من أجل أن ينجح الحوار الوطني الفلسطيني

صحيفة القدس العربي اللندنية
من المفترض أن يبدأ الحوار الوطني الفلسطيني في القاهرة بدعوة مصرية في نهاية هذا الشهر. أغلب التوقعات تشير إلى صعوبة التوصل إلى اتفاق، وتشكك في نوايا المشاركين وفي إمكانية تحقق النتائج المرجوة. انطلقت فكرة الحوار الفلسطيني الوطني منذ 2005، في ظل ارتفاع وتيرة التدافع السياسي الداخلي وافتراق وجهات النظر الفلسطينية حول المسائل الرئيسية التي ترتكز إليها القضية الوطنية. ولكن جولة الحوار الحالية أكثر إلحاحاً بكثير من الجولات السابقة؛ والسبب خلف هذا الإلحاح لا يخفى.
ففي صيف العام الماضي، وبعد شهور من الاشتباكات المتكررة بين القوى الموالية لحركة حماس والحكومة التي تقودها، من جهة، والقوات وعناصر الأجهزة الموالية لجناح معين في حركة فتح، من جهة أخرى، قامت حماس بحسم الموقف وفرض السيطرة الكاملة والأحادية على قطاع غزة. ما نتج عن الحسم العسكري كان سلسلة من التطورات السياسية الباهظة.
اعتبر الرئيس الفلسطيني محمود عباس أن ما قامت به حماس كان انقلاباً على الشرعية؛ وانقطعت بالتالي الصلة السياسية ـ الإدارية بين رام الله وغزة. ليس ذلك فحسب، بل أعلن الرئيس عباس إقالة الحكومة الفلسطينية التي تمتعت فيها حماس بوضع الأكثرية، وكلف سلام فياض بتشكيل حكومة طوارئ، سرعان ما تحولت إلى حكومة أمر واقع. مجمل الإجراءات التي اتخذها الرئيس الفلسطيني كان فوق ـ دستوري، بمعنى أن لا مسوغ شرعياً له في القانون الأساسي الذي تستند إليه سلطة الحكم الذاتي، ولم يرجع فيه إلى المجلس التشريعي (برلمان فلسطينيي الضفة والقطاع). ولكن الأمور لم تجر في سلطة الحكم الذاتي دائماً في شكل دستوري، ليس فقط لأن الوضع الفلسطيني هو في كليته وضع غير عادي، ولكن أيضاً لأن السياسة الفلسطينية هي انعكاس توازنات ومؤثرات عربية وإقليمية ودولية. من جهة أخرى، فإن ما تعهده عباس من إجراءات غير دستورية، رافقته من جانب حماس جملة إجراءات أحادية، تكفل سيطرتها الكاملة والمتفردة على قطاع غزة. كيف يمكن الآن جمع الشتات الفلسطيني، كيف يمكن التوصل إلى توافق يضع حداً للانقسام الإداري وللصراع السياسي، وضمن أي أفق؟ هذا هو الدافع الرئيسي خلف الحوار الفلسطيني المنشود.
الملاحظة الأولى حول الجهود المصرية، والتي تكاد أن تكون المسعى العربي الوحيد، لحل الإشكالات الفلسطينية الداخلية، أنها جاءت متأخرة. وقد سبقها، كما هو معروف، مسعى يمني، توصل بالفعل إلى اتفاق بين حماس وفتح، وانتهى إلى لا شيء، بعد أن رفضه الرئيس عباس كلية. ونظراً للدور المصري المميز في الساحة الفلسطينية، وهو الدور الذي تقر به أغلب الدول العربية، فمن الواضح أن القاهرة وضعت في حساباتها عدداً من الاعتبارات طوال العام ونصف العام الأخيرين. أهم هذه الاعتبارات كان، بالطبع، الموقف الأمريكي. فمنذ نجحت حماس في السيطرة على قطاع غزة، نظرت الإدارة الأمريكية إلى الوضع الفلسطيني باعتباره فرصة متاحة لإيقاع هزيمة بخصومها السياسيين في الشرق الأوسط. وقفت واشنطن ضد كل جهد عربي للتعامل مع الخلافات الفلسطينية، عملت على إحكام الحصار على قطاع غزة، ودعت إلى تنشيط مسار المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية، بهدف التوصل إلى اتفاق سلام نهائي (أو حتى اتفاق مبادئ) قبل نهاية العام الحالي.
ولأن العلاقات المصرية ـ الأمريكية لا تسمح بصدام مباشر مع الإدارة الأمريكية، مهما كان القلق المصري من عواقب الانقسام الفلسطيني، فقد أحجمت القاهرة عن بذل أي جهد حقيقي للتوصل إلى مصالحة فلسطينية، وساهمت مساهمة ملموسة في حصار قطاع غزة. ولكن الدور المصري في الحصار يجب النظر إليه باعتباره سياسة مركبة، وليس فقط كاستجابة للضغوط الأمريكية. فمن ناحية، سمحت السلطات المصرية بالقدر الضروري من الحركة بين القطاع ومصر، أي ما يتعلق بالمرضى والطلاب والمسافرين لأغراض العمل والحج. إضافة إلى ذلك، لم تحاول السلطات المصرية إيقاف حركة المال من الخارج إلى القطاع. ولكن مصر، كما أغلب الدول العربية، لم تنظر بارتياح كبير إلى سيطرة حماس المسلحة على قطاع غزة، وقدرت بالتالي أن السماح بحرية حركة كاملة بين القطاع ومصر سيعزز من سيطرة حماس، ويحرم القاهرة من ورقة الضغط الوحيدة التي تملكها للتأثير على قيادة حماس في القطاع. من جهة أخرى، فإن المعارضة الأمريكية للحوار الفلسطيني الداخلي لم تعد بالقوة التي كانت عليها. الوضع الأمريكي في المنطقة شهد تراجعات ملموسة خلال الشهور القليلة الماضية، سواء في لبنان، حيث عجزت واشنطن عن حماية حلفائها، وراقبت بدون دور يذكر كيف استطاعت دولة عربية صغيرة جمع الأطراف اللبنانية والتوصل إلى تفاهم لبناني داخلي، أو في المسار التفاوضي الفلسطيني ـ الإسرائيلي، حيث لم تتحقق الوعود بالتوصل إلى اتفاق فلسطيني ـ إسرائيلي.
ولما كان وعد الاتفاق هو ورقة رام الله والرئيس عباس الرئيسة في مواجهة حماس، فقد أصبح وضع المعسكر العربي المساند للرئيس الفلسطيني أضعف مما كان عليه. المسألة الأخرى التي جعلت الحوار الفلسطيني أكثر إلحاحاً هي بالتأكيد اقتراب نهاية ولاية الرئيس عباس، وما قد ينجم عن هذا الاستحقاق من عواقب، تمس بشرعية سلطة الحكم الذاتي ورئيسها. ولكن العامل الأبرز في مجمل هذه الحسابات كان بالتأكيد صمود أهالي قطاع غزة في مواجهة الحصار. باجتماع هذه العوامل معاً تراجعت لغة الشروط التي كان يلوح بها الرئيس عباس، وأصبحت رام الله أكثر استعداداً للحوار والتوصل إلى اتفاق. المشكلة الآن ليست في صعوبة التوصل إلى طريقة ما لحل إشكالية الخلاف والانقسام الداخليين؛ فهناك أكثر من طريقة ممكنة، من تشكيل حكومة وحدة وطنية جديدة، حكومة تكنوقراط تتفق عليها الأطراف المختلفة، إلى عقد انتخابات رئاسية وتشريعية متزامنة. وسائل وطرق الحل ليست مشكلة، المشكلة هي في الهدف الأكبر الذي سيعمل الحوار الوطني على تحقيقه، واستعداد كل من الأطراف الفلسطينية الرئيسية للاتفاق على هذا الهدف.
خلال الشهور الأخيرة، بدا وكأن بعض الأوساط في حركة حماس لا تعبأ كثيراً بفكرة العمل على حل الخلافات الفلسطينية وإعادة التواصل بين قطاع غزة ورام الله. عجز الإسرائيليين عن فرض حصار شامل على القطاع، في مواجهة معارضة عالمية، وبقاء خط الحياة الضروري مفتوحاً بين القطاع ومصر، وصمود أهالي القطاع، ساعد على تبلور قناعة في هذه الأوساط بإمكانية استمرار الأوضاع على ما هي عليه. منذ فوز حماس في الانتخابات الفلسطينية التشريعية، وفي أوساط حماس بقطاع غزة من أعطى أولوية لفرصة الحكم السانحة على حساب المسائل الرئيسية للقضية الوطنية. وقد شهد القطاع خلال هذا العام من الشواهد ما يؤكد على أن أولوية الحكم تصطدم بالضرورة مع جوانب بالغة الأهمية للقضية الوطنية؛ ليس فقط لأن تكريس حكم حماس في القطاع يؤبد حالة الانقسام الفلسطيني، ولكن أيضاً لأن السماح باستمرارية الوضع في القطاع على ما هو عليه تطلب تهدئة شاملة مع الاحتلال، وفجر صراعات مسلحة متكررة مع أسر وعائلات وتنظيمات فلسطينية أخرى. استمرار الوضع على ما هو عليه، بمعنى تكريس حكم حماس المتفرد في قطاع غزة، ليس برنامجاً نضالياً، ولن يساعد على تحقيق الحقوق الوطنية الفلسطينية.
أما من زاوية الرئاسة الفلسطينية وإدارة رام الله، فليس من الخفي أن الرئيس عباس كان معارضاً أساسياً للانتفاضة الفلسطينية الثانية، ولكل وسائل التعبير التي اعتمدتها نشاطات الانتفاضة. وبالرغم من أن من الصعب تصور قبول عباس بما هو أقل مما طالب به عرفات، فقد أعلن الرئيس الفلسطيني، مراراً وتكراراً، إيمانه القاطع بنهج التفاوض، وبأن الحركة الوطنية الفلسطينية ليس أمامها لتحقيق الحد الأدنى من أهدافها سوى التفاوض وحشد ما يمكنها من الدعم العربي والدولي، سيما التفهم الأمريكي للمطالب الفلسطينية. ولكن الواضح أن الرئيس الفلسطيني لم يلحظ بعد أن الفرصة التفاوضية التي أتيحت في مسار أنابوليس لم تصل إلى نتيجة تذكر، وأن مثل هذه الفرصة لن تتاح له ربما لعدة سنوات قادمة. الوضع السياسي الإسرائيلي، مهما كانت حظوظ ليفني في تشكيل حكومة جديدة، دخل مرحلة انتقالية قد تطول، وقد تنتهي بعودة الليكود إلى الحكم. وفي ظل أوضاع التأزم الاقتصادي والمالي العالمي، وانتقال السلطة في الولايات المتحدة، فقد تمر فترة طويلة نسبياً قبل أن تعود القضية الفلسطينية إلى جدول الأعمال الأمريكي والدولي. الأهم، أنه لا على الساحة الفلسطينية نفسها، ولا على مستوى توازن القوة الإقليمي، ثمة ما يجعل التسوية أمراً ملحاً، أو ما يجبر الإسرائيليين على التقدم بصيغة مقبولة نسبياً للتسوية.
وهذه هي الأسئلة الكبرى الذي ينبغي لحماس ولعباس وكافة القوى الفلسطينية الأخرى التعامل معها. إن كانت حماس تهدف من الحوار تحقيق مكاسب تنظيمية فئوية، تتعلق باستمرار سيطرتها على قطاع غزة، والتضحية بالتالي بالأهداف الوطنية الرئيسية، فلن يصل الحوار إلى نتيجة. وإن كان هدف عباس دفع حماس خطوة أخرى نحو تبني تصوره لمستقبل ونهج الحركة الوطنية الفلسطينية، بعد أن أخفق هذا التصور في إقناع الإسرائيليين بتفكيك ولو حاجز أمني واحد في الضفة الغربية، ناهيك عن التوصل إلى اتفاق سلام نهائي، فلن يصل الحوار إلى نتيجة. وإن كان هدف مجموعة رام الله توفير غطاء عربي لإطاحة حماس، بهذه الوسيلة أو تلك، من السلطة، والعودة بالحكم الذاتي إلى سيطرة طبقة أوسلو المعروفة، فلن يصل الحوار إلى نتيجة. وإن كان هدف الوسيط المصري مجرد التخلص من هيمنة حماس على قطاع غزة، فلن يصل الحوار إلى نتيجة. ما يحتاجه الوضع الفلسطيني الآن هو بالتأكيد إعادة اللحمة والتفاهم والسلم الفلسطيني الداخلي، ولكن ما يحتاجه أكثر هو تقدير موضوعي ودقيق لوضع القضية الوطنية، وكيفية الخروج بها من استقطاب نهج تفاوضي غير مجد، ورغبة في الحكم تفضي إلى التضحية بالقضية الوطنية.
* كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

الأورومتوسطي: إسرائيل تمارس حرب تجويع شرسة في قطاع غزة
غزة- المركز الفلسطيني للإعلام أكد المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، أن الهجوم الإسرائيلي المتواصل والحصار الخانق والنقص الحاد في الإمدادات...

550 مسؤولا أمنيا إسرائيليا سابقا يطالبون ترامب بوقف الحرب بغزة
القدس المحتلة – المركز الفلسطيني للإعلام طالب مئات المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين السابقين الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالعمل على وقف الحرب في...

حماس تدعو للنفير لحماية الأقصى بعد محاولة ذبح القرابين
القدس المحتلة – حركة حماس قالت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، إن محاولة المستوطنين ذبح قربان في المسجد الأقصى يعد تصعيداً خطيراً يستدعي النفير...

مؤسسات الأسرى: تصعيد ممنهج وجرائم مركّبة بحق الأسرى خلال نيسان الماضي
رام الله - المركز الفلسطيني للإعلام واصلت سلطات الاحتلال الإسرائيلي خلال شهر نيسان/ إبريل 2025 تنفيذ حملات اعتقال ممنهجة في محافظات الضفة الغربية،...

إضراب جماعي عن الطعام في جامعة بيرزيت إسنادًا لغزة
رام الله- المركز الفلسطيني للإعلام أضرب طلاب ومحاضرون وموظفون في جامعة بيرزيت، اليوم الاثنين، عن الطعام ليومٍ واحد، في خطوة رمزية تضامنية مع سكان...

القسام تفرج عن الجندي مزدوج الجنسية عيدان ألكساندر
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أفرجت كتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، عند الساعة 6:30 من مساء اليوم...

خطيب الأقصى: إدخال القرابين يجب التصدي له بكل قوة
القدس – المركز الفلسطيني للإعلام استنكر خطيب المسجد الأقصى الشيخ عكرمة صبري، محاولة يهود متطرفين إدخال قرابين إلى ساحات المسجد الأقصى، معتبراً أنه...