون داخل الخط الأخضر في الشهر الأول من الانتفاضة 11 شهيداً وأكثر من 200 جريح، وهو ما عبر عن حالة غضب واحتقان تجاوزت الاحتجاجات التي وقعت يوم الأرض في عام 1976.
واليوم، درس عكا بفشل التعايش يعيد التذكير بأن المشكلة الفلسطينية داخل “إسرائيل”، مشكلة مركبة من تمييز طبقي وعنصري وثقافي واستبعاد هوياتي، وإلغاء انتماءات وطنية، وجميع هذه المشكلات لا تراها “إسرائيل” في معالجة قضايا فلسطينيي 1948.
* كاتبة فلسطينية
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

مسؤولون بالبرلمان الأوروبي يطالبون إسرائيل بإنهاء حصار غزة فورا
المركز الفلسطيني للإعلام طالب قادة العديد من الجماعات السياسية في البرلمان الأوروبي اليوم السبت، إسرائيل بالاستئناف الفوري لإدخال المساعدات...

جراء التجويع والحصار .. موت صامت يأكل كبار السن في غزة
المركز الفلسطيني للإعلام قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إنّه إلى جانب أعداد الشهداء التي لا تتوقف جرّاء القصف الإسرائيلي المتواصل، فإنّ موتًا...

إصابات واعتقالات بمواجهات مع الاحتلال في رام الله
رام الله – المركز الفلسطيني للإعلام أُصيب عدد من الشبان واعتُقل آخرون خلال مواجهات اندلعت مع قوات الاحتلال الإسرائيلي في عدة بلدات بمحافظة رام الله...

القسام ينشر مقطع فيديو لأسيرين إسرائيليين أحدهما حاول الانتحار
المركز الفلسطيني للإعلام نشرت كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، السبت، مقطع فيديو لأسيرين إسرائيليين ظهر أحدهما بحالة صعبة وممددا على الفراش....

جرائم الإبادة تلاحق السياح الإسرائيليين في اليابان
المركز الفلسطيني للإعلام في خطوة احتجاجية غير مسبوقة، فرضت شركة تشغيل فنادق في مدينة كيوتو اليابانية على الزبائن الإسرائيليين توقيع تعهد بعدم التورط...

سلطة المياه: 85 % من منشآت المياه والصرف الصحي بغزة تعرضت لأضرار جسيمة
المركز الفلسطيني للإعلام حذرت سلطة المياه الفلسطينية من كارثة إنسانية وشيكة تهدد أكثر من 2.3 مليون مواطن في قطاع غزة، نتيجة انهيار شبه الكامل في...

تقرير: إسرائيل تقتل مرضى السرطان انتظارًا وتضعهم في أتون جريمة الإبادة الجماعية
المركز الفلسطيني للإعلام حذر المركز الفلسطيني لحقوق الانسان، من إصرار دولة الاحتلال الاسرائيلي على الاستمرار في حرمان مرضى الأورام السرطانية من...