عاجل

الإثنين 12/مايو/2025

تراجع الدور الأمريكي بالمنطقة لا يقلل من مخاطر الحرب

تراجع الدور الأمريكي بالمنطقة لا يقلل من مخاطر الحرب

صحيفة القدس العربي اللندنية

ثمة شعور متسع وشواهد متزايدة على تناقص فعالية الدور الأمريكي في سياسات الشرق العربي ـ الإسلامي وتوجهاته. اللافت للانتباه أن دول المنطقة وقواها السياسية، بما في ذلك تلك التي تربطها علاقات وثيقة بواشنطن، أخذت خلال الأشهر القليلة الماضية في التعامل مع عدد من الملفات الهامة بدون أن تأخذ الموقف الأمريكي في الاعتبار.

هذا لا يعني بالتأكيد أن حلفاء واشنطن تحولوا فجأة إلى خصوم؛ ولكن الواضح أن هؤلاء الحلفاء باتوا على قناعة بضعف التأثير الأمريكي في مجريات الأحداث، سواء لأن الإخفاقات المتكررة لسياسات إدارة الرئيس بوش قد أصابت دور واشنطن الشرق ـ أوسطي بالشلل، أو لأن هذه الإدارة تسير حثيثاً نحو الأفول. ولكن من الضروري، علي أية حال، عدم إغفال الملف المتبقي، الأكثر تعقيداً وخطراً على أجندة إدارة الرئيس بوش: ضربة أمريكية عسكرية لإيران؛ إذ أن تراجع الدور الأمريكي لا يعني أن احتمال الحرب قد سقط نهائياً.

مثلت الوساطة التركية بين سورية والدولة العبرية أحد أبرز مظاهر تراجع الدور الأمريكي خلال الشهور القليلة الماضية. هناك مؤشرات عديدة بالطبع على أن فكرة استئناف مباحثات السلام في مسارها السوري ـ الإسرائيلي لم تكن ابتكاراً تركياً، وأن أكثر من دولة وجهة بذلت جهوداً متفاوتة من أجل تحقيق هذا الهدف طوال العام الماضي، بينها ألمانيا، إسبانيا، البرازيل، وربما مصر أيضاً. ولكن دمشق كما يبدو، ولأسباب عديدة، فضلت الوساطة التركية. المدهش في الأمر أن الإسرائيليين لم يقبلوا الدور التركي وحسب، بل استجابوا أيضاً للوساطة، وبدون إدخال الأمريكيين على الخط، حتى بدا أن واشنطن أدركت حجم التقدم في المباحثات الدائرة في العاصمة العثمانية السابقة اسطنبول عندما أعلنت التفاصيل في وسائل الإعلام. الأتراك، من جانبهم، يتبعون سياسة مستقلة إلى حد كبير عن الحليف الأمريكي، وبالنظر إلى أن تركيا تبرز باعتبارها قوة إقليمية نشطة، وأنها تبذل جهوداً حثيثة لتأسيس علاقات وثيقة بجوارها العربي، لم يكن من المستغرب أن تقوم حكومتها بهذا الدور، سواء جاء طلب الوساطة من السوريين والإسرائيليين، أو أنها تمت بمبادرة من حكومة أردوغان.

ليس من الصعب قراءة الدوافع السورية خلف هذا الاهتمام المفاجئ باستئناف المباحثات مع الإسرائيليين. أحد الأسباب ربما يتعلق بمخاوف دمشق من الإيحاءات التي استبطنتها مقاطعة مصر والسعودية السافرة لمؤتمر القمة العربي المنعقد في العاصمة السورية قبل شهرين؛ واحتمال أن تكون الدولتان العربيتان الكبيرتان، اللتان ارتبطتا وسورية بمحور عمل ثلاثي شكل مركز السياسة العربية لأكثر من عقد، قد كشفتا الغطاء كلية عن الشقيقة العربية. وفي ظل التوتر المتفاقم في لبنان، الذي اتهمت سورية طويلاً بأنها الطرف المحرك لأزمته، والتهديدات المتكررة لإيران، بدا وكأن سورية ليست بعيدة تماماً عن دائرة الاستهداف الأمريكي ـ الإسرائيلي. لمواجهة الضغوط والمخاطر المتزايدة، وتمضية الشهور المتبقية من إدارة بوش، تحركت دمشق نحو استئناف مباحثات السلام، وبذلت جهوداً ملموسة لتسهيل انتخاب رئيس جمهورية لبنان.

إسرائيلياً، الواضح أن قناة التفاوض مع سورية ظلت في مرحلتها الأولى محصورة بمكتب رئيس الوزراء أولمرت؛ مما يثير شكوكاً حول حقيقة موقف شركائه في الحكومة، سواء من حزب العمل الإسرائيلي أو من قيادات حزب كاديما الأخرى (مثل وزيرة الخارجية ليفني)، من العملية برمتها. ولكن دوافع أولمرت هي مزيج من الشخصي والسياسي. على المستوى الشخصي، أخذ رئيس الوزراء الإسرائيلي يواجه عدداً من المشاكل المتعلقة بنزاهته وقدرته على الاستمرار في موقعه منذ بداية العام، وليس ثمة شك أن فتح مسار سلام إضافي مع سورية يعطي الانطباع بأن استمرار أولمرت في رئاسة الوزراء ضرورة استراتيجية لمستقبل الدولة العبرية. على المستوى السياسي، يوفر تنشيط المسار السورية ورقة ضغط على المسار الفلسطيني، سواء على المفاوض الفلسطيني أو على الوسيط الأمريكي؛ كما يوفر خيار سلام احتياطياً في حال وصلت المفاوضات مع الفلسطينيين إلى طريق مسدود.

بيد أن التنبؤ بالمدى الذي يمكن للمفاوضات السورية ـ الإسرائيلية الوصول إليه ليس أمراً سهلاً. الدوافع الآنية خلف أطراف العملية تفرض سقفاً منخفضاً للتوقعات؛ ولكن من غير المستبعد أن تولد الاتصالات الأولية قوة دفع خاصة بها، سيما وأن الدلائل تشير إلى أن المسافة بين الطرفين في المسار الفلسطيني لا تزال بعيدة. المهم، أن لا الأتراك، ولا الإسرائيليين والسوريين، وجد من الضروري إدخال الأمريكيين إلى قناة التفاوض، ولا حتى اطلاعهم في صورة مبكرة على مجريات الوساطة والاتصالات.

في الملف اللبناني، اختلفت التفاصيل ولم تختلف الدلالات. فمنذ اندلاع الأزمة اللبنانية الداخلية، انقسمت القوى السياسية اللبنانية بين معسكرين، لم يخف أحدهما تحالفه مع الولايات المتحدة، بينما تحالف الثاني مع سورية وإيران. ما حدث خلال الشهر الماضي أن الأزمة تفاقمت بعد إصدار حكومة الأكثرية قرارين مناهضين لحزب الله، وقيام الأخير باجتياح مواقع ومكاتب تيار المستقبل وحلفائه في بيروت الغربية، ومن ثم تهديد مواقع أخرى في المنطقة الدرزية من جبل لبنان. في لحظة انفجار الأزمة، عجزت الولايات المتحدة عن حماية أصدقائها، وتركتهم مكشوفين تماماً أمام الهجمة الخاطفة التي قام بها حزب الله وحلفاؤه. ما حدث بعد ذلك بات معروفاً. أدركت قوى الأكثرية حراجة موقفها، فوافقت على التدخل العربي، الذي جاء مستقلاً كلية تقريباً عن الإرادة الأمريكية. وكان طبيعياً أن تأخذ الوساطة العربية ميزان القوى الجديد في الاعتبار؛ فجاء كل من اتفاق بيروت (فينيسيا) التمهيدي، ثم اتفاق الدوحة، أقرب إلى تحقيق مطالب المعارضة منه إلى مطالب الأكثرية، بدون أن يسمحا بدفع الأكثرية إلى موقع الهزيمة. وبنجاح الوساطة العربية، انتخب رئيس للجمهورية، وانطلقت عملية تشكيل حكومة وحدة وطنية، تقود البلاد إلى انتخابات برلمانية جديدة في العام القادم.

لا الوساطة العربية المستقلة، ولا اتفاقي بيروت والدوحة، كانا تطوراً مرحباً به في واشنطن؛ وفي ظل ظروف مختلفة، ما كان للأكثرية اللبنانية أن تقبل بما قبلت به في اتفاقي بيروت والدوحة. ولكن ما اتضح خلال أيام انفجار الأزمة أن قدرة الولايات المتحدة على التأثير في مجريات الأوضاع كانت محدودة إلى حد كبير؛ وهو الأمر الذي أسس للوساطة العربية، ودفع بالتالي باتجاه حل بني على تفاهم لبناني داخلي وتوازنات عربية.

وما يشهده ملفا مسار السلام السوري ـ الإسرائيلي والأزمة اللبنانية، أخذت بوادره في الظهور في متعلقات المسألة العراقية. فالمفاوضات الجارية حول المعاهدة الأمريكية ـ العراقية طويلة الأجل، التي بدت قبل شهور وكأنها مجرد تطور روتيني في العلاقة بين واشنطن والطبقة العراقية الحاكمة، الحليفة للولايات المتحدة، تحولت إلى شأن بالغ التعقيد والصعوبة. ما أن تسرب نص المسودة الأمريكية حتى انفجرت معارضة المعاهدة من كل جانب وطرف، داخل العراق وفي جواره. وبالنظر إلى النفوذ الإيراني الهائل في صفوف القوى السياسية الشيعية الحاكمة في بغداد، فليس ثمة شك أن موقف طهران المعلن والصريح ضد المعاهدة سيكون له بالغ الأثر في تحديد مصير المعاهدة ومصير العراقيين المسؤولين عن توقيعها أو رفضها. ما أبقى المالكي في الحكم طوال الأعوام الثلاثة الماضية لم يكن صعوبة إيجاد بديل له وحسب، بل أيضاً استجابته غير المشروطة للمطالب الأمريكية منه. ولكن المالكي اليوم يبدي تردداً ملموساً في القبول بالمقترح الأمريكي للمعاهدة، بينما تري طهران أن هناك فرصة حقيقية لمنع حلفائها العراقيين من التوقيع.

مثل هذا التراجع في قدرة واشنطن علي فرض إرادتها السياسية لا يعني انسحاباً كلياً من ملفات المنطقة الساخنة. فالإدارة الأمريكية ما تزال تأمل في دفع المباحثات الفلسطينية ـ الإسرائيلية نحو اتفاق إطار جديد؛ كما تمارس ضغوطاً متزايدة من أجل إفراغ مبادرة عباس للحوار الوطني من محتواها، أو على الأقل وضع المصالحة الفلسطينية الداخلية على نار هادئة. من جهة أخرى، لم تزل واشنطن طرفاً أساسياً في تطور الوضع اللبناني بعد اتفاق الدوحة، كما أن الجهود الأمريكية تصب في اتجاه تأجيل إعادة الدفء إلى العلاقات السورية بكل من مصر والسعودية. ولكن الملف الأبرز المتبقي في أجندة إدارة الرئيس بوش الشرق ـ أوسطية هو بالتأكيد الملف الإيراني. التقديرات التي تستبعد ضربة أمريكية لإيران تبني حساباتها على مسألتين هامتين: الأولى، أن ما تبقى من عمر الإدارة الأمريكية الحالية ليس أكثر من شهور قليلة، لا تكفي بالضرورة لتحضير الرأي العام الأمريكي لحرب جديدة في الشرق الأوسط، ولا تعطي الرئيس الأمريكي قاعدة معنوية كافية لأخذ قرار بهذا الحجم. والثانية، أن هناك معارضة ملموسة لفكرة الضربة لإيران في صفوف الدوائر العسكرية والاستخباراتية الأمريكية، تستند إلى المبدأ الاستراتيجي المعروف بأن من يبدأ الحرب لا يتحكم بالضرورة في نهايتها، وأن حرباً محدودة على إيران قد تتسع لتهدد جملة من المصالح الأمريكية في الجوار، بما في ذلك الوجود الأمريكي العسكري في العراق. في الجانب الآخر، ينبغي ملاحظة التوكيد المستمر من إدارة الرئيس بوش على الأولوية القصوى للملف النووي الإيراني، والاعتقاد الواسع في أوساط أنصار الحرب بأن هذا الملف سيخرج عن نطاق السيطرة والتحكم إن وصلت إلى البيت الأبيض إدارة ديمقراطية. الرئيس الأمريكي يبقى رئيساً كامل الصلاحيات حتى اليوم الأخير لوجوده في البيت الأبيض، وليس من المستبعد أن ترى بعض الدوائر الجمهورية النافذة أن ضربة محدودة لإيران قد تعزز فرص المرشح الجمهوري للرئاسة، الذي تبدو حظوظه في الفوز محل شك على أية حال. ما لا يقل أهمية، بالطبع، أن هناك ترابطاً واضحاً بين ملفات المنطقة، من لبنان وفلسطين إلى سورية والعراق، حيث تبرز إيران باعتبارها المشترك الأعظم، ويسود الاعتقاد لدى بعض من أركان الإدارة الأمريكية الحالية بأن توازن القوى الإقليمي المضطرب لصالح إيران يتطلب تصحيحاً جراحياً سريعاً.

بكلمة أخرى، التراجع في الدور الأمريكي الشرق ـ أوسطي هو تطور ذو وجهين؛ أحدهما يوفر نافذة مفتوحة للتعامل مع بعض من الأزمات الشائكة، والآخر يحمل تهديداً بالتصعيد.

* كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات