الجمعة 02/مايو/2025

رحل المسيري وبقي كافور!

رشيد ثابت
هل تذكرون قصة الرجل الذي كان غنيًّا وأضاع هميانًا من ديباج فيه دنانير ذهبية وجواهر؟

كان الرجل غنيًّا لدرجة أنه لم يعبأ بخسارة ذلك الكنزعلى قارعة طريق السفر إلى الحج.

لكن لم يلبث صاحبنا أن عركته صروف الدهر حتى افتقر؛ ودارت عليه دائرة الزمان حتى غادر بيته وأرضه طريدًا شريدًا هو وزوجته الحبلى. وبينما هي تطلُق في خانٍ متواضعٍ في ليلةٍ مطيرة؛ ذهب الرجل لشراء بعض الزيت والحلباء بالدانق أو الدانقين الأخيرين من ثروته ليقيم أَوَدَ الأم المتألمة التي توشك أن تضع حملها. وحين قفل الرجل راجعًا عثر بالطين والوحل وفقد الزيت والحلباء…

لقد فقد آخر ما يملك من متاع – على تواضع قيمته وثمنه البخس…

ولذلك لم يجد الرجل بدًّا من البكاء والعويل. وبقية الحكاية تبدأ من رجل يستيقظ في عتمة الليل على صوت الصريخ ويسأل مستنكرًا: أَكُلُّ هذا البكاء من أجل زيت وحلباء ودانق؟

لا تقلقوا على الرجل وزوجه؛ فتلك الحكاية تنتهي نهايةً سعيدةً مثل كل دروس المطالعة والنصوص. لكنني تذكرت تلك القصة بسبب وجاهة الربط بين ما نحن فيه وقصة ذلك الرجل. صحيح ان عبدالوهاب المسيري كان أحسن للأمة بكثيرٍ جدًّا من الحلباء والزيت والدهن والإقط والثياب الدافئة والفراش الوثير لذلك الرجل وزوجه؛ لكنَّ رحيله في هذا الوقت يضاعف حزننا وتعاستنا والهم والغم الكبير الذي يستأهله فقدُ علمٍ مثله في الظروف الإعتيادية. يرحل المسيري في وقت يعز فيه الناصر والمغيث من مصر الكبيرة؛ وننظر نحو مصر فنجد أن الصالحين فيها يُرْفَعون – كما هم أيضًا في سائر بلادنا الأخرى – ونرى أن الأخيار يقبضون؛ والشهداء يقتلون؛ وبقينا أو نكادُ في “خلفٍ كجلدِ الأجربِ” كما يقول لبيد.

تفتقد فلسطين والأمة اليوم عبدالوهاب المسيري الذي سدَّ ثغرًا لا أحسب أن أحدًا الآن مستعدٌّ لشغله وتغطيته من فوره. فلم يكن الرجل مجرد مفكر أو كاتب أو باحث؛ بل هو من النوع الخطير من الباحثين الذين يقاتلون حرب الأمة بكل هدوء وبرود أعصاب وطول نَفَس: فيعلِّمون الأجيال أن النصر ممكن بل حتمي؛ وأن العدو فاقد للشرعية لأسباب موضوعية تخص حتى مزاعمه وكلامه ونظرياته واحتجاجه لنفسه؛ ولا تقتصر فقط على تقديرنا نحن للأمور وقناعاتنا المطلقة بحقوقنا الناجزة. وللرجل فوق ذلك تنظير في الفقه السياسي الإسلامي يُحْتَرَمُ عليه ويُقَدَّرُ له أيما تقديرٍ ولأسبابٍ لا تخفى على المتابع المهتم؛ ولا أحسب أنني أستطيع في هذه العجالة تلخيص سيرة الرجل العطرة وليس هذا بحال هدف هذه الكتابة. إنما أكتب الآن رثاءً وتضامنًا مع فلسطين التي تفقد المزيد من أصدقائها وأبنائها الكبار في مصر؛ فلا يكاد يبقى لها – إذا ما نحينا الكثرة الكاثرة من المصريين المحبين لفلسطين ولكن المغلوبين على أمرهم والمطاردين في رغيفهم وأنفاسهم – فلا يكاد يبقى لها إلا كافور ومن في رتبته من رجال السياسة؛ ومن يدور في فلكه من “مبخراتية” و”مطبلي” الفكر والرأي والإعلام الرسمي.

رحل المسيري…إذًا فليغمرك يا فلسطينُ حزنٌ عظيم!
رحل صلاح الدين “وغشي القلعة والمُلْك والدنيا وحشة لا يعلمها إلا الله” كما قال المؤرخ الفاقد الذاهل الواله
رحل “حسن بيك الجداوي” الذي كان “عندما يبلغه زحف (الفرنساوية) على جهة من الجهات – جهات القاهرة في ثورتها الثانية ضد غزو نابليون – يبادر هو ومن معه للذهاب لنصرة تلك الجهة؛ ورأى الناس من إقدامه وشجاعته وصبره على مجالدة العدو ليلاً ونهارًا ما ينبيء عن فضيلة نفس وقوة قلب وسمو همة. وقلَّ أن وقع حرب في جهة من الجهات إلا وهو مدير رحاها ورأس كُماتها” كما قال مؤرخ الحملة الفرنسية!
رحل السيد أحمد المحروقي والسيد عمر النقيب؛ فمن يمر بالناس ويخطب فيهم بالجهاد ويأمرهم بالقتال ونصرة مصر ضد الصليبية الفرنسية في القرن التاسع عشر أو الأمريكية في القرن الحادي والعشرين – لا فرق – ومن يحث الناس على الجهاد في فلسطين وعمارة طريق قطز والظاهر بيبرس؟

تفتقد فلسطين اليوم كل هؤلاء من أعيان الجهاد المادي والمعنوي في مصر؛ وتنظر إلى شعب أرض الكنانة فترى في عينيه ملامح إعياءٍ وتعبٍ ونصبٍ مشوبٍ بإعتذارٍ مكتومٍ كأنه يقول: “والله يا فلسطين لو كان الأمر فينا دون “أولاد الكامب” لما قبلنا أن يعز على غزة الناصر”!

وبدلاً من عمرو بن العاص وعُرابي وعبدالله النديم والرافعي والبنا وعبدالحميد كشك وعبدالوهاب المسيري بقينا في خلفٍ من جنس كافور الإخشيدي وأشياعه. و”كافور” هو الاسم المستعار لمنظومة التردي والصهينة والأمركة التي لن نُسَمِّيَ أعلامها وأبطالها بصريح أسمائهم مخافة أن يضيق الرقيب ومقصه بانتقاد النظام الشقيق للدولة الشقيقة!

لكنهم معروفون؛ فهل يخفى القمر (“بعيد عن القمر” – قمرنا الجميل – أن أشبه به هؤلاء المجرمين؛ ولكن أنا أقصد أحد أقمار “زحل” أو “نبتون” التي يتكون غلافها الجوي من غاز الميثان أو نحو ذلك من السموم)

ولذلك لا حاجة لتسمية وزير “تكسير الأرجل” فلا زالت كلمته تملأ الأجواء؛ ولا زال وجهه العبوس القمطرير وهو يتحدث عن غزة وحماس – والضحاك البسام حين يتحدث مع الآنسة “كوندي” – ينادي على دور النشر والمعلمين والتربويِّين والأمهات أن هاؤم صورتي “لتخوفوا بها العيال”!

ولا يكفي فلسطين هذا الوزير وذلك المخبر؛ بل لا بد ليكتمل المشهد من “صباح الخير يا كامب ديفيد”! المذيعة الحريصة على الأمن الوطني كانت تستجوب ضيفها صباح اليوم وتصر وتحاول معه بكل قوة أن يقر عينها بإعلان تجريم حماس والغضب عليها والطرد من رحمة الإعلام الإخشيدي بسبب تظاهرة المحاصرين عند المعبر؛ والضيف “اللئيم” لا يقصر بطبيعة الحال في أداء الواجب الوطني! وأنا في الحقيقة لا مشكلة لدي مع كل هذا؛ فهذا متوقع من أحفاد مدرسة يعقوب و”فرط الرمان” أو الجنرالات اللحدية الأولى في التاريخ العربي المعاصر…

لكنني أود أن أخرج من كل هذه المرثية بجملة من النصائح لحركة حماس لعل الله يفتح عليها ويوفقها للتمكن من فتح معبر رفح وتخفيف أزمة شعبنا في غزة وتحقيق بعض آمال الفلسطينيين؛ وفي ذلك أوصي وبالله التوفيق بما هو آت:

– تغيير اسم المدعو “أيمن نوفل” – قيادي من كتائب القسام معتقل منذ شهور عديدة وأزمنة مديدة في سجون “الشقيقة” – إلى “عزام عزام” مع الإشاعة بأنه درزي؛ فلعل هذا يكون سببًا في حلول الشفقة المصرية الرسمية عليه والإفراج عنه.

– توزيع أقنعة ووجوه مستعارة على المتظاهرين عند معبر رفح – مثل تلك التي يرتديها الغربيون في “الهالووين” أو مثل ما يلبسه يهود في “عيد المساخر” – على أن تكون الوجوه ل”كوندي” و”بوش” و”ديفيد وولش” و”جون بولتون” (صحيح أن وجه هذا الأخير لا يضحك للرغيف السخن؛ إلا أنه سينزل على قلوب “الأشقاء” زي العسل وزيادة!)

– سحب ملف المفاوضات على “شاليط” من يد الأشقاء في جهاز مخابرات الشقيقة لأنهم أثبتوا أنهم “هايفين” و”مالهومش كلمة”؛ وأنهم حريصون على لي ذراع غزة لتطلق “شاليط” بثمن بخس ثم بعد ذلك سيتنصلون من فتح المعبر وحتى من إيفاء الكيان بدوره من صفقة تبادل الأسرى.

– تسليم ملف “شاليط” للأتراك. صحيح أن تركيا اليوم ليست تركيا خاقان المسلمين وأمير المؤمنين؛ لكنها على الأقل فيها نظام يحترم نفسه إلى حد ما ويفرض احترامه على الكيان؛ ولا أتصور أن “الهيافة” ستبلغ “بالتراكوة” حدًّا لا يحترمون معه تعهداتهم كما يفعل أحفاد “فرط الرمان”!

هذا كل ما لدينا…ونختم بما كان المسيري رحمه الله يختم به مقالاته:

“والله تعالى أعلم”…

 
* كاتب فلسطيني – السويد

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

إسرائيل تقصف محيط القصر الرئاسي في دمشق

إسرائيل تقصف محيط القصر الرئاسي في دمشق

دمشق - المركز الفلسطيني للإعلام شنت قوات الاحتلال الإسرائيلي - الجمعة- عدوانًا على سوريا، واستهدفت محيط القصر الرئاسي في دمشق، في تصعيد لسياسة...

91% من سكان غزة يعانون أزمة غذائية

91% من سكان غزة يعانون أزمة غذائية

غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أعلن المدير العام لوزارة الصحة في قطاع غزة منير البرش، اليوم الخميس، أن 91% من سكان القطاع يعانون من "أزمة غذائية"...