الثلاثاء 13/مايو/2025

درهم الحرية وقنطارها

درهم الحرية وقنطارها

صحيفة الخليج الإماراتية

الحرية لا تتجزأ ولا تقبل القسمة إلا على نفسها، ومن يقبل بأن يكون نصف حر هو أكثر من نصف عبد، لهذا فإن الحكمة القائلة درهم وقاية خير من قنطار علاج قد لا تليق بالأحرار، لأنهم لا يتلقحون ضد الحرية، ولا يتلقحون أيضاً ضد السجون وزنازينها.

سمير القنطار، العربي اللبناني الفلسطيني الإنسان، قضى ثلاثين عاماً في السجون الصهيونية، وخرج من دون أن تشوب أبجديته الأصيلة نبرة عبرية. إنه واحد من هؤلاء الذين كلما شحذوا ازدادوا مضاء، تماماً كالقلم الرصاص الذي يبرى كي يبدع.

كم ثلاثين سنة في عمر الإنسان؟

اثنتان، ونادراً ما تكون الثالثة، لكن العقود الثلاثة التي قضاها القنطار ورفاقه العرب ومن مختلف الجنسيات كانت الأكاديمية الحقيقية لتعليم الحرية، وحين سمع الناس ما قاله سمير لحظة وصوله إلى لبنان لا بد أنهم أعادوا النظر بما بلغوه من اليأس وفقدان الرجاء في عالم تعولم فيه الشقاء فقط، وتحولت العدمية السياسية إلى ثقافته المقررة.

ما من معلم للحرية كالذي فقد القليل منها من أجل الكثير، وهو الأسير الذي حمل في ذاكرته تاريخاً عصياً على التدجين وفي روحه ما تقطر من رحيق حضارة لأمة عريقة.

قال سمير إنه خرج من فلسطين ليعود إليها، وبذلك حذف المسافة بين اليد اليمنى واليد اليسرى، وبين الأرزة والزيتونة، وأخيراً بين عربي وعربي فرق بينهما “سايكس بيكو” لبعض الوقت.

يصعب على المرء، حتى لو كان غليظ القلب، أن يقاوم القشعريرة وهو يسمع مثل هذا الوعد، خصوصاً بعدما تطوع متعهدو الخصخصة القومية لوداع أنبل القضايا وأكثرها عصياناً على النسيان.

كم كان القنطار فلسطينياً ولبنانياً وعربياً وإنساناً وهو يقسم بأعز ما فقد وأغلى ما استعاد، وهو حريته، بألا يفتح قبضته بحيث تسقط منها سيدة الحقائق؟ عناد جبلي مشحون بكبرياء قومية لا تأبه بما يشاع عن موت أمة لا يشبهها غير العنقاء أو طائر الفينيق، لأنها تتخلق من رمادها، وتقرع أجراس قيامتها قبل أن تترجل من التابوت.

لم يتلقح سمير بدرهم وقاية كي لا يدفع قنطاراً من أيام عمره في السجون، ولم ينل منه السجان حتى اللحظة الأخيرة، عندما حاول إلباسه ورفاقه ثياباً تشبه ثياب المهرجين، فقد هدد سمير عدوه بإلغاء الصفقة، لأن الكرامة لا تتجزأ، وربع الساعة الأخير من الثلاثين عاماً هو العمر كله، أو ما تبقى منه على الأقل. هي لحظات حاسمة، لا على المستوى الرمزي فقط رغم أهميته، بل على كل مستويات الحراك الإنساني الفاعل، فالانتماء لم يفقد وهجه ولحظته التراجيدية التي ترى في السجن دفاعاً عن الحرية وفي الموت، في لحظة حدوثه، دفاعاً عن الحياة والأحياء.

هذه المواقف النبيلة ليست جملة معترضة في تاريخنا، إلا بالقدر الذي يريده من قرروا إعدام التاريخ وغسل الذاكرة، ومقايضة الحياة بأدنى معاييرها بالكرامة كلها.

شكراً لأسرى يعلموننا الحرية.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات