عن حركة الاستيطان الدينية ودولة إسرائيل: الاستيطان حتى ظهور المنقذ

صحيفة المستقبل
في السنوات الأخيرة لاحظ العديد من المراقبين والباحثين في العالم ظاهرة الاغتراب التي بدأت تحدث بين حركة المستوطنين في “إسرائيل” وبين دولتهم، حتى بدا أن الطلاق بين الاثنين أصبح أمراً واقعاً لا رجعة فيه منذ أن دخل الطرفان في تنافس حاد حول شرعية تمثيل كل منهما للحركة الصهيونية. لم يعد من الخافي على أحد أن المؤسسات الرسمية لدولة “إسرائيل” فقدت بالنسبة للعديد من المستوطنين “المؤمنين” شرعيتها، منذ قرار “إسرائيل” الدخول في مفاوضات مباشرة مع منظمة التحرير الفلسطينية والذي أسفر في حينه عن اتفاق أوسلو. الرافضون لهذا الاتفاق من غلاة المتعصبين يمكن العثور عليهم على الجانب الإسرائيلي في صفوف حركة المستوطنين. عن هذا الموضوع كتب بشكل شيق ومتمعن الألماني ستيفان هاغيمان الذي يعمل باحثاً متخصصاً في شؤون “إسرائيل” والشرق الأوسط، في معهد “أوتو سور” للعلوم السياسية بجامعة برلين الحرة. في ما يلي ننقل عن الألمانية وبتصرف ورقته البحثية التي قدمها قبل فترة قريبة في هذا الشأن.
بينما كانت كل “إسرائيل” تحتفل في مايو/أيار الماضي بمناسبة مرور ستين عاماً على تأسيسها، حرص عدد كبير من المستوطنين على البقاء بعيداً عن هذه الاحتفالات. لقد أثرت بشكل عميق أيضاً على مشاعر الخائبين من المستوطنين السنوات الثلاث التي مرت على انسحاب “إسرائيل” من قطاع غزة. الغضب والخيانة هي ما ميز علاقة المستوطنين هؤلاء مع دولة “إسرائيل”. أغلبية منهم قررت عدم رفع العلم الإسرائيلي في يوم 8 مايو/أيار الماضي، أو على الأقل رفع العلم مع تزويده بأشرطة صفراء ـ رمز لون مقاومة المستوطنين في قطاع غزة، بل أكثر من ذلك حاول بعض المستوطنين الشباب وبالذات في مستوطنة “هوميش” بشمال الضفة الغربية التي سبق وأن أُخليت في عام 2005، لكي يعبروا بشكل رمزي عن تقوية حق مطالبة الشعب اليهودي بكل البلاد التوراتية!
المبادرات هذه هي علامات لافتة لظاهرة الاغتراب المتزايد الناشئ بين صفوف المستوطنين في علاقتهم بدولة “إسرائيل”، مثلما هي أدلة تشير إلى التحول الجذري العميق الذي تعرضت له حركة المستوطنين، خصوصاً وأنهم كانوا ينظرون إلى هذه المناسبة، (مناسبة تأسيس إسرائيل) بصفتها رمزاً لاقتراب موعد ظهور المنقذ، لكي يمنحوا المشروع الصهيوني العلماني الأصل معنى دينياً: فتحت السطح العلماني الظاهر، هذا ما تقوله الرسالة، يؤثر شعاع إلهي، والذي سيظهر للعلن بشكل كامل خلال عملية ظهور “المنقذ”. تأسيس الدولة هو فقط بداية الانبعاث المنتظر والذي يصبّ في النهاية في الرابطة التي تجعل العناصر الثلاثة، الشعب والأرض والتوراة تلتحم مع بعضها بعضاً.
اتفاق أوسلو، قبل كل شيء، ثم الانسحاب من قطاع غزة، أوقع المستوطنين في أزمة عميقة. ففي عرفهم تنازلت “إسرائيل” للمرة الأولى عن جزء مقدس من الأرض… أمر يتناقض مع أيديولوجية المستوطنين: كيف تستطيع دولة تقوم بإخلاء المستوطنات أن تطلق على نفسها صفة “مقدسة”؟ كيف سيتلاءم الانسحاب من غزة مع فكرة ظهور المنقذ المنتظر؟
قبل ذلك في سنوات الستينات، استطاع ليون فيستينغير في دراسته “عندما تغيب النبوة” أن يبين كيف أن عدم تحقق التوقعات الغيبية بعودة المنقذ لا يعني أبداً انهيار الحركات التي تدعو لذلك. الحركات هذه على العكس ستُبدي مرونة أكثر وإبداعاً فريداً من نوعه لكي تجعل قضية تأخر ظهور المنقذ أمراً عقلانياً، دون أن تضطر للتنازل عن المعنى الديني الأساسي للحاضر. هذه الرؤية تلعب دوراً مهماً بصفتها الداعم القوي للجماعة المرتبطة بها: إنها ليست مكاناً للتفسير الأيديولوجي الصافي وحسب، بل هي أيضاً مكان يمنح الدعم والتضامن لأتباع الحركة بسبب الخيبة التي لحقت بهم لعدم ظهور المنتظر حتى الآن. ذلك ما يفسر كيف أن حركة المستوطنين لم تلغ تفسيرها الديني للصهيونية والذي تربطه بظهور المنقذ، إنما فسرت الانسحاب من قطاع غزة كامتحان من الله ودعوة منه لتقوية نشاطهم. ولا يتعلق الأمر هنا باستيطان الأرض الموعودة كلها وحسب، بل السيطرة على دولة “إسرائيل” نفسها وتغييرها. هذا ما يفسر نظريات المؤامرة التي سرت في صفوف حركة المستوطنين في السنوات الأخيرة، تلك التي ترى في دولة “إسرائيل” أداة استحوذت عليها نخبة علمانية، هدفها تحطيم الدين اليهودي. الحركة تريد مواجهة المؤامرة هذه عن طريق تأسيس دولة تيوقراطية.
لكن هذه هي الحال كما في كل مشروع سياسي. إذ بينما هناك إجماع كامل على الهدف، إلا أن هناك خلافات على الطرق الواجب على الحركة تطبيقها. طائفة كبيرة أساسية تتجمع حول الحاخام شلومو أفنير صاحب الموقع المؤثر أو حول الحاخام كوهين دروكمان تعتقد أن الاغتراب الحاصل بين الدولة والمستوطنين والأغلبية العلمانية للمجتمع الإسرائيلي سببه يأتي من فشل حركة المستوطنين نفسها. الحركة هذه، حسب رأي الحاخامين، ركزت في عملها كثيراً على الاستيطان ونسيت في الوقت نفسه كسب الأغلبية في “إسرائيل” لمشروع الاستيطان. “علينا أن نسأل، إذا كنا نحن الذين نتحمل الذنب، بأننا لم نستطع الاستيطان في القلوب، لم نجد المفتاح الصحيح لكي نوقظ المواطنين ونزرع في قلب كل منهم حب الأرض والشعب”، كما قال الحاخام كوهين.
نتيجة ذلك، يعيد الجناح هذا من حركة المستوطنين تفسير شروط تحقيق الفكرة التبشيرية بظهور المنتظر المنقذ ويرفع من قيمة التجديد الروحي للشعب اليهودي في واجباته. فبالتالي يجب جلب اليهود العلمانيين إلى الهداية للدين الأرثوذوكسي وتقوية رابط الشعب اليهودي مع الأرض عن طريق المساعدة ببناء مراكز للتثقيف والقيام بحملات تبشيرية واسعة النطاق. فقط عندما تهيمن النجاحات الثقافية يمكن التعجيل بالعملية التبشيرية لظهور المنقذ المنتظر.
على الضد من ذلك يطالب الجناح العسكري من حركة المستوطنين بمواصلة الطريق الذي سارت عليه الحركة عن طريق النشاط القوي والبحث عن المواجهات الحادة مع “اليهود الذين تهلينوا” (من الهيلينية). الانسحاب من قطاع غزة لا يعني بالنسبة لهذا الجناح أزمة حركة المستوطنين بل أنه أزمة الصهيونية العلمانية. هذا النوع من الصهيونية انتهى دورها. الآن على اليهود المؤمنين أخذ زمام قيادة البلاد. أتباع الجناح العسكري يرفضون كل الاتفاقات التي نشأ عنها التنازل عن الأرض. واجب حركة المستوطنين، هو مواصلة “الحرب على الأرض” بكل الوسائل المتاحة وبكل الطاقات الموجودة، وفقط عن طريق اتحاد كل القوى الدينية مع بعضها بعضاً يمكن الوصول إلى تسلم السلطة السياسية على الدولة.
ظاهرة جديدة ومهمة بالنسبة لمستقبل حركة المستوطنين هو ظهور جيل شاب من المستوطنين تشكل بشكل لافت خلال التظاهرات التي نُظمت في “إسرائيل” ضد اتفاق أوسلو وبعد الانسحاب من قطاع غزة. الشباب هؤلاء، الذين ترعرعوا وتربوا في المستوطنات، يُطلق عليهم غالباً “شباب المرتفعات”، لأنهم غادروا خلال مفاوضات أوسلو مستوطناتهم التقليدية وذهبوا إلى هضاب الضفة الغربية لكي يبنوا عليها مستوطنات جديدة. العديد من الشباب هؤلاء أصبحوا في السنوات الأخيرة أكثر راديكالية: إنهم يشعرون بأنفسهم، مهمشين بشكل مضاعف ـ من أغلبية المجتمع العلمانية ومن جيل الآباء المستوطنين الذين يتهمونهم بقلة الحماس، والاستعداد الضعيف للتضحية.
بالنسبة للعديد من هؤلاء الشباب فقدت المؤسسات الرسمية كل شرعية لها منذ الانسحاب من قطاع غزة. إنهم لا يخدمون في الجيش ولا يريدون العودة إلى المجتمع، إلى الحياة الطبيعية في المدن. وهم لا يشعرون بأنفسهم ملزمين سوى أمام كل ما يتعلّق بالوصية الإلهية التي تطالب بكل الأرض “الموعودة”، الأرض التي يدافعون عنها أيضاً بالوسائل العسكرية أمام المؤسسة الرسمية. عند إخلاء مستوطنة آمونا غير الشرعية في فبراير/ شباط 2006، حدثت أكبر مصادمات بين المستوطنين الشباب وقوى رجال الأمن. كل المحاولات التي قام بها رجال الدين في “إسرائيل” والقيادة السياسية للمستوطنين لكبح جماح العنف باءت بالفشل. فشل المستوطنين بمقاومة انسحاب “إسرائيل” من قطاع غزة دفن إلى الأبد في عيون “شباب المرتفعات” شرعية القيادة الرسمية المعترف بها، إنهم يريدون الآن محو “عار غوش كاتيف”، عن طريق تصميمهم القوي واستعدادهم للكفاح.
العنف صاحب حركة المستوطنين منذ تأسيسها، لكن عن طريق التهميش السياسي والثقافي لشرعية مؤسسات الدولة كما عن طريق وجود خطاب معاد للنظام السائد ثبت في الجيل الثالث ظاهرة عملية راديكالية عنيفة سيتصاعد عنفها بشكل واضح في حالة إخلاء مستوطنات قادمة. إذا كانت حوادث الهجوم في غولدشتاين وفي الخليل واغتيال اسحق رابين هي مبادرات فردية، لم يكن وراءها منظمون فإن تجمعاً واضحاً حول المستوطنين المستعدين لممارسة العنف قد بدأ بالتشكل إذن.
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

الأورومتوسطي: إسرائيل تمارس حرب تجويع شرسة في قطاع غزة
غزة- المركز الفلسطيني للإعلام أكد المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، أن الهجوم الإسرائيلي المتواصل والحصار الخانق والنقص الحاد في الإمدادات...

550 مسؤولا أمنيا إسرائيليا سابقا يطالبون ترامب بوقف الحرب بغزة
القدس المحتلة – المركز الفلسطيني للإعلام طالب مئات المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين السابقين الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالعمل على وقف الحرب في...

حماس تدعو للنفير لحماية الأقصى بعد محاولة ذبح القرابين
القدس المحتلة – حركة حماس قالت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، إن محاولة المستوطنين ذبح قربان في المسجد الأقصى يعد تصعيداً خطيراً يستدعي النفير...

مؤسسات الأسرى: تصعيد ممنهج وجرائم مركّبة بحق الأسرى خلال نيسان الماضي
رام الله - المركز الفلسطيني للإعلام واصلت سلطات الاحتلال الإسرائيلي خلال شهر نيسان/ إبريل 2025 تنفيذ حملات اعتقال ممنهجة في محافظات الضفة الغربية،...

إضراب جماعي عن الطعام في جامعة بيرزيت إسنادًا لغزة
رام الله- المركز الفلسطيني للإعلام أضرب طلاب ومحاضرون وموظفون في جامعة بيرزيت، اليوم الاثنين، عن الطعام ليومٍ واحد، في خطوة رمزية تضامنية مع سكان...

القسام تفرج عن الجندي مزدوج الجنسية عيدان ألكساندر
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أفرجت كتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، عند الساعة 6:30 من مساء اليوم...

خطيب الأقصى: إدخال القرابين يجب التصدي له بكل قوة
القدس – المركز الفلسطيني للإعلام استنكر خطيب المسجد الأقصى الشيخ عكرمة صبري، محاولة يهود متطرفين إدخال قرابين إلى ساحات المسجد الأقصى، معتبراً أنه...