درس البديهيات العسير

صحيفة البيان الإماراتية
لا تزال فلسطين من بحرها إلى نهرها تتفاعل في فضاء الذكرى الستين للنكبة التي ارتقت على مدى عقودها الستة الماضية إلى مستوى هولوكوستي، ومرة أخرى ـ تعود بنا معطيات المشهد الفلسطيني الماثلة أمامنا في هذه الأيام التي يواصل فيها أهلنا في الداخل الفلسطيني وخارجه إحياء الذكرى الستين للنكبة، إلى درس البديهيات.. العسير، ذلك الدرس الذي كان شاعرنا الفلسطيني الكبير محمود درويش قد استخلصه وعممه، وتحدث فيه عن طبيعة الصراع بين الروايتين العربية والصهيونية قائلا:
«كلما خيل لنا أن صورة فلسطين انتقلت من مكانتها المقدسة إلى سياق العادي، فاجأتنا بقدرتها الفذة على إيقاظ معناها الخالد، ببعديه الروحي والزمني، من نعاس تاريخي عابر.»..
ويوفر لنا درويش المزيد من الدروس في الصراع مؤكداً أنه ليست فلسطين جغرافيا فحسب، بقدر ما هي أيضاً تراجيديا وبطولة، ولا هي فلسطينية فقط، بقدر ما هي إخصاب لفكرة العربي عن نفسه، ومعنى إضافي لمعنى وجوده في صراعه مع خارجه ومع داخله، ليكون جزءاً من تاريخه الخاص ومن التاريخ العام.
تحملنا هذه الاستخلاصات المكثفة لشاعر فلسطين إلى البدايات والمربع الأول للصراع. وتفتح أمامنا كافة الملفات المعلقة والمؤجلة إلى حين، فكما هو موثق في صحف التاريخ والجغرافيا والحضارة والتراث، فقد احتلت فلسطين في الوعي الوطني الفلسطيني دائماً قمة الهموم والأولويات والاهتمامات، كما احتلت في الوعي القومي العربي صميم الوجدان العربي، وكانت في الوعي الإسلامي على امتداد الأمة دائماً سرة الأمة الإسلامية.
حملت معركة فلسطين معها دائماً كل العناوين وكل العناصر وكل الأبعاد الأخرى المتعلقة بالعقيدة والهوية والانتماء والتاريخ والحضارة والجغرافيا والمستقبل، كلهم كانوا يعرفون ذلك، ولذلك تحالفت وتواطأت المؤسسة الاستعمارية البريطانية والحركة الصهيونية من أجل العبث بحقائق التاريخ والجغرافيا والمسميات، اتفقوا على «تسويق فلسطين» على أنها أرض بلا شعب وعلى أنها الأرض الموعودة لشعب الله المختار، فكانت الجريمة الأولى الكبيرة فكرة في تلك الأدبيات الاقتلاعية الصهيونية، ثم تحولت إلى قرارات، ثم إلى تنظيمات وآليات عمل على مختلف الجبهات التنظيمية والإعلامية والاقتصادية، ثم كان الاجتياح الصهيوني التهويدي تحت مظلة وحماية ودعم الاستعمار البريطاني.
اقترفوا المجازر الجماعية بالجملة وشردوا أصحاب الأرض والحق والوجود، واغتصبوا الجغرافيا لإقامة الكيان وسعوا إلى «عبرنة وتهويد الأمكنة والمسميات»، فحسب كتاب «المواقع الجغرافية في فلسطين ـ الأسماء العربية والمسميات العبرية» وهو من تأليف الدكتور «شكري عراف» فإن فلسطين المحتلة عام 1948 اشتملت على نحو 8400 اسم عربي لمواقع جغرافية وتاريخية، بينما لم يكن في فلسطين حتى الغزوة الصهيونية سوى 50 اسماً عبرياً فقط، وأن التوراة لا تشمل سوى 550 اسماً لأمكنة مختلفة في فلسطين وهي في الأصل أسماء كنعانية… ولكن:
بادر الصهاينة على نحو منهجي مبيت مع سبق النوايا والإصرار إلى تحوير الأسماء وعبرنتها… فيتحدث الكتاب عن «أن الصهيونية نجحت في تغيير وتهويد نحو 90% من الأسماء العربية التاريخية في فلسطين». وفوق كل ذلك بل والأخطر من كل ذلك أنهم يريدون مصادرة الذاكرة الوطنية الجمعية، بعد أن صادروا الأرض كلها.. ونحن لن نقبل بذلك ولن نسلم به ـ كما كان أعلن وليد حداد عضو مجلس بلدية شفا عمرو إبان ذروة انتفاضة الأقصى.
في هذا السياق حصراً ـ سياق بلدوزر التجريف للذكرى والذاكرة الوطنية الجمعية الفلسطينية/العربية كان موشيه ديان قد قال في مقابلة أجرتها معه مجلة «دير شبيغل» الألمانية في أكتوبر 1971: «في تشرين الثاني عام 1947 رفض العرب قرار التقسيم (الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة) وفي عام 1949 (بعد التوقيع على اتفاقيات الهدنة) عادوا إلى المطالبة بتنفيذه». وفي عام 1955 ـ والكلام لديان نقلاً عن دراسة للدكتور عبد القادر ياسين ـ كانت جميع الدول العربية المعنية ترفض اتفاقيات الهدنة، وبعد حرب يونيه 1967 عادوا إلى المطالبة بانسحاب “إسرائيل” إلى حدود الرابع من يونيه.
«ولن أفاجأ ـ يؤكد ديان ـ بعد حرب أخرى تسيطر فيها “إسرائيل” على مناطق عربية جديدة في الأردن أو سوريا إذا ما طالبوا بالعودة إلى الحدود الحالية.»..
في الصميم والجوهر إنما يتحدث ديان عن حالة التفكك والعجز والاستخذاء العربي أولاً، ثم يتحدث عن ضعف الذاكرة العربية وحالة عدم الاكتراث واللامبالاة من جهة ثانية، بينما يمكننا أن نستشف من أقواله من جهة ثالثة أن الصراع الحقيقي ليس فقط على الأرض المحتلة وإنما على الذكرى والذاكرة بالأساس.
عندما أعرب شارون يوماً عن إعجابه بشعر محمود درويش وعن «حسده له وللشعب الفلسطيني على علاقته الوجدانية بالأرض» إنما كان يعرب عن مشاعر الغضب والقهر البركانية في نفسه من قدرة الصمود لدى الشعب الفلسطيني في مواجهة بلدوزر الاقتلاع والتجريف.
فستون عاماً على النكبة من شأنها أن تعمق الذكرى في الذاكرة، وأن تحمي الهوية والانتماء والوفاء، وأن تجدد دائماً الحلم والمشروع الوطني في الاستقلال وبناء الدولة، فالذاكرة الوطنية الفلسطينية هي الفضاء العربي الفلسطيني الذي يجمع كل الأجيال على مدى عمر القضية.
وكأن لسان حال كل فلسطيني على امتداد الوطن يؤكد: «سأبقى دائماً احفر جميع فصول مأساتي، وكل مراحل النكبة.. من الحبة.. إلى القبة على زيتونة في ساحة الدار.».
لذلك كله نثبت بالعنوان الكبير العريض: إن الحفاظ على ذكرى النكبة بكافة ملفاتها، وعلى ذاكرتها لدى الشعب العربي الفلسطيني، وفي الوعي الجمعي العربي هو بمثابة سلاح التدمير الشامل في مواجهة بلدوزر الاقتلاع والتجريف والإلغاء.. والعبث بحقائق التاريخ والجغرافيا والحضارة والتراث.
* كاتب فلسطيني
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

15 شهيدا بينهم أطفال بمجزرة إسرائيلية في مدرسة تؤوي نازحين في جباليا
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام ارتكبت قوات الاحتلال الإسرائيلي، مجزرة فجر اليوم الاثنين، بعدما استهدفت مدرسة تؤوي نازحين في جباليا البلد شمال غزة،...

تحذير أمني من تكرار جيش الاحتلال الاتصال بأهالي غزة وجمع معلومات عنهم
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام حذرت منصة أمن المقاومة (الحارس)، الأحد، من تكرار جيش الاحتلال أسلوبا خداعيا عبر الاتصال على المواطنين من أرقام تُظهر...

الزغاري: نرفض المساس بحقوق أسرانا وعائلاتهم
رام الله – المركز الفلسطيني للإعلام قال رئيس جمعية "نادي الأسير الفلسطيني" الحقوقية، عبد الله الزغاري، إنّ صون كرامة أسرانا وحقوق عائلاتهم يشكّل...

الأورومتوسطي: حديث نتنياهو عن مواصلة هدم بيوت غزة نسخة معاصرة للتطهير العرقي
جنيف – المركز الفلسطيني للإعلام قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، إن حديث رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، عن أن "إسرائيل ستواصل تدمير بيوت...

حماس تعلن نيتها إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي مزدوج الجنسية الأميركية عيدان ألكسندر
الدوحة – المركز الفلسطيني للإعلام قال رئيس حركة "حماس" في غزة، رئيس الوفد المفاوض، خليل الحية، الأحد، إنه "في إطار الجهود التي يبذلها الإخوة الوسطاء...

البرلمان العربي يدعو لتأمين ممرات إنسانية عاجلة إلى غزة
القاهرة – المركز الفلسطيني للإعلام وجه البرلمان العربي رسائل عاجلة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، والمفوض السامي لحقوق الإنسان، والمديرة...

نتنياهو: سنضم 30% من الضفة الغربية
رام الله – المركز الفلسطيني للإعلام قال رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إن تل أبيب "ستكون قادرة على ضمّ 30%" من الضفة الغربية....