الإثنين 12/مايو/2025

إسرائيل وسوابق الكيانات الاستيطانية

إسرائيل وسوابق الكيانات الاستيطانية

صحيفة البيان الإماراتية

في مراحلها الأولى، حيث اندفاعة التكوين وفتوة اليفوع ومحاولات استقطاب الأتباع والمريدين، تحت شعارات أيديولوجية براقة ووعود مادية عريضة، تنحو الكيانات الاستعمارية الاستيطانية إلى النقاء العرقي أو اللوني أو العقيدي.

تجربة هذه الكيانات في الأميركتين قامت على أكتاف الساكسونيين البروتستانتيين البيض، المعروفين اختصاراً ب«الواسب». وتحت لواء رسالة أو عبء الرجل المسيحي الأبيض، انداح الأوروبيون في قارتي أفريقيا وأستراليا، مؤسسين تجمعات استيطانية اجتهدوا في عزلها عن السكان الأصليين.

لكن السوابق تؤكد أن حرص هذه الكيانات على صيانة مفهومها للتميز والتقوقع المادي والفكري المعنوي، وهو أساس سلوكها العنصري، لا يمكن أن يدوم. هناك حقائق صلبة تفرضها ضرورات الحياة ونهرها المتدفق، تكره تجمعات المستوطنين على الانصياع لها بما يؤدي إلى تصدع هذا المفهوم، وصولاً في حالات بعينها إلى انهيار حوائط الاعتكاف، وشحوب فكرة التعالي عن الحاجة للتواصل مع الآخرين بالجوار القريب.

لقد طارد «الواسب» سكان أميركا الشمالية الأصليين إلى أن أبادوهم كلياً تقريباً. وقام الأوروبيون بالفعلة ذاتها في أستراليا. غير أنه لم تمض على هذه الآثام التاريخية سوى عقود قليلة، حتى اكتشف المستوطنون أن مشروعهم للتوسع «الاستغلالي»، يقتضي تخليهم عن بعض دعاوى الاكتفاء الذاتي وعن كثير من التصرفات الانعزالية الصارمة.

كان قصور المستوطنين وعجزهم عن التعامل مع الموارد والفرص والآفاق التي انفتحت أمامهم في البلاد التي وطئوها، محدداً جوهرياً في تخفيفهم لغلواء ذواتهم المتضخمة. وهكذا تعين عليهم مواربة الأبواب والسماح لآخرين؛ من غير أصحاب خصائصهم وشروطهم المادية والعقيدية، بمشاركتهم في غمار عملية بناء الدول والمجتمعات العمرانية التي أقاموها.. وبمرور الوقت وتزايد الضغوط من الداخل والخارج، بتنا بصدد تحولات نوعية فارقة في معظم التجارب الاستيطانية.

لقد تنازل «الواسب»، أو سيقوا إلى التنازل، عن تفردهم وعنجهيتهم إزاء من استجلبوهم واستضعفوهم ذات حين. واليوم ينافس أحد أحفاد الأفارقة الذين استعبدوا مطولاً، لانتزاع أعلى مقام في أقوى دولة استيطانية عرفها التاريخ، الولايات المتحدة الأمريكية.

ومنذ شهور قليلة، اعتذرت حكومة أستراليا لأحفاد السكان الأصليين، معترفة بجرم المستوطنين البيض الأوائل تجاههم. وفي فبراير الماضي قررت الحكومة ذاتها تخفيف القيود على برنامجها لاستقبال العمال المهرة من كافة الملل والنحل، لحاجة البلاد إليهم ووجود نقص في العمالة لدى معظم الشركات الأسترالية الكبيرة.

ترى، ما هو مكان الكيان الاستيطاني الصهيوني من هذه السنن التاريخية؟

هناك ما يشي بأن هذا الكيان يمضي في الاتجاه المعاكس تماماً. فهو ما زال مصراً على تميزه ومضامينه العنصرية: مادياً برفع الجدران الإسمنتية العالية، وفكرياً وأيديولوجيا بالإمعان في مطلب الاعتراف به كياناً يهودياً صرفاً!

هذا المشهد ينطوي على أكثر من تناقض: فهو يتعارض أولاً، والحديث عن تسوية وتطبيع وانفتاح مع السكان الأصليين الفلسطينيين وكذا مع المحيط العربي. ويجافي ثانياً مفاهيم العولمة في الرحاب الدولية الأوسع.

والأهم أن “إسرائيل” إذا ما طبقت حرفياً مفهومها للدولة اليهودية، فإنها ستقع عاجلاً أم آجلاً تحت سقف سكاني منخفض، أعجز من أن ينافس محيطه الفلسطيني العربي داخل حدوده ووراءها على مرمى النظر.. أما إن هي آثرت تجاوز هذا المفهوم، فسوف تعرّض دعاواها التاريخية وبعض أبرز مزاعم وجودها للسخرية.

فلننتظر ونتأمل، كيف سيعالج هذا الكيان بعض ما لم يفلح نظائره في معالجته، بدون الوقوع في أحابيل تحولات يصعب تعيين تداعياتها بعيدة الغور.

كاتب وأكاديمي فلسطيني

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات