الأحد 11/مايو/2025

نحو ترشيد جدل الولاية الرئاسية الفلسطينية

نحو ترشيد جدل الولاية الرئاسية الفلسطينية

صحيفة البيان الإماراتية

في وقت بالغ الحرج، اقتحمت مسألة تحديد نهاية فترة ولاية الرئيس محمود عباس خطوط التماس والاصطكاك الملتهبة بين حركتي فتح وحماس. جاءت بداية هذه الولاية محفوفة بالجدل والنقاش، وربما بالحيرة أيضاً، حول آفاق النظام الفلسطيني وقضيته الوطنية في ظل غياب قيادة ياسر عرفات الكارزمية.

وقتذاك، تمكن الشركاء داخل النظام وخارجه، بعد بعض المماحكات، من حسم أمر الرئاسة وفقاً للأطر القانونية شبه الدستورية المعمول بها. لقد وفر ما تيسر من تلك الأطر سياجاً حامياً واقياً للمجتمع السياسي وقواه المتشاكسة من الوقوع في فتنة كيفية ملء فراغ ما بعد مرحلة «الزعيم الملهم» وضابط الإيقاع بالخيار الديمقراطي الانتخابي.

والحق أن الشرعية الانتخابية للرئيس الفلسطيني مارست دوراً قوياً في تلطيف نتائج الصدام الدامي بعد عامين… فبفضل الاستظلال بهذه الشرعية، طالبت الحالة الفلسطينية بفك الحصار وسعت للإفلات من تهمة عدم وجود شريك تفاوضي أمام “إسرائيل” أولاً والعالم ثانياً، كما صانت قدراً من التماسك المجتمعي والمؤسساتي. ولنا أن نتصور أي مصير كان ليلحق بشكل النظام الفلسطيني ومحتواه وصورته لو أن الرئاسة الفلسطينية افتقدت لهذا العنصر، عنصر الشرعية الانتخابية!.

الشاهد الآن، أن القوى الفلسطينية، بين يدي قضية تحديد نهاية ولاية الرئيس، هي أحوج ألف مرة إلى إحياء فضيلة الجدل القانوني القضائي الدستوري مما كان عليه الحال عند البداية. لماذا؟… لان التشاد والتباغض هبطا بين هذه القوى دركاً أسفل، أضحى من السهل فيه اللجوء إلى لغة القوة والدم.

علينا أن نعترف بأن فلسطينيي اليوم يعيشون جرائر ثارات بينهم وانقسامات، تعامدت على بعضها سياسياً وإيديولوجياً وجغرافياً واقتصادياً… حتى صار البعض يظن أن لا تلاقيا. وهذه لعمرك بيئة لافظة ومعاكسة لفكرة الاحتكام للقانون والدستور والقضاء المحايد.

هذا المشهد يستدرجنا لاستطلاع التطور الدستوري للحالة الفلسطينية. وهنا نلاحظ أن فلسطين لم تكن يوماً سائبة دستورياً، أقله قياساً بالكيانات القطرية المحيطة بها.

علينا وعلى المعنيين بهذه الجزئية استذكار أن فلسطين عرفت الحياة الدستورية، كشأن بقية أقاليم الدولة العثمانية منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر. وقد شارك ممثلون منتخبون عنها في «مجلس المبعوثين» وفق القواعد المرعية في تلك الفترة. وبحلول الانتداب البريطاني، لم تخل فلسطين من البعد الدستوري لتنظيم الحياة السياسية وغير السياسية. فباسم التاج البريطاني أصدر مجلس الملك الخاص دستور فلسطين في أغسطس 1922.

ومن المؤكد أننا نختلف مع مضمون ذلك الدستور ودلالاته وتداعياته على القضية الوطنية الفلسطينية ، لكننا نتفق مع كونه أحد الحقائق الموجودة في زمنه.

كذلك يلفت النظر، أنه قبل اكتمال ملامح النكبة الفلسطينية، صاغت «حكومة عموم فلسطين» في أكتوبر 1948 دستوراً أكد استمرار الحياة الدستورية. وبغض النظر عن حظه من التطبيق، فقد استمر هذا الملمح الدستوري الجامع قائماً إلى أن استبدل بالميثاق القومي لمنظمة التحرير (1964).

ومن المعلوم أنه حين اتجهت الدورة الرابعة للمجلس الوطني الفلسطيني في يوليو 1968 إلى إجراء تعديلات جوهرية على ذلك الميثاق، بما في ذلك تغيير عنوانه إلى الميثاق الوطني، فإنها لم تنفض قبل الخروج على الملأ بميثاقها المعدل.

لقد توفرت والحال كذلك الاستمرارية الدستورية الفلسطينية، حتى لو لم تأخذ هذا المسمى ولم تفعل على مدار مراحل الصراع الصهيوني العربي. ولم تحدث قطيعة دستورية في مختلف أحوال الشعب الفلسطيني وقضيته قبل النكبة وبعدها. نستذكر هذا كله في عجالة كي نؤكد أن المروق إلى مربعات العنف حالة استثنائية وينبغي أن تظل كذلك في إطار التعامل مع قضية الولاية الرئاسية.

ومن مسوغات هذا التوكيد أن لهذه القضية قوانين تقضي فيها وتقول كلمتها. ولذا فانه لا حجة لأحد حين يتذرع بانعدام هذه القوانين، محاولاً جرجرة المجتمع السياسي الفلسطيني إلى مزيد من الاحتكاك العنيف. أكثر من هذا أن القوى المعنية بالقضية تستطيع، لو حسنت النوايا، أن تتخذ من الالتزام بالتخاصم القضائي حولها نموذجاً للتعامل مع قضايا عالقة أخرى فيما بينها.

نحن ندعو – بصيغة أخرى – إلى تشجيع التراشق والقصف والتلاوم المتبادل فلسطينياً بلغة النظام والقانون وشرعة القضاء والدستور.. بالكلمات لا باللكمات.. بالآراء المطعمة بالنصوص الدستورية وتفسيراتها.. بمرجعيات الفقه وأقوال الفقهاء وأهل الذكر من رجال القانون.. لا أكثر ولا أقل.

نحن نتطلع إلى تأطير حديث الفترة الرئاسية بهذه الضوابط الحضارية الصارمة، إلى أن يهتدي القوم إلى رأي يجمعون عليه ويستحسنون العمل به. هذا أسلم وأأمن لفلسطين، القضية والناس والقوى السياسية، من أي منهجية أخرى تفضي إلى تفاقم الصدوع الراهنة وتفتح الأبواب لمزيد من الفتن.

كاتب وأكاديمي فلسطيني

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات