الأحد 11/مايو/2025

الفلسطينيون ومشاريع السلام

الفلسطينيون ومشاريع السلام

صحيفة الخليج الإماراتية

الفرق بين السياسة والفكر ليس مجرد اختلاف بين الجوانب العملية والنظرية، بل هو تعبير وترجمة لمقاربتين مختلفتين للواقع، الأولى تريد أن تسايره وتصل أحياناً إلى تبريره ومن ثم إلى القفز على كل القيم والمبادئ من أجل تحقيق أعلى نسبة من التوافق على مستوى التطلعات اليومية الملحة والمباشرة للأفراد. أما المقاربة الثانية فتطمح إلى البحث عن القواعد الثاوية التي تسهم في بلورة الواقع من أجل توفير إمكانات أوفر لفهمه ومن ثم إلى تحقيق أفضل الشروط التي تسمح بتجاوزه في مراحل لاحقة.

والصراع العربي – “الإسرائيلي” يخضع في اعتقادنا لتأثير تصورات يعتقد بعضها أن مواجهة التحدي الصهيوني تمر عبر التزام رؤية واقعية لتطور الأحداث، بعيداً عن الصيغ التركيبية التي تبعدنا عن التعاطي العملي والمباشر مع الصراع. وتنطلق تلك التصورات من وجهة نظر تبسيطية مؤداها أن تفاصيل الصراع واضحة، بل وبيّنة بذاتها، ولا تحتاج إلى قراءات متعددة تتجاوز التجليات العرضية لتبحث في الأسس الجوهرية التي لا يتم تداولها عبر الخطابات السياسية بصيغة مفتوحة ومباشرة.

انصرمت أعوام عديدة منذ حدوث النكبة، ومرت الشهور والسنوات سريعة منذ أن عبّرنا عن رغبتنا في السلام مع “إسرائيل”، المدعومة من طرف قوى غربية تعتبر شعار السلام مجرد فرصة إضافية تمنح للصهاينة من أجل امتصاص غضب الشعوب العربية وترسيخ التغيرات التي يتم استحداثها فوق الأرض المغتصبة. لكن التحولات التي جرت على مستوى النخبة السياسية العربية التي تمتلك ناصية القرار السياسي، لم تستطع أن تجد لها صدى واسعاً في أوساط الغالبية الساحقة من الشعوب العربية، وحتى الدول العربية التي وقعت اتفاقية سلام مع “إسرائيل” لم تنجح في تمرير مشاريع التطبيع في أوساط شعوبها.

و”إسرائيل” التي تعي جيداً كل هذه الحقائق ليست مستعدة على المدى القريب أو المتوسط لأن تسهم في قيام دولة فلسطينية، قبل أن تصل إلى إفراغ وجود هذه الدولة من محتواه، أي قبل أن تتحول الدولة المرتقبة إلى ما يشبه الوجه الآخر للدولة العبرية، وبالتالي إلى بوابة خلفية تتيح ل “إسرائيل” التغلغل والانتشار السلس داخل المجتمعات العربية. والمتتبع للتحركات الدولية يمكنه أن يستنتج من دون عناء كبير أن الغرب برمته يريد أن يدجّن المجتمع الفلسطيني ويخلق بداخله كل الظروف المواتية التي تسمح بدخوله ضمن شراكة استراتيجية مع “إسرائيل” قبل إعلان الدولة الفلسطينية المرتقبة. وعليه فما لا يمكن تحقيقه بالقوة يجري الترتيب له عبر إجراءات متعددة تراهن في مجملها على عامل الزمن، بكل ما يمكن أن يترتب عنه من اضمحلال للرأسمال الرمزي الذي تمثله الثوابت العربية بالنسبة للفلسطينيين وللعرب عموماً.

لقد أصبحنا قريبين إلى حد بعيد من اللحظة التاريخية التي ستعوّل فيها “إسرائيل” على شراكة استراتيجية مع أوروبا أكثر من مراهنتها على الدعم الأمريكي الذي تفيد المؤشرات أنه سيتقلص نتيجة لوجود مؤشرات على إمكان دخول أمريكا في مرحلة من الانكماش الاقتصادي تضطرها إلى الانكفاء على ذاتها من أجل مواجهة مشاكلها الداخلية. ولأن “الإسرائيليين” دأبوا على التعاطي مع السياسة بوصفها فكراً مركباً وليس مجرد تجليات تغرق في تفاصيل الراهن، فإنها شرعت في ما يبدو، منذ سنوات، في التحضير لما بعد أمريكا انطلاقاً من قاعدتها الراسخة التي تجعلها تعول على نفسها ولا تنظر إلى الآخرين إلا بوصفهم جزءاً أو أجزاء يمكن أن يدعموا رؤيتها الخاصة. وهي بالتالي لا تنزعج كثيراً من التقارب الذي يمكن أن يتحقق بين العرب والغرب لأنه سيصب في نهاية المطاف في مصلحتها القومية، نتيجة للتأثير الكبير الذي تمارسه على مختلف المؤسسات الغربية الفاعلة.

إن الصراع العربي مع الكيان الصهيوني يجب أن يحسم في جزء كبير منه انطلاقاً من محاولة خلخلة العلاقة الوثيقة الذي تربط “إسرائيل” بالغرب بفضل المنظمات اليهودية، وإذا كانت الجاليات العربية قد استطاعت أن تحقق ولو جزئياً شكلاً من أشكال الاختراق في هوامش هذه العلاقة، فإن التحدي المطروح يبقى مرتبطاً بحالة العجز العربي المزمن في ما يخص إحداث هذا الاختراق المنشود رغم ضخامة الإمكانات المتاحة. ونتساءل هنا عن المبررات التي تدفع رئيس دولة أوروبية كبرى بحجم فرنسا إلى البحث عن شراكة اقتصادية مع “إسرائيل” وإلى وصف المبادلات التجارية بين البلدين بأنها ضعيفة؟ ألم يجد بين الدول العربية من يدعم مشاريع بلاده الاقتصادية وفق شروط تخدم مصالحنا الحيوية؟ وهل مكنتنا الدول التي جعلناها تستفيد من الفائض النقدي المتوافر لدينا من دعم قضايانا القومية وعلى رأسها القضية الفلسطينية؟

هل كان الفلسطينيون في حاجة ماسة لانعقاد مؤتمر دولي في ألمانيا لتقديم الدعم الفني والمالي لهم؟ وهل كانوا في حاجة ماسة أيضاً لمشروع صناعي يدعمه الرئيس ساركوزي بمناسبة زيارته ل “إسرائيل” والأراضي الفلسطينية المحتلة؟ لا شك في أن هناك أسئلة كثيرة مماثلة يمكن أن نطرحها على أنفسنا، قد تبدو للوهلة الأولى متباعدة وفقاً للمقاربة الواقعية المتسرعة للأحداث، لكنها ستكون وثيقة الصلة فيما بينها إذا ما استطعنا فهم وتأويل الأحداث اعتماداً على القرائن والمؤشرات والعلامات المتوافرة لدينا.

أجل تستطيع الدول العربية أن تجد حلولاً عاجلة لمختلف المشاكل الاقتصادية والاجتماعية للفلسطينيين، فيما لو قررت تخصيص أقل من واحد في المائة من المعروض النقدي المتوفر لديها. غير أننا نعي في المقابل أن جزءاً كبيراً من المشاريع الغربية التي ستوظف من أجل “التخفيف” من آلام الفلسطينيين ستدفع من حسابات فوائد الأموال العربية في البنوك الأجنبية، لكن الامتياز المعنوي سيوضع في حسابات الشركات الغربية من دون سواها. لا أحد سيعترض في هذا السياق، على فكرة أن المجتمع العربي ينتمي إلى تقاليد حضارية راسخة، لكننا ما زلنا نفتقد حتى الآن إمكان بناء مجتمع عربي قادر على توجيه مقدّراته من أجل كسب الصراعات الحضارية مع الآخر الغربي، ومع نسخته المصغرة في المنطقة “إسرائيل”. قد يبالغ بعضنا إلى حدود الشطط في ذم السلطة وإحداث تمييز حاسم بين الشعوب والأنظمة، في الوقت الذي لا يمكن للمجتمعات الغربية أن تتصور حتى لا نقول إن تسمح للأنظمة أن تصادر تطلعاتها المشروعة.

لكن لا أحد بالمقابل يمكنه أن يدعي أننا مازلنا نشكل لقمة سائغة بالنسبة للدوائر الغربية المتربصة بنا، وهذه القدرة الهائلة على المقاومة والاستماتة والتصدي التي أصبحنا نملكها هي التي ستؤرخ للمستقبل الذي نصبو جميعاً من أجل تحقيقه، ف “إسرائيل” كانت تطمح إلى تحقيق أشياء كثيرة وخطيرة على حساب القضايا العربية، لكنها لم تتمكن من ترجمة كل مشاريعها على أرض الواقع، بفضل التضحيات السخية لقوافل الشهداء. أما جبال مشاريع السلام الوهمية فقد تمخضت وولدت فئراناً مستنسخة من مخططات التهدئة، في انتظار تجلي تفاصيل جديدة من المشهد الفلسطيني المتداخل.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات