الإثنين 12/مايو/2025

عشية الحوار الفلسطيني.. أفكار للتداول

عشية الحوار الفلسطيني.. أفكار للتداول

صحيفة البيان الإماراتية

غداة إبرام اتفاق أوسلو، ذهب بعض معارضيه من الذين أيقنوا أنهم بصدد أمر واقع يصعب التراجع عنه، إلى رأي مفاده أنه إذا كان لابد من نشوء سلطة فلسطينية للحكم الذاتي في الضفة وغزة، فليتم ذلك بمعزل نسبي عن منظمة التحرير الأم، بحيث تكون السلطة بشكل كامل دائرة ملحقة بالمنظمة، تعمل تحت إمرتها وفقاً لصيغة معينة لن يعز اجتراحها.

كان هؤلاء يخشون على مكانة المنظمة وهيبتها ووحدانية تمثيلها للفلسطينيين وقضيتهم الوطنية في الداخل والملاجئ، ومن وقوعها تحت طائلة الضغوط والابتزازات إذا انتقلت بقيادتها ومؤسساتها إلى جوف الوحش الإسرائيلي. والواقع أن تلك المخاوف ونحوها لم تكن بلا أساس، أقله بالنظر إلى فضفاضية وضبابية معظم نصوص أوسلو وحاجتها إلى توابع واتفاقات تفسيرية أو تفصيلية لا حصر لها.

وكذلك بالنظر إلى خلو هذه النصوص مما يؤكد صراحة أن أفق المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية هو قيام دولة فلسطينية ذات سيادة في حدود الأرض المحتلة سنة 1967 عاصمتها القدس الشريف، أو يعلن اعتراف “إسرائيل” بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير!.. هذا علاوة على أن شيئاً لم يصدر عن “إسرائيل” يعد بحصانة حقيقية لرموز المنظمة، قيادة وكوادر ومؤسسات أو بمعاملتها كحكومة لدولة على طريق التبلور والإقلاع.

لكن الذي حدث هو اعتكاف هذا الرأي في زحمة عمليات الهدم والبناء وورشة ثقافة السلام والوعود الكبرى التي جرى الترويج لها بين يدي تسويق أوسلو. وفي هذه الغضون انتقلت قيادة المنظمة إلى الداخل جامعة إلى رئاستها المتعددة رئاسة السلطة، وكان ذلك يحتمل استدراج أي ضغوط تتعرض لها سلطة الحكم الذاتي إلى رحاب المنظمة. وهو ما حدث غير مرة وفي أكثر من مناسبة، لعل أشهرها احتجاز هذه الرئاسة المزدوجة ممثلة في المرحوم ياسر عرفات ووضعها تحت الإقامة الجبرية حتى الموت، بما أضعف فعالية الكيانين معاً، السلطة والمنظمة.

في كل حال، برزت في عهد أوسلو وتوابعه صدقية الظنون التي هجس بها القائلون بنظرية «الفصل مع الوصل» بين المنظمة والسلطة. إذ انداحت الأخيرة على الأولى مستقطعة من صلاحياتها ووظائفها وأدوارها بشكل حثيث، حتى اختلط على المختصين بالشؤون الفلسطينية، ناهيك عن العامة، التمييز بين الأصل والفرع، بل صار للفرع (السلطة) مسميات ومصطلحات أكبر شأناً في قاموس النظم السياسية والأعراف الدبلوماسية من تلك التي يحملها الأصل!

 (حكومة ورئيس حكومة ومجلس تشريعي ووزراء ووكلاء وزارات في السلطة، مقابل لجنة تنفيذية ودوائر ومديري دوائر ومجلس وطني في المنظمة). وفي حالات فارقة بعينها كانت التعارضات بين الكيانين ومحاولة نزع صلاحيات الأصل لصالح الفرع جلية إلى درجة مذهلة هذا ما جرى مثلاً – بنظر البعض – بخصوص الشؤون الخارجية وأحقية التمثيل أمام المحافل الإقليمية والدولية.

حري بالاستطراد هنا أن أحد من الباحثين عن مد نفوذ السلطة على حساب المنظمة لم يسأل عن مغزى عدم اعتراض “إسرائيل” على هذه الظاهرة رغم مخالفتها لاتفاق أوسلو. والسبب كما يقال إن تل أبيب كانت سعيدة بهذه المخالفة التي تفت في عضد الكيان الفلسطيني السياسي الأصل من دون أن تعزز الفرع بالضرورة.

ويبدو أن هذا ما تحقق بالفعل فقد أصيب النظام الفلسطيني بهوس الداخل وتضخم الحديث عن تحول مركز الثقل من تونس إلى رام الله وغزة. وجاء حين من الوقت اتهم فيه المستنكفون عن الالتحاق بالسلطة وهيئاتها أو دخول الضفة وغزة في وطنيتهم وشجاعتهم حتى وإن كان هؤلاء من أعضاء اللجنة التنفيذية للمنظمة أو الأمناء العاملين للفصائل.

بل مضى البعض إلى اعتقاد بأن من لا يتمرغ في تراب السلطة لن يكون له مستقبل سياسي أو اقتصادي. وجرت مقارنات تقيس مكانة المسؤولين والكوادر وشيوخ العمل الفلسطيني العام بمدى قربهم أو بعدهم من السلطة وليس المنظمة.

ولأغراض استيعابية ومن منطلق الشعور بالمسؤولية الاجتماعية والاقتصادية، اتبعت السلطة سياسات توسعية في التوظيف والإنفاق العام حتى أمست عائلاً لثلث أبناء الضفة وغزة. وهذه وضعية لا سابقة لها في خبرات الحكومات ولا الثورات، جعلت البعض يقولون إن السلطة أحالت شعبها برمته إلى موظفين!. نفهم أن لهذه الحالة مبرراتها لكنها تبقى استثنائية وذات دلالة لا يمكن لعاقل إغفالها وهو يستطلع مغزى وجدوى وجود السلطة أو تفكيكها.

غير أن كثيراً من المداخلات، لاسيما تلك التي لا تعطف عليها و تفضل حلها ونفض أيدي النظام الفلسطيني منها، تبدو وقد وقعت في خطيئة هذا الإغفال. إذ لا يلاحظ القائلون بهذا الخيار المياه الغزيرة التي مرت خلال عهد السلطة تحت جسور القضية الفلسطينية ومنظمة التحرير، وحجم المصالح والتعقيدات التي ارتبطت بهذا العهد فلسطينياً وإقليمياً وإسرائيلياً ودولياً. ولو أنهم فعلوا ذلك لأدركوا مثلاً أن تغيب السلطة في إطار عجز المنظمة ربما أدى إلى سيولة كبرى في كيانية الشعب الفلسطيني السياسية.

ويفرط هؤلاء في التفاؤل حين يتوقعون أن يساهم حل السلطة في تجلية صورة “إسرائيل” كدولة احتلال، ومن ثم إعادة إلقاء أعباء هذه الحالة عليها طبقاً لمقتضيات القانون الدولي. ف”إسرائيل” لم تكن يوماً على صلة حميمة بالشرعية والقانون الدوليين، كما أنها تقارب الأراضي الفلسطينية كفضاء متنازع عليه بأكثر ممن تنظر إليها كمناطق محتلة.

وثمة احتمال قوي بأن تطالب تل أبيب بإزالة ما ترتب على قيام السلطة من آثار مباشرة كوجود نحو ثلاثين ألف مسلح من قوات الأمن الفلسطينية المتعددة الأسماء، وعدد لا يحصى من الهيئات والمؤسسات التي تقدم لأبناء الضفة وغزة خدمات جليلة. ولا نحسب أن الحالة الفلسطينية تسمح بإيجاد البديل واستيعاب تداعيات إجراءات كهذه.

باقتضاب نود لفت انتباه إلى أن زوال السلطة لن يعني استئناف الفلسطينيين حياتهم النظامية واليومية من النقطة التي كانوا عليها يوم قامت هذه السلطة قبل أربعة عشر عاماً. الأكثر معقولية والأقرب إلى المنطق هو النظر جدياً في كيفية الفصل والوصل بين هذه السلطة والمنظمة الأم.

وهذا يستدعي إيقاظ الأخيرة من غفوتها الممتدة وتقعيدها على سكة الفاعلية، مع أخذ المستجدات والمتغيرات في بيئاتها المحلية والإقليمية والدولية بعين الاعتبار والتدبر. كما يستدعي بشكل عاجل غزل حبال الوحدة الوطنية من قبل أن تتشظى الحالة الفلسطينية، حقيقة لا جدلاً وافتراضاً، إلى أكثر من سلطة ومنظمة.

كاتب وأكاديمي فلسطيني

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات