الثلاثاء 13/مايو/2025

إسرائيل… سؤال الوجود والشرعية

إسرائيل… سؤال الوجود والشرعية

صحيفة الاتحاد الإماراتية

سؤال يتردد في بعض القطاعات في “إسرائيل” الآن ويتزايد باستمرار عن شرعية وجود “إسرائيل” بعد ستين عاماً من تأسيسها (1948-2008). وقد ظهر ذلك في المبالغة في هذه الاحتفالات لتغطية أزمة الوجود الشرعي. كما كشفت عنه زلة لسان الرئيس الأميركي وهو يشارك في الاحتفالات بثنائه على الستين سنة الماضية وسؤاله عن مستقبل “إسرائيل” في الستين سنة القادمة.

لقد انتهى عصر هرتزل منظر”الدولة اليهودية” في مؤتمر بازل1897. وانتهت أساطير التكوين الأولى “شعب الله المختار” “أرض المعاد” الوعد التي دحضها كثير من المؤرخين والساسة والمفكرين والباحثين وعلى رأسهم جارودي وشومسكي. وانقضى القرن التاسع عشر بروحه القومية والعودة إلى الأرحام والرومانسية والدولة الوطنية كحل لمشكلة الإمبراطوريات الأوروبية النمساوية والمجرية وغيرها من القوى الأوروبية التقليدية.

وفي نفس الوقت انتهى عصر الضعف العربي منذ النكبة في 1948 والذي بلغ الذروة في النكسة في 1967. فقد تم إغراق المدمرة إيلات بعد أشهر من الهزيمة في أواخر 1967. وصمدت القوات المصرية في معركة رأس العش في نفس العام. وسرعان ما نشبت معركة الكرامة في وادي الأردن بين الفلسطينيين وجنود الاحتلال في 1968. واندلعت حرب الاستنزاف على ضفاف القناة عامي 1968- 1969. ثم اندلعت حرب أكتوبر1973. وتم عبور القناة بإبداع عربي أصيل. وفشل حصار بيروت 1982. وتم تحرير جنوب لبنان في 2000. واندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في 1987 والثانية في 2001 والثالثة على الأبواب. وأخيراً جاء انتصار يوليو 2006 تتويجاً لسنوات طويلة من المقاومة بإبداع عربي أصيل. شعب في مواجهة جيش. ومقاومة في مواجهة دولة. ورجل في مواجهة دبابة. وصاروخ على المدن في مواجهة طائرة تقذف المدنيين. وانتهى غرور القوة في “إسرائيل” وأسطورة الجيش الذي لا يقهر وذراع “إسرائيل” الطويلة.

واستمر الصمود العربي وعدم التنازل عن الحقوق. بل إن الدول العربية الثلاث التي اعترفت ب”إسرائيل” مصر والأردن وموريتانيا ظهرت فيها أكبر حركة لمقاومة التطبيع. وتحولت القضية الفلسطينية إلى قضية شعبية بعد أن كانت حكراً على الأنظمة العربية. قويت الحركة الشعبية الرافضة للتطبيع في الأردن ومصر. وأصبح الاعتراف الموريتاني أحد العوامل المشكلة في السياسة الموريتانية وأصبح وقفه مطلباً رئيسياً لكل الأحزاب السياسية. والغالبية من النظم العربية مازالت رافضة للصلح والاعتراف قبل نيل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. وقدم العرب مبادرة السلام العربية ليبينوا للعالم أن السلام خيار استراتيجي وأنهم دعاة سلام لا حرب وأنه فرق بين المقاومة والإرهاب. المقاومة مشروعة ضد الاحتلال. والإرهاب بمعنى ترويع الآمنين غير مشروع. ومازال التعبير “”إسرائيل” المزعومة” الذي أصبح مناط التهكم والإحساس بالهزيمة يسري في اللاوعي العربي. فلا أحد من العرب يعتقد أن وجود “إسرائيل” وجود شرعي.

وقد بدأ نفس الإحساس يتزايد في الوعي الإسرائيلي. بدأ لدى اليسار التقليدي خاصة الماركسي ثم الليبرالي ثم المتدين متمسكاً بمبادئ اليهودية وشريعة موسى وليس بالعقيدة الصهيونية وشرائع جابوتنسكي وهرتزل وبيجين وشارون. وبدأت حركة اليسار الجديد تعتمد على حقوق الإنسان. يشارك فيها عديد من المثقفين والفنانين وأساتذة الجامعات في “إسرائيل” مطالبين برفع الظلم عن الشعب الفلسطيني وأنه يمكن إقامة دولة “إسرائيل” دون الصهيونية مع الاعتراف بحقوق شعب فلسطين في دولة علمانية متعددة الجنسيات والطوائف. وهو ما نص عليه الميثاق الوطني الفلسطيني الأول قبل الاعتراف بمشروع الدولتين وإعلان قيام دولة فلسطين من جانب واحد والتي تمثلها الآن السلطة الوطنية الفلسطينية. وأكبر مُعبر عن هذا التيار الجديد “إيلان بابيه” الذي يطالب بالاعتذار التاريخي من دولة “إسرائيل” على ما حل بالفلسطينيين من تشريد وطرد واضطهاد وقتل منذ 1948. ثم يطالب بالمصالحة التاريخية بين الفلسطينيين والإسرائيليين والعيش في دولة ديمقراطية واحدة يتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات.

لم يعد الوعي الإسرائيلي في قطاعات متزايدة منه يتحمل الفظائع التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في الأراضي المحتلة ولا الإرهاب الذي يمارسه المستوطنون ضد الشعب الفلسطيني. لم يعد يتحمل ما تتناقله وسائل الإعلام من تجريف للأراضي وهدم للمنازل وقتل للنساء والأطفال والشيوخ وتصفيات جسدية لنشطاء المقاومة. القوة وحدها لا تقيم شرعية بل العدل. ومهما بلغت القوة من مدى فإنها ليست بديلاً عن الحق. فالحق فوق القوة. القوة أمدها قصير. وتخضع لتبدل موازينها. في حين إن الحق أمده طويل. ولا يتغير طالما تمسك به أصحابه. على الحق قامت السماوات والأرض، وعلى العدل قامت الشرائع السماوية والأرضية.

وبعد الانتفاضتين الأولى والثانية وبعدما شاهد العالم كله من تضحيات لشعب فلسطين بدأ العالم يعترف تدريجياً بحقوق شعب فلسطين في أوساط المثقفين وفي أروقة الجامعات. ثم تحول إلى الساسة أوروبا وأميركا بالإضافة إلى شعوب العالم الثالث. بدأ الاعتراف المتبادل بين “إسرائيل” وفلسطين. وصيغت ورقة كلينتون لإقامة دولتين. وأعادت صياغتها خريطة الطريق. واعترفت العديد من المنظمات الدولية بحقوق شعب فلسطين. وظهر فلسطينيون يمثلون الضمير العالمي مثل إدوارد سعيد ومحمود درويش وناجي العلي مع غيرهم من المثقفين والأساتذة الإسرائيليين مثل “إسرائيل شاحاق”. وتمت صياغة وثائق مشتركة من الفلسطينيين والإسرائيليين تعترف بحقوق شعب فلسطين مثل وثيقة جنيف. وعقدت مؤتمرات لتحقيق هذه الغاية مثل مؤتمر مدريد القائم على الأرض في مقابل السلام بل “اتفاقيات أوسلو” التي شرَّعت لوجود السلطة الوطنية الفلسطينية وعودة ياسر عرفات من المنفي إلى فلسطين.

وازداد الرأي العام العالمي وعياً بالقضية. وبدأت منظمة العفو الدولية ومنظمات حقوق الإنسان تكشف عن الممارسات القمعية التي تقوم بها “إسرائيل” ضد الشعب الفلسطيني. وقامت المظاهرات من داخل “إسرائيل” ضد جدار الفصل العنصري. وأصدرت محكمة العدل الدولية قراراً ببطلان هذا الجدار العازل وعدم شرعيته. وأصبحت مئات القرارات الدولية لصالح القضية الفلسطينية تمثل ثقلاً على الضمير العالمي.

المعركة طويلة بين الشعب الفلسطيني والكيان الصهيوني ليس فقط عن طريق الجيوش العربية كما حدث في الحروب العربية الإسرائيلية الخمس السابقة ولا عن طريق المقاومة الشعبية كما يحدث في فلسطين ولبنان بل عن طريق التمسك بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وعدم المساومة على أي منها. وبقدر ما يقوى هذا التمسك تضعف شرعية الوجود الإسرائيلي ويزداد الوعي بأن غطرسة القوة لها حدود وبأن القوة لا تصنع حقاً وليست بديلاً عنه.

لقد نشأت “إسرائيل” وموازين القوى ليست في صالح العرب. فقد احتلت معظم الدول العربية بعد الحرب العالمية الأولى وخسارة تركيا الحرب وتوزيع إمبراطوريتها الواسعة على القوى الغربية الصاعدة فرنسا وبريطانيا. واعتمدت “إسرائيل” في نشأتها على بريطانيا ابتداء من وعد بلفور في 1917. ولما تحولت الموازين الدولية من بريطانيا إلى أميركا اعتمدت “إسرائيل” على الولايات المتحدة الأميركية بالسلاح والتأييد الدولي. والآن تتغير موازين القوى مرة ثالثة. فالإمبراطورية الأميركية ليست دائمة. وبعد الغزو الأميركي لأفغانستان والعراق والتأييد المطلق للعدوان الإسرائيلي بدأ ينقشع أيضاً غرور القوة. ولن تبقى أميركا إلى الأبد القوة العسكرية والاقتصادية الأولى في العالم. الآن تتبدل موازين القوى من الغرب إلى الشرق ومن أوروبا إلى آسيا ومن أميركا إلى الصين. والآن تسترد روسيا عافيتها ودورها الدولي. وبدأت دول عربية وإسلامية تلعب دورها على الساحة الدولية مثل سوريا ولبنان وتركيا وماليزيا وإندونيسيا وباكستان والهند وبعض دول أواسط آسيا. قد يتغير محور القوة من الغرب إلى الشرق. هنا يحدث تحول في القضية الفلسطينية. وكما انحاز الغرب إلى “إسرائيل” في نشأتها ينحاز الشرق إلى فلسطين لاستعادة حقوقها. الوجود بلا شرعية سرعان ما يتلاشى. والشرعية بلا وجود سرعان ما توجد. فالقوة وجود بلا شرعية والحق شرعية ووجود.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات